لله تعالى في كل نازلة حكم، علمه من علمه، وجهله من حُرم منه. ومما يجب على علماء الأمة أن يُجروا أحكام الله تعالى في كل نازلة، وأن يبحثوا حكمها ويوضحوها للأمة، لتبقى الشريعة حاكمة أبدا، ولا يخلو من بيان حكمها عمل أو حادثة .. فكما يقول الإمام الشاطبي أنه:

ما من عمل يُفرض ولا سكون يُدعى إلا والشريعة حاكمة عليه

وكذلك لئلا يكون للعلمانيين حجة فيظن ظان قصور الشريعة عن تغطية المجالات الحادثة.. ومن هنا كانت هذه الدراسة في هذا المجال المهم..

مقدمة عن فقه النوازل

الحمدلله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،، أما بعد :

فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه». (1موطأ مالك: 3338 ، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح: 186)

فهنيئا لمن تمسك بكتاب ربه سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وجعلها مصدر هدايته ومنطلقا لموازينه وأحكامه ومواقفه.

وياخيبة وخسارة من أعرض عنهما ولم يجعلهما مصدر هدايته وأحكامه، لأن مفهوم الحديث يدل على أن من لم يجعل الكتاب والسنة منطلقا لفهمه وموازينه فإن مآله التخبط والحيرة والضلال.

وعجبا لمن كان عنده هذان المصدران المعصومان كيف يضل؟ ولكن كما قال الشاعر:

 كالعيس في البيداء يقتلها الظما … والماء فوق ظهورها محمول

وإن المسلمين اليوم وخاصة دعاتهم وعلماءهم ومجاهديهم لفي أمس الحاجه إلى أن ينهلوا من الكتاب السنة أهم العلوم الضرورية لفقه النوازل والأحداث التي تعينهم على اتخاذ الموقف الصحيح والميزان الحق إزاءها، وبيان تلك المواقف للناس وإزالة اللبس والتضليل الذي يمارسه الملبّسون الماديون الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.

قواعد نفيسة

وقبل الدخول في ذكر هذه العلوم الضرورية للفهم الصحيح والموقف الصحيح في ضوء الكتاب والسنة أقدم لذلك بكلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ليكون منطلقا لذكر هذه العلوم وتطبيقاتها المعاصرة. يقول رحمه الله تعالى:

“صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجلّ منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامُه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعَم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أُمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة.

وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد، وتحري الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادتَه: اتباعُ الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى”

نوعان من الفهم

ثم يقول رحمه الله:

“ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر الله”. (2أعلام الموقعين : 87/1)

ألا ما أعظم هذا المنهج القويم وهذه القواعد النفيسة التي لا يهتدي إليها ولا يسعد بها إلا من جعل الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح مرجعا وظِلالا يرجع إليها ويستظل بظلهما، وما أتعس وأشقى من أعرض عنهما واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

إن الهداية للحق والثبات عليه بإذن الله تعالى لا يسعد بهما إلا من اتصف بما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى من الوصفين العظيمين الذين هما صراط الله تعالى المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ألا وهما:

صحة الفهم وحسن القصد

حسن القصد

هو صلاح السريرة والإخلاص لله تعالى وابتغاء وجهه الكريم والتخلص من الهوى وحظوظ النفس وإرادة الحياة الدنيا وزينتها، وسؤال الله عز وجل والتضرع بين يديه في طلب الهداية للحق والإنقياد له والتبرؤ من الحول والقوة؛ فلا هادي لما أضل الله ولا مضل لمن هدى.

وقد كتبتُ عن حسن القصد وصلاح السريرة كتابا منذ سنوات بعنوان (يوم تبلى السرائر) نصحت فيه نفسي وإخواني المسلمين ونبهت فيه إلى ضرورة العناية بالقلب وأعماله وإصلاح ما فسد من أعماله.

وأما صحة الفهم

فهو موضوع هذه المقالة وهدفها.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أنه يقوم على ركنين:

الأول: فهم الواقع الذي يراد الحكم عليه والموقف منه.

والثاني: فهم الواجب في هذا الواقع، وهو فهم حكم الله تعالى الذي يحكم به على لسانه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا الواقع أو على نظائره.

وتطبيق أحدهما على الآخر.

