إن للجهاد أهدافاً سامية، ومصالح كريمة، وفوائد عظيمة تتحقق للمسلمين وغيرهم، وأن الجهاد من آثار الهجرة، ونتائجها المهمة، وأنه من الدعائم، التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم لبناء الدولة الإسلامية، وتوطيد أركان الإسلام..

الجهاد في الشريعة الإسلامية فكرة أصيلة وتشريع راسخ

فالجهاد يمثل ذروة سنام هذا الدين، كما جاء في الحديث الشريف الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه:

«ألا أخبرك برأس الأمر كله وَعَمودِهِ، وَذِرَوَةِ سَنَامِهِ؟

قال معاذ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ: “رأسُ الأمر الإسلام، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرَوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ».

وذلك لأنه شرع لأهداف كبرى، وغايات عظمى، كحماية حرية العقيدة والتدين، وحفظ الشعائر والعبادات، ودفع الفساد في الأرض، وإرهاب الكفار المعتدين، والعتاة الظالمين وإذلالهم وتوهين كيدهم، وكشف المنافقين وفضحهم؛ وإقامة حكم الله ونظام الإسلام في الأرض، وغير ذلك من الأهداف النبيلة والغايات الشريفة.

والأمة الإسلامية تعيش اليوم حرباً دائرة بين العدو اليهودي والمجرم الصهيوني ضد مجاهدي فلسطين وغزة، ارتكب فيها خلال أيام أفظع الجرائم وأشنع المجازر، في حق أهل غزة، فلم يرع فيها – كعادته – حق طفل أو امرأة أو عجوز أو مستضعف أعزل، فوجه حممه وصواريخه على المدارس والمشافي وأماكن الإيواء التي تحوي الناس العزل الأبرياء، الفارين من هذا العدوان البربري الغاشم. إن هذا لخليق أن يحرك ثائرة كل مسلم غيور على دينه وأبناء ملته، فينفر لنصرة المستضعفين وإجابة المستغيثين بما يتاح له ويستطيعه.

أنواع عدوان الظلمة المعتدين

وإذا ألقينا نظرة على الجهاد المحمدي، نجد أن من أعظم أهدافه دفع عدوان الظلمة المعتدين، وهذا العدوان أنواع، منها:

أ. أن يعتدي الكفَّار على فئة مؤمنة مستضعفة في أرض الكفار

لا سيما إذا لم تستطع أن تنتقل إلى بلاد تأمن فيها على دينها: فإن الواجب على المسلمين، أن يعدوا العدة لمجاهدة الكفار، الذين اعتدوا على تلك الطائفة، حتى يخلصوها من الظلم، والاعتداء الواقع عليها1(1) الجهاد في سبيل الله، د. عبد الله القادري، ١٦٢/٢.، قال تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) [النساء: ٧٤ – ٧٥] .

قال القرطبي رحمه الله: “حض على الجهاد، وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين؛ الذين يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم عن الدين؛ فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته، وإظهار دينه، واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلفُ النفوس، وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين؛ إما بالقتال، وإما بالأموال، وذلك أوجب لكونها دون النفوس؛ إذ هي أهون منها”2(2) تفسير القرطبي، ٢٧٩/٥..

ب. أن يعتدي الكفار على ديار المسلمين

قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: ١٩٠-192].

نص الفقهاء على أنه إذا اعتدى الكفار على ديار المسلمين؛ يتعين الجهاد للدفاع عن الديار؛ لأن العدو إذا احتلها سام المسلمين عذاباً، ونفّذ فيها أحكام الكفر، وأجبر أهلها على الخضوع له، فتصبح دار كفر بعد أن كانت دار إسلام.

قال ابن قدامة رحمه الله: «ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع… الثاني: إذا نزل الكفار ببلد معين، على أهله قتالهم ودفعهم»3(3) المغني، ٢٧٩/٨..

وقال بعض علماء الحنفية: «وحاصله: أن كل موضع خيف هجوم العدو منه، فُرض على الإمام، أو على أهل ذلك الموضع، حفظه، وإن لم يقدروا فُرض على الأقرب إليهم إعانتهم

إلى حصول الكفاية بمقاومة العدو»4(4) حاشية ابن عابدين، ۲۱۹/۲..

ت. أن ينشر العدو الظلم بين رعاياه

ولو كانوا كفاراً! فإن الله سبحانه حرم على عباده الظلم، والعدل في الأرض واجب لكل الناس، وإذا لم يدفع المسلمون الظلم عن المظلومين؛ أثموا؛ لأنهم مأمورون بالجهاد في الأرض؛ لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، ونشر العدل، والقضاء على الظلم، ولا فلاح لهم إلا بذلك، وهو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما كانوا خير أمة أخرجت للناس إلا بذلك، كما قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: ١١٠]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8].

ومن العدل كف الظلم عن المظلوم الكافر، الذي يبغضه المسلم لكفره. قال السرخسي رحمه الله: وإن كان – يقصد أحد ملوك أهل الحرب – طلب الذمة على أن يترك يحكم في أهل مملكته بما شاء، من قتل، أو صلب، أو غيره بما لا يصلح في دار الإسلام، لم يجب إلى ذلك؛ لأن التقرير على الظلم مع إمكان المنع منه حرام5(5) المبسوط، فقه التمكين في القرآن الكريم، الصلابي، ص ١٨٨..

ث. الوقوف ضد الدعاة إلى الله ومنعهم من تبليغ دعوة الله

إن المسلمين مفروض عليهم من قبل المولى عز وجل أن يبلغوا رسالات الله للناس كافة. قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: ١٠٤].

وأعداء الله يصدون أولياءه عن تبليغ عباده دعوته، ولا يتركون لهم سبيلاً إلى الناس، كما لا يأذنون للدعاة أن يسمعوا الناس دعوة الله، ويضعون العراقيل والعوائق والحواجز بين الدعوة ودعاتها والناس، ولذلك أوجب الله عز وجل على عباده المؤمنين قتال كلّ مَنْ يَصُدُّ عن سبيل الله تعالى”6(6) فقه التمكين في القرآن الكريم، الصلابي، ص488..

قال تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ * فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: ١ – ٤].

أهمية الجهاد في الإسلام

ومما تقدم يتضح لنا أن للجهاد أهدافاً سامية، ومصالح كريمة، وفوائد عظيمة تتحقق للمسلمين وغيرهم، وأن الجهاد من آثار الهجرة، ونتائجها المهمة، وأنه من الدعائم، التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم لبناء الدولة الإسلامية، وتوطيد أركان الإسلام، وذلك “لأن الأمة بغير جيش قوي عرضة للضياع؛ إذ يطمع فيها أعداؤها، ولا يهابون قوتها، فإذا كان لها جيش قوي احترم العدو إرادتها، فلا تحدثه نفسه باعتداء عليها؛ فيسود عند ذلك السلام”7(7) الهجرة في القرآن الكريم، ص: 453..

إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، يعلمان المسلمين الإعداد على جميع الأصعدة المعنوية، والمادية كافة، فيكونون مستعدين للبذل والعطاء والنفير بالنفس والمال والكلمة والقلم، وغير ذلك من صور التضحية والعطاء، وأن يأخذوا حذرهم في كل ذلك، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا) [النساء: ٧١].

الهوامش

(1) الجهاد في سبيل الله، د. عبد الله القادري، ١٦٢/٢.

(2) تفسير القرطبي، ٢٧٩/٥.

(3) المغني، ٢٧٩/٨.

(4) حاشية ابن عابدين، ۲۱۹/۲.

(5) المبسوط، فقه التمكين في القرآن الكريم، الصلابي، ص ١٨٨.

(6) فقه التمكين في القرآن الكريم، الصلابي، ص488.

(7) الهجرة في القرآن الكريم، ص: 453.

المصدر

د. علي الصلابي، المؤرخ الإسلامي.

اقرأ أيضا

الجهاد مستمر في فلسطين

مخاطر ترك الجهاد في سبيل الله

التخذيل عن الجهاد..من صفات المنافقين

غاية الجهاد في سبيل الله تعالى

التعليقات غير متاحة