الإخلاص والصدق قرينان في الطريق الى الله تعالى، من خالف الإخلاص أشرك، ومن خالف الصدق كذب ونفق. والجنة دارٌ لا يسكنها مشرك ولا منافق.

حقيقة الصدق

إن حقيقة الصدق أوسع من كونها الصدق في الحديث فقط، وإنما حقيقة الصدق شاملة لصدق النية والعزيمة، وصدق اللسان، وصدق الأعمال. يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

“ومما ينبغي أن يُعرف أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي الأعمال، كقول النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح: «كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه»”. (1أمراض القلب وشفاؤها، لابن تيمية ص41)

ويفصّل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى القول في هذا المعنى؛ فيقول:

“والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارِب للآخر.

وأخبر سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه قال تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة:119] وقال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر: 33]، فالذي جاء بالصدق هو مَن شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله، والصدق إنما يكون في هذه الثلاثة:

فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها.

والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد.

والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الأخلاق، واستفراغ الوسع وبذل الطاقة.

فبذلك يكون العبد مِن الذين جاءوا بالصدق، وبحسب كمال هذه الأمور فيه، وقيامها به تكون صِدّيقيته ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ذروة سنام الصِّديقية فسُمي (الصدّيق) على الإطلاق، و(الصدّيق) أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول، صلى الله عليه وسلم، مع كمال الإخلاص للمُرْسِل». (2مدارج السالكين، 2/ 269)

الفرق بين الصدق والإخلاص

“الصدق” و”الإخلاص” عملان قلبيان من أعظم أعمال القلوب، وأهم أصول الإيمان، فأما “الصدق” فهو الفرقان بين الإيمان والنفاق، وأما “الإخلاص” فهو الفرقان بين التوحيد والشرك في قول القلب واعتقاده أو في إرادته ونيته. والأعمال التي رأسها وأعظمها «شهادة أن لا إله إلا الله» لا تقبل إلا بتحقيق الصدق والإخلاص.

ومن هنا كان الصدق والإخلاص شرطين من شروطها.

والصدق والإخلاص مع تقارب ترادفهما أحياناً يميز بينهما بتعريف ضد كل منهما:

فـ “الصدق” ضده انتفاء إرادة الله بالعمل أصلاً، كمن آمن وصلى كاذباً ولم يُرد الإيمان والصلاة، وإنما فعل ذلك لسبب آخر؛ كما فعله المنافقون حفظاً لأنفسهم وأموالهم من السيف، وجُبناً عن تحمل أعباء المواجهة الصريحة للإيمان.

و”الإخلاص” ضده انتفاء إفراد الله بالإرادة والتوجه، كمن آمن أو صلى صارفاً ذلك لأحد مع الله؛ وهذا هو الشرك الذي وقع فيه أكثر العالمين، وعلى قدر ما يحقق العبد الإخلاص لربه يكون ترقّيه في «المخلَصين» الذين صرف الله عنهم غواية الشياطين وأثنى عليهم في كل أمة”. (3ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر ص 438)

أنواع الصدق

وعلى ضوء ما سبق يتضح أن الصدق أنواع ومراتب تتجلى فيما يلي:

صدق النية

وذلك بأن تكون النية خالصة لله عز وجل وابتغاء مرضاته، وأن لا يكون هناك باعث في الحركات والسكنات إلا مرضاة الله عز وجل، فإن شاب النيةَ شيءٌ من حظوظها لم تكن صادقة، وإن تكلم العبد بلسانه خلاف ما في قلبه فهذا أيضاً دليل على عدم الصدق في النية، والأدلة في ذلك كثيرة منها قوله تعالى في وصف المنافقين: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِيقُلُوبِهِمْ﴾ [الفتح: 1] وقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ﴾ [هود: 15-16].

ومن الصدق في النية: الصدق في “العزيمة” على الفعل إذا تمكن منه، لأن النية قد تكون صادقة، لكن العزيمة على الفعل ضعيفة وصاحبها متردد، وقد تكون العزيمة صادقة، لكن إذا جد الجد، وعزم الأمر، وهاجت الشهوات خارت وضعفت، ولم يحصل الوفاء بالعزيمة، وقد لا تضعف في البداية لكن إذا باشرت الفعل وذاقت مرارته ضعفت وخارت، والموفَّق من وفقه الله تعالى وأمده بعونه ورحمته، ولو وُكِل العبد إلى نفسه ضاع وهلك، فيا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً.