العلوم الضرورية لصحة الفهم وفقه النوازل

إن الفقه والفهم الصحيحين في النوازل والموقف منها لايتحقق بعد توفيق الله عز وجل إلا بالعلوم الآتية:

  1.  العلم بالله عز وجل وبأسمائه الحسنى.
  2.  العلم بالسنن الإلهية.
  3.  العلم بفقه الموازنات والأولويات وفقه المآلات.

العلم الأول: العلم بأسماء الله عز وجل وصفاته

وما تقتضيه من الخلْق والأمر، المستلزمين لتوحيده سبحانه وحده لا شريك له قال تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ (الأعراف: 54)، وقال سبحانه: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ (محمد :19).

وهذا العلم هو أشرف العلوم لأن شرف العلم يتبع شرف المعلوم، ولا أشرف ولا أعظم ولا أجلّ من الله عز وجل.

وعبادة الله عز وجل وتوحيده والبراءة من الشرك وأهله والموالاة والمعاداة فيه، هو أول الواجبات.

والعلم بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته هو أصل العلوم ومنطلقها الذي يجب أن تنطلق منه وتحاكم إليه الوقائع وتفسر به الأحداث في ضوئها.

بيان أن العلم بأسمائه وصفاته هو أصل العلوم

ولبيان ذلك أقول وبالله التوفيق:

إن كل ماجرى وما يجري وما سيجري من أحداث ونوازل عظيمة على هذه الأرض ومنها بلدان المسلمين إنما يقع ويتم بعلم الله عز وجل وكتابته لها ومشيئته وتدبيره لها..

فالخلْق خلقه والملك ملكه ولا  يجري شيء في ملكه سبحانه إلا بعلمه وإرادته وتدبيره وحكمته سبحانه؛ قال سبحانه: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ (يونس:31).

وقال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ (الحج:70).

وقال سبحانه عن علمه ومعرفته وحكمته ورحمته في تسليط أعدائه على أوليائه: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام:112).

وفي ضوء هذه الآيات ومثيلاتها يتبين للمسلم العالم بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته أن ما يجري اليوم من أحداث مؤلمة ونوازل عظيمة في بلدان المسلمين إنما وقعت بعلم الله عز وجل وكتابته لها ومشيئته وخلقه لها، وله سبحانه الحكمة البالغة في خلقه وأمره، ومن ذلك ما نشهده من صراع بين الحق والباطل، وما تمخض عن ذلك من آلام وآمال وأحداث ونوازل.

ظهور آثار أسماء الله وصفاته

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“وأسماؤه الحسنى تقتضي آثارَها، وتستلزمها استلزام المقتضِي الموجِب لموجَبه ومقتضاه، فلابد من ظهور آثارها في الوجود، فإن من أسمائه: «الخلاّق» المقتضي لوجود الخلق، ومن أسمائه «الرزاق» المقتضي لوجود الرزق والمرزوق.

وكذلك «الغفار والتواب والحكيم والعفو»، وكذلك «الرحمن الرحيم»، وكذلك «الحكَم العدل»، إلى سائر الأسماء.

ومنها «الحكيم» المستلزم لظهور حكمته في الوجود، والوجود متضمن لخلقه وأمره ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ َّ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف: 54).

فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه. وحكمتُه وعلمُه اقتضيا ظهور خلقه وأمره، فمصدر الخلق والأمر عن هذين الاسمين المتضمنين لهاتين الصفتين، ولهذا يقرن  سبحانه ـ بينهما عند ذكر إنزال كتابه وعند ذكر ملكه وربوبيته، إذ هما مصدر الخلق والأمر”. (3الصواعق المرسلة : 4/ 1564)

تعامل العارفين لربهم مع الأحداث

ومشيئة الله عز وجل صادرة عن حكمة بالغة وعلم شامل، والعارفون لربهم سبحانه ولأسمائه الحسنى وصفاته العلا يوقنون بذلك، ولذا فهم يحسنون الظن بربهم ويحمدونه على كل ما يقدره، ويوقنون بأن أسماءه وصفاته وأفعاله كلها حسنى، ممتثلين لأوامره الشرعية مجتنبين لما ينهاهم عنه، وذلك لكونها من الأسباب الشرعية التي أمرهم الله بها لجلب خيري الدنيا والآخرة، ودفع شري الدنيا والآخرة.

