ثمة أشخاص فازوا بالثبات وبيان الحق في مواقف مفصلية؛ لم يضعفوا أو يستكينوا ولم يُخْفوا الحق بل أعلنوه مستهترين بوعيد الباطل واثقين بوعد الله.

المختارون في كتاب الله

غالب من يذكرهم القرآن من عموم المؤمنين هم أشخاص لهم موقف قوي في اختيار الحق وإيثاره على الباطل، والدفاع عن الحق وإعلان الحجة، وإسقاط هيبة الباطل من القلب، ومن الواقع.

ولننظر في نماذج اختارها كتاب الله تعالى ليعرضها للبشرية الى يوم القيامة، تتلوها الملايين من المؤمنين إثر الملايين، والأجيال إثر الأجيال.

أمثلة عبر التاريخ

سحرة فرعون

يصْدُق هذا الوصف على نماذج كثيرة ومن أبرزها نموذج سحرة فرعون، قال السلف: «كانوا أول النهار سحرة فجرة ثم آخر النهار شهداء بررة».

أيُّ قوة يتحولون بها من مرتزقة متسوِّلين متزلفين للقرب من فرعون؛ إلى قوم كرام .. كبار .. معلِّمين .. أساتذة .. يأمرون فرعون وينهونه .. يستصغرونه ويضعونه حيث وضعه الله .. في مكانه الطبيعي .. عبد ضعيف .. ينصحونه ويشفقون عليه .. ويعرضون طعم النعمة التي ذاقوها يرجون أن لو ذاقها..؟!

أي قوة..؟ أي إيمان وليد موقف ـ على غير العادة ـ لكنها لحظة اختيار نجحوا فيها وآثرهم بها رب العالمين.

أي إيمان..؟ أي وضوح..؟ أي رغبة في الآخرة غلبت عليهم فهان عليهم كل شيء..؟

أصحاب الأخدود

وإخوانهم أصحاب الأخدود.. رغم أن السحرة على شريعة موسى وأصحاب الأخدود على شريعة المسيح؛ لكنهم كلٌ آمن بربه فوحده ولم يشرك به شيئًا واتبع الشريعة التي أُمر بها في زمانه.. فهم إخوان على طريق واحد.

نفس الاختيار .. ونفس الاستعلاء على الباطل فاستعلوا على حريق النار.

يقول الأستاذ سيد قطب: «وتبدأ الإشارة إلى الحادث بإعلان النقمة على أصحاب الأخدود: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ (البروج:4)، وهي كلمة تدل على الغضب، غضب الله على الفعلة وفاعليها، كما تدل على شناعة الذنب الذي يثير غضب الحليم، ونقمته، ووعيده بالقتل لفاعليه.

ثم يجيء تفسير الأخدود: ﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ (البروج:5) والأخدود: الشق في الأرض. وكان أصحابه قد شقوه وأوقدوا فيه النار حتى ملأوه نارًا، فصارت النار بدلاً في التعبير من الأخدود للإيحاء بتلهب النار فيه كله وتوقدها.

قُتل أصحاب الأخدود، واستحقوا هذه النقمة وهذا الغضب، في الحالة التي كانوا عليها وهم يرتكبون ذلك الإثم، ويزاولون تلك الجريمة: ﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ. وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ (البروج:6-7)، وهو تعبير يصور موقفهم ومشهدهم؛ وهم يوقدون النار، ويلقون بالمؤمنين والمؤمنات فيها وهم قعود على النار، قريبون من عملية التعذيب البشعة؛ يشاهدون أطوار التعذيب، وفعْل النار في الأجسام في لذة وسعار، كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع..!

وما كان للمؤمنين من ذنب عندهم ولا ثأر: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (البروج:8-9)، فهذه جريمتهم أنهم آمنوا بالله، العزيز: القادر على ما يريد، الحميد: المستحق للحمد في كل حال، والمحمود بذاته ولو لم يحمده الجهال..! وهو الحقيق بالإيمان وبالعبودية له. وهو وحده الذي له ملك السماوات والأرض وهو يشهد كل شيء وتتعلق به إرادته تعلق الحضور.

