الصدق خُلق وحال، أساس وبناء، روح تسري في كل عمل، وعملٌ من أفضل ما يلقى به العبدُ ربَّه، يترجَم في العزيمة والكلمة والموقف ومنهج الحياة.

مقدمة

منزلة الصدق منزلة عظيمة؛ ليس في دين الإسلام فقط بل في جميع الأديان؛ لا لأنه خُلق من الأخلاق الحميدة فحسب، بل لأنه أصل الإيمان المقبول عند الله عز وجل، وهو أساس النجاة من عذاب الله عز وجل، وبه يتميز أهل الإيمان الحق من المنافقين الكاذبين. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة الصدق:

“وهو منزل القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم، الذي من لم يَسِر عليه فهو من المنقطعين الهالكين”.

إلى أن يقول:

“فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة (النبوة) التي هي أرفع درجات العالمين».

ولقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف في فضل الصدق وخطورة أمره وعلو شأنه.

أهمية الصدق ومكانته

وتتجلى أهميته في الأمور التالية:

أساس الإيمان وركنه

لأنه أساس الإيمان، وركنه الركين، وأساس قبول الطاعات والقربات عند الله عز وجل، وعليه يترتب الأجر والثواب يوم القيامة، قال تعالى: ﴿لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ [الأحزاب: 24] وقال تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ…﴾ [المائدة: 119] ولأنه أساس الطاعات وجماعها، فقد أصبح الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق.

يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

“الصدق أساس الحسنات وجِماعها، والكذب أساس السيئات ونظامها، ويظهر ذلك من وجوه منها:

أن الصدق هو المميز بين المؤمن والمنافق؛ ففي الصحيحين عن أنس عن النبي: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» (1البخاري، كتاب الإيمان، ج24 الطبعة الأولى، ص14، مسلم كتاب الإيمان، الطبعة الأولى، طبعة دار الكتب العلمية)

وفي حديث آخر: «على كل خُلق يطبع المؤمن ليس الخيانة». (2رواه الإمام الحاكم وضعفه الألباني)

وقد وصف الله المنافقين في القرآن بالكذب في مواضع عدة، ومعلوم أن المؤمنين هم أهل الجنة، وأن المنافقين هم أهل النار في الدرك الأسفل منها.

* أن الصدق هو أصل البِر، والكذب هو أصل الفجور، كما جاء في الصحيحين عن النبي: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر…». (3البخاري، كتاب الأدب، ج3 ص59، طبعة إستانبول؛ مسلم كتاب البر، ج2 ص438، طبعة الكتب العلمية)

* أن الصادق تنزل عليه الملائكة، والكاذب تنزل عليه الشياطين كما قال تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ [الشعراء:221-222] (4مجموع الفتاوى، 20/ 74)

مرتبة “الصّديقية”

أن الصدق في كل الأمور يوصل صاحبه إلى مرتبة “الصدِّيقية” ، التي هي المرتبة التالية لمرتبة النبوة.

وعندما أقول “في كل الأمور” أريد من ذلك عدم حصر الصدق في اللسان فقط، وإنما الصدق في النيات والأقوال والأعمال. والأصل تحري الصدق في ذلك كله.

إن مجاهدة النفس على تحري الصدق في جميع الأمور يوصلها إلى هذه المرتبة العظيمة مرتبة “الصدِّيقية” كما جاء في الحديث السابق الذكر: «…ولايزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صِدّيقا». (5متفق عليه)

وهنيئاً لمن وصل إلى هذه المرتبة، فيا لها من رتبة، وما أشرف قدرها وأعظم فضلها، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في وصف أهل هذه الطبقة:

“الطبقة الرابعة: ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بُعثوا به علماً وعملاً ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم. وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة، وهي مرتبة “الصدِّيقية”، ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء فقال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:69]. (6طريق الهجرتين وباب السعادتين، ج1/ 351)

عِظم الأجر وبركة العمل

ثمرات الصدق العظيمة التي تحصل منه في الدنيا والآخرة من البركة والقبول والإصلاح في الدنيا، والأجر العظيم والثواب الجزيل في الآخرة.