ظنون منبعها الجهل بأسماء الله

إن ما تشهده بلدان المسلمين من حوادث جسيمة ومحن شديدة وغزو مكثف متنوع من أعداء الدين من الكفار والمنافقين آلت ببعض المسلمين إلى حالة من اليأس والإحباط أثار في النفوس وساوس وشبهات وشك في وعد الله عز وجل، وتساؤلات مفادها: ألسنا مسلمين؟

أليس أعداؤنا هم أعداء الله من الكفار والمنافقين؟

أليس الله على كل شيء قدير؟

فلماذا لا ننتصر عليهم؟ ولماذا يمكَّن لهم علينا؟

وغير ذلك من السؤالات التي تنم عن خلل في الفهم وضعف إيمان، وإساءة ظن بوعد الله عز وجل.

وهذه التساؤلات: إما بلسان الحال أو لسان المقال.

ومنشأ مثل هذه الظنون إنما هو الجهل بالله عز وجل والجهل بأسمائه الحسنى ومعانيها وآثارها.

علمٌ يسكب الطمأنينة

والمقصود أن العلم بأسماء الله الحسنى هو أشرف العلوم وأنفعها للعبد المؤمن وهو من العلوم الضرورية التي لا غنى للمسلم عنها وهو يواجه الأحداث والنوازل والابتلاءات لكي تسكب في قلبه الطمأنينة والسكينة والميزان القسط وإحسان الظن بالله تعالى والتفاؤل مما يقدره الله عز وجل، واليقين بأن فيها الحكمة والرحمة واللطف والعدل، وأن ما فيها الخير للمؤمنين والمحق للكافرين.

وهذا مما لم يوفق إليه الماديون الغافلون فهم في ريبهم يترددون.

كما أن الفقه في أسماء الله الحسنى وما تثمره في القلوب من المحبة لله تعالى ومحبة ما يحب ومن يحب وبغض ما يبغض ومن يبغض.

كل هذه الثمار من شأنها أن تقوي عقيدة الولاء والبراء في قلب المسلم وأن ينظر إلى نفسه، وهو يواجه الأحداث والنوازل، أين يقف ومع من يقف ولمن يعطي ولاءه وبراءته، وفي أي خندق يصطف.

تنبيه

لا يفهم من الإيمان بقضاء الله وقدره، علما وكتابة ومشيئة وخَلْقا، أن يستنيم المسلم ويرضى بالمهانة والذلة والتبعية للشرق أو الغرب الكافرين؛ كلا فإن هذا مما يمقته الله عز وجل.

والواجب على المسلم أن يدافع أقدار الله بأقدار الله فيدفع عدوان الكافرين بدفعهم وجهادهم، ويدفع إفساد المفسدين بالإصلاح وبيان سبيل المجرمين ـ تماما ـ  كما يدفع قدر الجوع بالأكل وقدر المرض بالتداوي. قال الله سبحانه: ﴿ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾ (محمد:4).

خاتمة

من المحكمات العظام شمول شريعة الله تعالى لكافة الأفعال الإنسانية، أعمالا واقوالا ومواقف. ومن سعادةالمرء أن يفهم عن ربه تعالى الغايات والعللَ التي شرع تعالى من أجلها أحكامه، والمقاصدَ التي انتظمت الأحكام. ومن فقه عن ربه تعالى ازداد رسوخا وعبودية، وعلم أنه لا أحد أحسن حكما من الله تعالى.

…………………………………

هوامش:

  1. موطأ مالك: 3338 ، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح: 186.
  2. أعلام الموقعين : 87/1.
  3. الصواعق المرسلة : 4/ 1564.

لتحميل الدراسة كاملة على الرابط:

اقرأ بقية أجزاء المقال:

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (2-7) علوم ضرورية، العلم بالسنن الالهية

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (3-7) علوم ضرورية، فقه الموازنات والأولويات

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (4-7) أثر الخلل في العلم بفقه الموازنات

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (5-7) فقه المآلات

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (6-7) خطورة عدم اعتبار المآلات

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (7-7) أمثلة معاصرة لقاعدة النظر في المآلات

التعليقات غير متاحة