إن من أهم أسباب عجز الأمة وخورها: انصرافها عن مبدئها وبعدها عن دينها وعن مصدر عزها، ألا وهو الجهاد؛ فما تركت أمة الجهاد إلا ذلت، وآخر معركة بيننا وبين اليهود كانت من نصف قرن من الزمان!..

«لماذا تعجز الأمة عن مد يد العون لغزة»؟

مع كامل الأسف ليس هناك أمة! ولو كان هناك أمة بمعنى الكلمة لما كان هناك عجز وما كان هذا الموقف المتخاذل، وهذا الضعف وتلك العمالة.. نعم، الأمة شيء غير هذا تماماً فالله عز وجل عندما وصف الأمة قال: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: ١١٠]. لخيرية الأمة ليست مجاملة بل هي خيرية مرتبطة بشروطها، فإذا ضاعت قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل وضاع الإيمان بالله – الذي هو الأصل لكل ما سواه – عدمت الأمة خيريتها.

لكنها أُمه تمرض ولا تموت -وهذا حق- وإن كان المرض شاملاً، فرغم مرضها نرى مثل هذه الطائفة المجاهدة في فلسطين بهذا الجهاد في طوفان الأقصى، ورباط المرابطين والمرابطات؛ فالأمة وإن مرضت في غالبها الأعم لا تموت بفضل الله عز وجل، وطوفان الأقصى أحيى في كثير من نفوس أبناء الأمة نخوة الجهاد، فتحركوا وصاروا كالنار من تحت الرماد، ولكن مكمن الضعف في هذه الأمة في حكامها الخونة العملاء، الذين حجزوا الشعوب عن مشاركة إخوانهم الجهاد، وقبل ذلك كانوا قد جرعوهم الذل وألزموهم الاستكانة، فصارت الأمة كأنها ميتة مغيبة.

فالحمد لله الذي ردّ بطوفان الأقصى إلينا حياتنا وأعاد إلينا روحنا! فقد رأينا الكثير من الشعوب المسلمة قد تفاعل مع المقاتلين في غزة تفاعلاً حقيقياً وتمنى لو فتحت الأبواب وفتحت الحدود ليجاهد في سبيل تحقيق الأمل المنشود منذ ٧٥ عاماً، بتحرير أعز مقدساتنا بعد الحرمين.. المسجد الأقصى المبارك.

إن عجز الأمة هو بسبب حكامها.. بسبب عمالتهم.. بسبب خيانتهم.. بسبب “تطبيع” العلاقات..

هذا المصطلح السياسي والذي هو بمنطق الشرع يسمى: الولاء والبراء، وقد أوجب الله عز وجل الولاء له ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بقوله: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) [المائدة: ٥٥]، مع وجوب البراء من الكافرين بصفة عامة واليهود والنصارى بصفة خاصة؛ فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائدة: ٥١-٥٢].

ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا

إن من أهم أسباب عجز الأمة وخورها: انصرافها عن مبدئها وبعدها عن دينها وعن مصدر عزها، ألا وهو الجهاد؛ فما تركت أمة الجهاد إلا ذلت، وآخر معركة بيننا وبين اليهود كانت من نصف قرن من الزمان! حرب العاشر من رمضان – السادس من أكتوبر ١٩٧٣م، يوم أن أعلن الرئيس أنور السادات – وكان رئيساً لمصر آنذاك- أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، وكأنه بذلك يلغي فريضة الجهاد ودخل في معاهدة (كامب ديفيد).. معاهدة (السلام) أو بمعنى أصح: الاستسلام. فكانت النتيجة ذل الأمة، وعلى الرغم من اعتراض العرب يومها على مصر ومقاطعتهم لها، إلا أنهم بعد ذلك شرعوا في تطبيع العلاقات مع الصهاينة، وكانت البداية خفية مراعاة لشعور الشعوب، ثم لم تعد تلك الأنظمة تستحي أو تخشى أحداً، فأصبحت المعاهدات علانية، وصارت المسألة أكبر من معاهدة، وأكثر من تطبيع، وأكثر مما هو من جنس الولاء المنهي عنه؛ فهل نسمي هذا تواطؤاً وخيانة؟ نعم!

إذن ما السبيل إلى تقوية الأمة؟

لا أقول «إلى تقوية الحكام» وإن كانت الهداية بيد الله عز وجل، ولكن أقول: السبيل إلى تقوية الأمة هو عودة الأمة إلى مصدر عزها.. عودتها إلى دينها.. عودتها إلى القرآن الذي هو مصدر عزها: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: ١٠]، والشرح العملي لهذا الكتاب والمذكرة التفصيلية هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: ٥٩].. العودة إلى الجهاد الذي هو سبب عز الأمة وذروة سنام الإسلام؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد»1(1) أخرجه مطولاً الترمذي (2616)، وابن ماجه (2972)، وأحمد (22069)، والنسائي في السنن الكبرى (11394) واللفظ له..

ولتقوية الأمة لا مناص من الدعوة إلى المنهج الصحيح والمنبع الصافي، على ما كان عليه سلف الأمة، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، والذي صلح به أولها هو القرآن والسنة بمنهج سلفنا الصالح.