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ (البروج:10-11).

ثم هو الشهيد على ما كان من أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود . وهذه لمسة تطمْئن قلوب المؤمنين، وتهدد العتاة المتجبرين. فالله كان شهيدًا، وكفى بالله شهيدًا. وتنتهي رواية الحادث في هذه الآيات القصار، التي تملأ القلب بشحنة من الكراهية لبشاعة الفعلة وفاعليها، كما تستجيش فيه التأمل فيما وراء الحادث ووزنه عند الله وما استحقه من نقمته وغضبه. فهو أمر لم ينته بعد عند هذا الحد، ووراءه في حساب الله ما وراءه.

كذلك تنتهي رواية الحادث وقد ملأت القلب بالروعة. روعة الإيمان المستعلِي على الفتنة، والعقيدة المنتصرة على الحياة، والانطلاق المتجرد من أوهاق الجسم وجاذبية الأرض. فقد كان في مُكْنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم. ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة..؟

وكم كانت البشرية كلها تخسر..؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير: معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد..! إنه معنى كريم جدًا ومعنى كبير جدًا هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض. ربِحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار..؟ وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب، ولأعدائهم الطاغين حساب». (1سيد قطب في ظلال القرآن)

صوتٌ داوٍ بالحق

أو رَجُلٌ انبرى يدافع عن هذا الدين وسط الأفاعي.. مؤمن آل فرعون؛ لم يعبأ بشئ وهو في بلاط فرعون؛ تستولي على قلبه هيبة الله ويحدوه علمه بسننه: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر: 28]، ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا﴾..؟ [غافر: 29].

مشفق ناصح: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد﴾ [غافر: 30-33].

﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [غافر: 38-40].

﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر: 41-43].

واثق ومتوكل: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر: 44].

فيفوز بالدارين ويصدّق الله كلامه ويعلي شأنه، ويخسر عدوه: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 45].

من أين جاء بهذا العلم، وبهذه القوة..؟ وبهذا القلب الندي المتصل بالله تعالى وبهذا اليقين العجيب..؟

وكيف كانت هذه الثقة في ربه وفى وعده..؟

وكيف هذا النصح والشفقة وحب الخير للخلق..؟

فلتنظر في هذه المعاني؛ ففيها نبع من الخير والقدوة لا ينتهي.

عندما ينطلق الإيمان بصاحبه

رَجُلٌ(2مؤمن ياسين) يكتم إيمانه؛ لكنه في لحظة ما، لمّا سمع تهديد الرسل يأتي مهرولاً ناصحًا: ﴿وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [يس: 20 – 21].

وضوح في عقيدته، لم تطمس عقيدتَه عقائدُ المتكلمين ولا فروخ المبتدعة من المرجئة والجهمية القدماء أو المعاصرين..!! ﴿وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس: 22].

فيذكر توحيده ربه وموجِب هذا التوحيد أن الله فطره وإليه مرجعه، فيذكر من صفات الربوبية ما يوجب إفراده بالألوهية وتعلق القلب به سبحانه وتعالى وحده.

ويؤكد على ترك الشرك مع بيان سبب بطلانه: ﴿أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [يس: 23-24].

ثم يصيح صيحته “فاسمعون”: ﴿إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ [يس: 25].

خاتمة

هذه مواقف إشهاد يجب الإعداد لها.. يجب أن نتغيّا هذه الصورة؛ وضوح الحق، والإقدام فيه ونصره والثبات عليه.

فهذه المواقف لا بد أن تعد لها زادا طول عمرك؛ فإذا جاء موقف إشهاد أعانك الله وأقمت أمره وشرفت برفع راية الحق وكلمته ومضيت الى ربك صادقا وفيا أمينا.

…………………………….

الهوامش:

  1. سيد قطب في ظلال القرآن.
  2. مؤمن ياسين.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة