إن عاقبة الصدق حميدة في الدنيا والآخرة وثمراته كثيرة وعظيمة، وإن مدار القبول والثواب عند الله عز وجل على الصدق والإخلاص . وعكس ذلك الكذب الذي هو أساس الفجور والفساد والهلاك.

الصدق أصل أعمال القلوب كلها

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (إياك والكذب فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس؛ فإن الكاذب يصور المعدوم موجودا والموجود معدوما، والحق باطلا والباطل حقا، والخير شرا والشر خيرا؛ فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له ، ثم يصور ذلك في نفس المخاطب المغتر به الراكن إليه فيفسد عليه تصوره وعلمه.

ونفس الكاذب معرضة عن الحقيقة الموجودة، نزاعة إلى العدم، مؤثرة للباطل، وإذا فسدت عليه قوة تصوره وعلمه التي هي مبدأ كل فعل إرادي فسدت عليه تلك الأفعال وسری حكم الكذب إليها؛ فصار صدورها عنه کصدور الكذب عن اللسان فلا ينتفع بلسانه ولا بأعماله: ولهذا كان الكذب أساس الفجور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار»1(1) رواه البخاري (6094) ومسلم (2607) واللفظ له . .

وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله ؛ فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله فيستحكم عليه الفساد ويترامی داؤه إلى الهلكة إن لم يتدارکه الله بدواء الصدق يقلع تلك المادة من أصلها.

ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق، وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب ؛ فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق ، وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب.

والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119])2(2) الفوائد ص135..

من ثمرات الصدق

الحصول على الأجر العظيم والثواب الجزيل عند الله عز وجل

إن الأعمال التي يصدق فيها صاحبها مع الله عز وجل ويبتغي بها وجهه سبحانه هي التي يبقى ذخرها ونفعها يوم القيامة ، قال الله تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة: 119].

يقول القرطبي عند تفسير هذه الآية: (وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه) .

ويقول الإمام الطبري عند هذه الآية: (﴿يَنفَعُ الصَّادِقِينَ﴾ في الدنيا، ﴿صِدْقُهُمْ﴾ ذلك في الآخرة عند الله ، ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ يقول: للصادقين في الدنيا جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة ثوابا لهم من الله عز وجل، على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه، فوفوا به لله، فوفى الله عز وجل لهم ما وعدهم من ثوابه)3(3) تفسير الطبري (7 / 142) طبعة الحلبي ..

الطمأنينة والسكينة والثبات

من علامات الصدق العظيمة التي يثمرها الصدق مع الله عز وجل في الأحوال كلها، ومن آثار الطمأنينة والسكينة في القلب عدم اضطرابه وتقلبه عند ثورة الشبهات أو الشهوات ، بل يبقى ثابتا مطمئنا لا تزعزعه الفتن ولا تقلقه البلايا والنوازل؛ وذلك لما في قلبه من الصدق الذي صار به مطمئنا مقتنعا بما يعتقد، تزول الجبال ولا تزول هذه القناعة من قلبه ؛ بعكس القلوب المريضة المليئة بالكذب والريبة فلا تراها إلا مضطربة لا تثبت على شيء ولا تتماسك أمام فتن الشبهات أو الشهوات، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: «والصدق طمأنينة، والكذب ريبة»4(4) مسند أحمد  3/171..

وقد أورد الإمام ابن القيم رحمه الله تعالی کلاما نفيسا حول هذا المعنى فقال: تحت قوله: (﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [إبراهيم: 27] ، کنز عظيم من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم، وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين، فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما.

وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه وعبده ورسوله: ﴿وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:78]، وقال تعالى لأكرم خلقه: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأنفال: 12].

وفي الصحيحين من حديث البجلي قال: «وهو يسألهم ويثبتهم»5 (5) أحمد : 2/ 398، والترمذي ك صفة الجنة (2560) : 7/ 234 عن أبي هريرة ، وصححه الترمذي وأحمد شاكر (8803): 17 / 13 . وأصله في الصحيحين بغير الجملة المذكورة هنا . وليس هو من حديث البجلي وإنما ورد من حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم. ، وقال تعالى لرسوله: ﴿وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: 120].

فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت، ومادة التثبيت أصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أمر به الله ، فبهما يثبت الله عبده، فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء:66]، فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا، والقول الثابت هو القول الحق والصدق، وهو ضد القول الباطل الكذب ؛ فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له، وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها، فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة؛ ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا، والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا وأقلهم ثباتا، وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الإخبار وشجاعته و مهابته، ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة .

وسئل بعضهم عن کلام سمعه من متکلم به ، فقال: والله ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل، فما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الثابت، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم، كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر)6(6) أعلام الموقعين 1/176-177..

مما سبق يتبين لنا أهمية الصدق مع الله عز وجل ومراقبته في جلب السكينة والطمأنينة، وهذه الثمرة العظيمة هي محك اليقين والإيمان الحق، ولا تظهر أو تختفي إلا حين الشدائد وثوران الشهوات و الشبهات أو الخوف والطمع وقد ظهر في قصة الذين خرجوا مع طالوت وتساقطوا فئة فئة أمام الامتحان، ولم يثبت إلا الصادقون الموقنون بلقاء الله عز وجل: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 249].

قال القرطبي عند تفسير هذه الآية: (قال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله تعالی عند ذلك وهم عدة أهل بدر: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ… ﴾.

قال ابن عباس والسدي: جاز معه النهر أربعة آلاف رجل فيهم من شرب، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده وكانوا مائة ألف كلهم شاكون في السلاح رجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون)7(7) تفسير القرطبي آية 490 من سورة البقرة..

والحاصل: أن الثبات والطمأنينة أمام الخوف والطمع وأمام فتن الشبهات والشهوات ، لا تتم وتكون إلا بالصدق في عبادة الله عز وجل واتباع محمد صلى الله عليه وسلم والاستعداد الصادق للقاء الله سبحانه .

نسأل الله تعالى أن يربط على قلوبنا بالإيمان الصادق ، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فهو سبحانه الذي بيده قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، وينزل السكينة على من يشاء ويصرفها عمن يشاء بعلمه وحكمته؛ فلا يثبت إلا من ثبته الله عز وجل وعلم منه صدق التوجه واللجوء إليه سبحانه .

وعلى العبد أن لا يعرض نفسه للفتن والبلايا لأنه لا يدري ما تكون حاله حينئذ، بل يسأل الله عز وجل العافية، كما يسأله الصبر والثبات عند نزولها.

الهوامش

(1) رواه البخاري (6094) ومسلم (2607) واللفظ له .

(2) الفوائد ص135.

(3) تفسير الطبري (7 / 142) طبعة الحلبي .

(4) مسند أحمد  3/171.

(5) أحمد : 2/ 398، والترمذي ك صفة الجنة (2560) : 7/ 234 عن أبي هريرة ، وصححه الترمذي وأحمد شاكر (8803): 17 / 13 . وأصله في الصحيحين بغير الجملة المذكورة هنا . وليس هو من حديث البجلي وإنما ورد من حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.

(6) أعلام الموقعين 1/176-177.

(7) تفسير القرطبي آية 490 من سورة البقرة.

اقرأ أيضا

نظرات تربوية في خلق الصدق .. حقيقته وأنواعه

خُلق الصدق .. فضله وأهميته

نماذج مضيئة للصدق مع الله والنفس والخلق

 

التعليقات غير متاحة