على هذه الأمة أن تجاهد حكامها قبل أن تجاهد أعداءها، أن تخرج على الخونة منهم، وعلى الكفرة منهم، الذين أنكروا شرع الله، والذين حاربوا حكم الله، ووالوا أعداء الله، وأتوا من نواقض الإيمان ما أتوا، ولا خلاف عند أهل السنة والجماعة في الخروج على الحاكم الكافر، وإن اختلفوا في الخروج على الحاكم الظالم وقاسوه بالمصلحة والمفسدة، فإن تحققت المصلحة وانتفت المفسدة أجازوا الخروج عليه، ومنهم من أوجبه، كذلك ينبغي على الأمة بعد الخروج على هؤلاء الحكام أن تعود إلى شريعة رب الأنام الملك العلام، ثم تفكر في حرب أعدائها، لأنها متى انتصرت على نفسها، وعلى الخونة الذين يحكمونها ويثبطونها فإنه ما أيسر أن تنتصر بفضل الله عز وجل على عدوها، كما فعل صلاح الدين الأيوبي، فقد حارب ما في الأمة من ضعف وخور وفرقة، وما كان فيهم من شيعة رافضة.

ومن أخطر الأمور على الأمة ما يصيبنا من فرقة، فالفرقة فشل، والفرقة سلاح في يد الأعداء لخصوه بقولهم: “فرق تسد”، فهنا لابد أن تعمل الأمة على توحيد الصف وعلى جمع الكلمة، وعلى الإعداد المعنوي والإعداد المادي، المعنوي بدأ الله عز وجل به في قوله في سورة الأنفال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [الأنفال: ٤٥-٤٧]، وأما الإعداد المادي فهو قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60].

فينبغي إذن أن نحول عجزنا إلى قدرة، وضعفنا إلى قوة، وينبغي على الشعوب أن تفعل شيئاً، كل منهم في مكانه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع بلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»2(2) أخرجه مسلم (49)، من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه..

وعلى الأمة أن تقوم بواجب الوعي وتصحيح المفاهيم، وأن تبين للناس أن ما يقع الآن لإخواننا في غزة إنما هو نوع من الخيانة، خيانة الحكام والحكومات، وأنه تواطؤ مع الأعداء، ومنهم من فضحه الله من الذين أرسلوا أسلحة، ومن الذين أرسلوا الدعم المادي، ومن الذين أرسلوا أشياء أخرى كالتعازي في الجنود.

ويسأل سائل إن كان الأمر خيانة وتواطؤاً، فما هو توصيفهم الشرعي؟

هؤلاء خونة وتوصيفهم الشرعي: كفار مرتدون وإن زعموا الإيمان، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا) [النساء:60- 6١]، فالله سماهم منافقين، وهذا نفاق الاعتقاد وليس نفاق العمل، الذي يظهر فيه المنافق الإيمان ويبطن الكفر، وقالها بصريح اللفظ : باسم العلم.

وقال تعالى في سورة النور: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ) [النور: ٤٨]، وفي سورة النساء قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا) [النساء: 60-61]، وما ينطبق على الحكام ينطبق على الحكومات، وعلى جيوشهم وعلى شرطتهم، وعلى مخابراتهم، وعلى إعلامهم – بعد إقامة الحجة عليهم -.

أما الموازنة بين المصالح والمفاسد المترتبة على بقائهم أو على السعي في خلعهم، فهذا متروك للسادة العلماء، كبار علمائنا، يجلسون لمثل هذه القضايا الكبيرة والأمور المصيرية ويُخرجون فيها فتوى، هم يحققون من خلال هذه الفتوى المصالح والمفاسد، ويقولون ماذا يجب على الشعوب المؤمنة أن تفعله، ولا تزال ولله الحمد هناك ثقة موجودة في المخلصين من العلماء الذين ينطقون بالحق وبه يصدعون، والقضية كبيرة ومتعددة الجوانب وموزعة الأطراف.

وفي الختام أقول: يجب علينا جميعاً أن تتناصح فيما بيننا، وأن نكون ضد الخونة والظلمة من العملاء، سواء كانوا من الأمراء أو كانوا ممن ينسبون إلى العلماء، فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة». قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «الله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم». وأقول ما قال الله تعالى على لسان شعيب عليه السلام: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: ۸۸]، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

الهوامش

(1) أخرجه مطولاً الترمذي (2616)، وابن ماجه (2972)، وأحمد (22069)، والنسائي في السنن الكبرى (11394) واللفظ له.

(2) أخرجه مسلم (49)، من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.

المصدر

د. عمر عبد العزيز قريشي عميد كلية الدعوة الأسبق بجامعة الأزهر.

اقرأ أيضا

ذروة سنام الإسلام والإعداد له

وجوب الجهاد لتحرير الأقصى وفلسطين

وأعِدُّوا

خذلان الحكام

دفع عدوان الظالمين مفهوم أصيل في الجهاد المحمدي

الجهاد مستمر في فلسطين

التعليقات غير متاحة