الصدق في الأقوال

وذلك لا يكون إلا في الأخبار، أو ما يتضمن الإخبار، والخبر إما أن يتعلق بالماضي فلا يخبر عن الأشياء على خلاف ما هي عليه، أو بالمستقبل كالوفاء بالوعد والعهد. (4إحياء علوم الدين 4/ 533)

وهذه المرتبة من الصدق هي التي يحصر كثير من الناس الصدق فيها، ولا يتجاوزونها إلى غيرها، ولا شك أنها مرتبة عظيمة وتكميلها من أعز الأمور وأشقها على النفس، ولكنها يسيرة على من يسرها الله عليه، وجاهد نفسه في تحقيقها.

صور من الصدق في الأقوال

والصدق في الأقوال له صور عديدة منها:

الصدق في نقل الأخبار

فلا ينقل المسلم إلا الأخبار الصادقة، وهذا بدوره يتطلب من الناقل التثبت فيما يقال، واجتناب الظنون والأوهام والحذر من التحدث بكل ما يُسْمَعُ، قال، صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» (5البخاري 9/ 171)، وقال: «كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع» (6صحيح مسلم، المقدمة).

الصدق في الوعد

لأن إعطاء الوعد غالباً ما يكون بالقول، فالوفاء بالوعد من الصدق في الأقوال، وإخلافه يعد كذباً ـ إلا إذا كانت النية عند إعطاء الوعد صادقة ثم حال بينه وبين تنفيذ الوعد أمر خارج عن إرادته، فإن هذا لا يعد إخلافاً للوعد وبالتالي لا يعتبر كذباً ـ لقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا﴾ [مريم: 54].

الوفاء بالعقود والعهود

وهذا أيضاً من الصدق في الأقوال، فإخلاف العهد والغدر فيه من أشد أنواع الكذب؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1] وقال تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ [البقرة: 177].

ومن الوفاء بالعهد حفظ الأسرار وكتمانها، ولعل قوله، صلى الله عليه وسلم، في التحذير من صفات المنافقين خير شاهد لما سبق ذكره، يقول صلى الله عليه وسلم: «أربع من كُنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». (7متفق عليه)

الصدق في الأعمال

وهو استواء الأفعال على الأمر والمتابعة، وأن يجاهد العبد نفسه في أن تكون سريرته وعلانتيه واحدة، وأن لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف به حقيقة: كمن يتظاهر بالخشوع في الظاهر والقلب ليس كذلك، أو يتظاهر بالحرقة على الدين والغيرة على المحارم وهو في الباطن ليس كذلك.

والصور كثيرة جداً فمنها صور الرياء المختلفة، والقول باللسان ما ليس في القلب، وهذا لا يعني أن يترك المرء الأعمال الصالحة حتى يُصلح باطنه، كلا ولكن يجاهد نفسه في أن يستحيل باطنه إلى تصديق ظاهره، يقول صاحب الإحياء:

“إن مخالفة الظاهر للباطن إن كانت عن قصد سُميت رياء ويفوت بها الإخلاص، وإن كانت عن غير قصد فيفوت بها الصدق. وقال يزيد بن الحارث: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النّصَفُ، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجوْر، وقال معاوية بن مرة: من يدلني على بكّاء في الليل بسّام في النهار؟”. (8إحياء علوم الدين، ج4/ 351)

الصدق في مقامات الدين

وهو أعلى الدرجات وأعزها، الصدق في مقامات الدين كالصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر هذه الأمور فإن هذه الأمور مباديء ينطلق الاسم بظهورها، ثم لها غايات وحقائق. والصادق المحقق من نال حقيقتها.

وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقاً فيه، كما يقال: فلان صدَق القتالَ، ويقال: هذا هو الخوف الصادق وهذه هي الشهوة الصادقة. وقال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ إلى قوله ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: 15] وقال: ﴿وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إلى قوله: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ [البقرة: 177].

خاتمة

أفلح من صدق الطريقَ والمأخذ، وصدَق ربَّه تعالى فيما التزم من دينه وادَّعى من عبوديته.

أفلح من جَدَّ في الطريق وجمع العزم على ربه تعالى وعبوديته. فقد شمل الصدق الدين كله وقد أفلح من دخل في زمرته.

………………………………………

الهوامش:

  1. أمراض القلب وشفاؤها، لابن تيمية ص41.
  2. مدارج السالكين، 2/ 269.
  3. ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر ص 438.
  4. إحياء علوم الدين 4/ 533.
  5. البخاري 9/ 171.
  6. صحيح مسلم، المقدمة.
  7. متفق عليه.
  8. إحياء علوم الدين، ج4/ 351.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة