لأهل العلم دورهم الذي ناطه الله بهم؛ فقد أخذ عليهم الميثاق أن يقولوا الحق ويبيّنوا للناس ما أنزل الله ولا يكتمونه، خاصة في أحرج المواقف الفاصلة للأمة.

وللقيام بهذا الواجب كانت هذه الصيحة من علماء الحرمين الشريفين؛ بيانا وتحذيرا وتنبيها للأمة.

نص البيان

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظلمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده  ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.

أما بعد ..

فإنه لم يعد خافياً ما يجري في بلاد الحرمين  في السنوات الآخيرة من تسارعٍ شديد في وتيرة المنكرات كَمّاً وكيفا، وهذا منذر بخطر كبير وعذاب قد انعقد غمامه إن لم يرحمنا الله عز وجل ويقيم لدينه من ينصره ويعظّم حرماته ويغار على أعراض المسلمين وأخلاقهم.

وعلى سبيل المثال ما يجري من مظاهرةٍ وموالاةٍ لأعداء الله من الغرب والشرق ومعاداة لأولياء الله تعالى وزجّهم في السجون، وما يجري من الإعراض عن شرع الله عز وجل والحكم بغير ما أنزل الله، وما جرى في بلدة “الدرعية” من المجون والرقص والاختلاط، وما تم من فتح دورٍ للسينماء وتطبيع لاختلاط الجنسين في جميع مرافق العمل، وما جرى في “طنطورة” في العلا في المدائن التي هلك فيها قوم صالح المشركون وقال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوها إلا أن تكون باكين» فقلب المفسدون الأمر وتحدّوا فاطر السماوات والأرض وتحذيرات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فأشاعوا فيها الطرب والرقص والمجون عياذا بالله من سخطه وعقوبته.

فاللهم إنا نبرأ إليك من كل هذه المنكرات وغيرها مما يسخطك.

مؤتمر الرابطة .. ودور “أوْلو بقية”

وما قامت به رابطة العالم الإسلامي في مؤتمرها المشؤوم “مؤتمرالضرار” الذي جمع عقائد الكفر والزندقة باسم “الوحدة والتسامح ونبذ الاقصاء”، ولا زال في جعبة المفسدين الكثير من المنكرات التي تهدم التوحيد وتهتك الأعراض وتحارب فيها شرع الله.

وإننا في هذا البيان لنحمّل أنفسنا وأهل العلم والدعوة وأهل القلم والكلمة والغيرة مغبّة ما قد يحصل للبلاد والعباد إن استمر الوضع على ما هو عليه دون انكار واحتساب. يقول الله عزل وجل: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ﴾ [هود: 116].

ويقول سبحانه: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة:62-63].

يقول ابن كثير رحمه الله تعالى عند الآية الأولى:

“يقول تعالى: فهلّا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عن ما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض.

وقوله ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي: قد وجد من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيرا، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته، ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

كما قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:84]“.

ويقول عند تفسير آية المائدة:

“يعني هلّا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك؛ أي السحت وقولهم الإثم. والربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم، والأحبار هم العلماء فقط ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.

وقال علي بن ابي طلحة عن ابن عباس رضى الله عنهما يعني الربانين أنهم بئس ما كان يصنعون في ترْكهم ذلك وروى ابن جرير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: ما في القرآن آيه أشد توبيخاً من هذه الآية ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾.

وقال الضحاك ابن مزاحم: «ما في القرآن آية أخوف عندي منها؛ أن لا ننهي»”. ا.هـ

وأمثال هاتين الآيتين في القرآن كثير.

والمقصود بيان مسؤولية العلماء والدعاة في تحصين المجتمعات المسلمة من شرور المفسدين وما يسعون به في نشر المنكرات ومحاولة فرضها على الناس حتى تألفها النفوس وينعدم من القلوب إنكارها.

خطر المفسدين

والمتابع اليوم لحركات المفسدين وأكابر المجرمين في مجتمعات المسلمين يرى شيئأ خطيراً يجب أن يتنادى أهل العلم والغيرة للتصدي له وتحصين المجتمع من خطره ألا وهو: محاولة المفسدين فرض المنكرات التي يريدونها وجعل المسلمين أمام الأمر الواقع مستغلين في ذلك مناصبهم، ومستغلين سكوت الناس، ومتغافلين ومتجاهلين، وغير مكترثين بإنكار القِلّة من المنكِرين والمحذِّرين من هذه المنكرات، بل والبطش بهم؛ وفي ظنهم أن هذه المنكرات تتلاشى شيئاً فشيئاً؛ بينما هي تتطبع مع الوقت في حياة الناس ويصبح الواقع المنحرف مألوفاً بعد أن كان منكَراً ومبغوضا. وهنا مكمن الخطر؛ إذ إن تحوّل المنكر إلى معروف ومألوفٍ مؤْذنٌ بنزول العذاب، وهو أخطر بمئات المرات من تلبّس بعض الناس له مع كرههم له وشعورهم بالإثم وهم يفعلونه.