خطر الكذب وما يستلزمه من النفاق

خطورة الكذب والنفاق وأثرهما على الفرد والمجتمع والأمة، وبخاصة في مجتمعاتنا اليوم التي كثر فيها الكذب والدجل والمداهنة، وقلَّ الصدق فيها والصادقون، ولا أعلم ـ والعلم عند الله ـ عصراً ظهر فيه الكذب والنفاق بوسائله الماكرة المتطورة كما ظهر في عصرنا اليوم، حتى أصبح الكذب له مدارسه وأساليبه التي تُعلم الناس كيف يكذبون، وكيف ينافقون وكيف يدلسون … الخ.

ولا أبالغ إذا قلتُ إن وسائل الإعلام اليوم المقروءة منها والمسموعة والمنظورة قد قامت في أغلب برامجها على الكذب، وقلْب الحقائق وتسمية الأمور بغير أسمائها، وقد تجاوز الأمر حدَّه حتى أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وظهر الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وأصبحنا نسمع من يقول عن المسلم الصادق الذي يتحرى الصدق بأنه “ساذج” و”بسيط” و”سطحي”..الخ، في الوقت الذي يوصف الكاذب المنافق بأنه السياسي الحكيم المحنك..!

إن مجتمعاً كهذا حري بالسقوط والدمار، ولا نجاة ولا فلاح إلا بالصدق. والأمة الصادقة مع ربها سبحانه ومع رسولها، صلى الله عليه وسلم، لا تُهزَم أبداً.

خطر ضعف الصدق في صفوف الدعاة

ظهور بعض علامات ضعف الصدق في صفوفنا معشر الدعاة إلى الله عز وجل، وذلك بوجود بعض التصرفات والممارسات التي تتنافى مع الصدق في الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله، فقلّ الصادقون الرَّبانيون الذين يصْدُقون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم، ويضحّون في سبيل الله عز وجل بكل ما يملكون لنيْل مرضاته وحبه.

نعم إنه بمحاسبةٍ عَجْلَى لنفوسنا يتبين لنا هذا الضعف، وأننا في أمس الحاجة إلى تقوية هذا الخُلق، ونبذ كل ما يتنافى معه من صور الكذب والنفاق ووهن العزيمة، وضعف الهمة؛ وإلا فما معنى وجود هذه الجهود الضخمة المبذولة اليوم في طرق الدعوة إلى الله عز وجل، ثم لا نرى لها إلا أثراً ضعيفاً لا يكافئ تلك الجهود المبذولة..؟!

خاتمة

إن الصراع الذي نشاهده اليوم بين الحق والباطل، بين دعاة الشر والكفر ودعاة الخير والإصلاح، لَيحتّم على أهل الخير حرصهم الشديد على “الصدق” مع الله سبحانه واليقين بنصره وثوابه، حتى لا تزل الأقدام، وتضعف العزائم إزاء هذا البلاء العظيم والمعركة الشرسة بين الحق والباطل، وهذه المواطن هي التي يتميز فيها الصادقون عمن سواهم، قال تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت:1-3].

وكذلك أيام الفتن لا يثبت فيها إلا الصادقون العالمون العاملون، وهم الذين يشرفهم الله عز وجل بنصره، ويمكن لهم في الأرض، ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين.

……………………………………………..

الهوامش:

  1. البخاري، كتاب الإيمان، ج24 الطبعة الأولى، ص14، مسلم كتاب الإيمان، الطبعة الأولى، طبعة دار الكتب العلمية.
  2. رواه الإمام الحاكم وضعفه الألباني.
  3. البخاري، كتاب الأدب، ج3 ص59، طبعة إستانبول؛ مسلم كتاب البر، ج2 ص438، طبعة الكتب العلمية.
  4. مجموع الفتاوى، 20/ 74.
  5. متفق عليه.
  6. طريق الهجرتين وباب السعادتين، ج1/ 351.

اقرأ أيضا:

0 0 votes
Article Rating

التعليقات غير متاحة