إن عذاب الله عز وجل لا ينزل على الناس بمجرد ظهور المعاصي ما دام أن هناك من ينكرها ويبيّن حرمتها؛ وإنما تنزل عقوبة الله على الناس حين تُقنَّن المعاصي ويألفها الناس لعدم وجود من ينكرها؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: 117].

وقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» رواه مسلم

وسائل دفع المنكرات

ودفْعاً لهذا الخطر العظيم ينبغي اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمدافعة أي منكر يراد فرضه في حياة الناس ومنها:

(أولاً): الاحتساب على من يكون وراء إقرار هذا المنكر، وإبراء الذمة بإنكاره، وعدم الرضى به، ومحاولة ثنْيه عن قراره؛ وهذا هو المرتبة الثانية في الإنكار، ألا وهو التغيير باللسان أو الكتابة وتكرار ذلك وعدم اليأس من التغيير والصبر على الأذى في ذلك قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ [لقمان: 17].

(ثانيا): في حالة الإصرار على فرض المنكر وعدم الاستجابة لنصح الناصحين وإنكار المنكرين تُبذل المحاولات في تخفيف آثاره أو تخفيف مفاسده.

(ثالثاً): في حال تجاهل ذلك كله، والبدء في تطبيق المنكر وتنفيذه في المجتمع ـ وهو الحاصل اليوم ـ فإنه يبقى واجبٌ كبيرٌ على المصلِحين؛ ألا وهو تحصين المجتمع من هذا المنكر، وبيان حرمته واعتقاد مخالفته للشرع؛ فإن هذا يضمن بإذن الله عز وجل إفشاله وإضعافه حتى لو تلبّس به بعض الناس؛ إذ أن فعل المنكر مع اعتقاد تحريمه وإثْم فاعله أهون بكثير من فعله دون ذلك.

وكي يتحقق هذا التحصين وتفوت الفرصة على المفسدين في تطبيع المنكر فإن على علماء الأمة الواجب الأكبر في ذلك؛ بالقيام بالميثاق الذي أخذه الله عليهم، كما يجب على المصلحين بمختلف التخصصات أن يتعاونوا في ذلك؛ فالخطيب في منبره والواعظ في مسجده والكاتب في مقالته والشيخ في درسه والمربي والمعلم في مدرسته والرجل في بيته وقرابته؛ كل أولئكم عليهم أن ينفروا في بيان المنكر للناس وبيان إثم فاعله، وذلك ليبقى في القلوب تعظيم حرمات الله ونواهيه، ويبقى في القلوب كُره المنكر، ويقطع الطريق على من يريد للناس أن يألفوا المنكر وأن يطبّعوه ويقنّنوه في حياتهم من دون إنكار ولا رفض.. لأن القلب إذا خلا من إنكار المنكر فإنه على خطر بفقد إيمانه بالكلية.

وهذا ما يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم.

وفي حديث آخر مشابه عند مسلم أيضا قال في آخره: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».

وينبغي الحذر من تخويف الشيطان لنا بأوليائه؛ قال تعالى: ﴿إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175].

ولنتدبر قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يمنعن أحدَكم رهبةُ الناس أن يقول بحقٍ إذا رآه أو شهده؛ فإنه لا يقرّب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحقٍ أو يذكّر بعظيم» رواه أحمد.

وفي رواية أخرى في المسند «ألا لا يمنعن رجلا مهابةُ الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر».

ضريبة الإنكار أهون من الصبر على المفاسد

إن الذين يخشون العذاب والأذى والألم وخسارة الأولاد والأموال إذا هم قالوا كلمة الحق وجاهدوا في سبيل الله؛ عليهم أن يتأمّلوا ماذا يكلّفهم السكوت على الباطل والفساد في الأنفس والأولاد والأخلاق والأعراض.

إن تكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول كلمة الحق في وجه المفسدين لن تكلفهم ما يكلّفهم السكوت على الباطلِ والفسادِ من الذل والعار وخراب العقول والأعراض والأموال والأخلاق.

ونختم هذا البيان  بهذا التحذير الرباني المرعب من فاطر السماوات والأرض لكل من آتاه الله علماً وسكت عن بيان الحق للناس.

قال تعالى: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ [الأعراف:169-170].

نسأل الله عز وجل أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه وليُّه ويُذلّ فيه عدوُّه ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر؛ والحمد لله رب العالمين.

……………………………..

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة