خلق الله عز وجل الخلق ليعبدوه ويوحدوه، فأرسل الرسل وأنزل الكتب، وشرع بذل الأنفس والأرواح والأموال رغم مشقتها وكرهها على النفوس من أجل الحفاظ على هذا الدين وإحيائه، والذي فيه حماية البشرية ورحمتهم وسعادتهم، قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:213].

أسباب الحـــرب والغــزو قبل الإسلام

إن الحـــرب والغــزو والقتـــال كان محتماً في عصر ما قبيل الإسلام؛ لأن طبيعتهم المعيشية تفرض عليهم القتــــال والغــزو لأسباب منها: رد غارات الروم والفرس وأحلافهما عليهم، ومنها Preview (opens in a new tab) للسلب والنهب حصولاً على المؤن والمواد الحياتية، ومنها لأمور تتعلق بالقبيلة وإبراز مكانتها ورد اعتبارها وإثبات وجودها بين القبائل، وهذا قانون يتبع للعشائرية وأحكامها المعمول بها.

وقد جرتْ حروب كثيرة، منها معركة ذي قار، فيوم ذي قار هو يوم هزمت به العربُ العجم قبل بعثة النبي ﷺ، حيث وقع فيهِ القتــــال بين العرب والفرس وانتصر فيه العرب. وكان سببه أن كسرى أبرويز غضب على النعمان بن المنذر ملك الحيرة. وحرب أخرى جرت بين الأوس والخزرج، وهما قبيلتان من بلد واحدة وقد استمرت أكثر من مائة وأربعين سنة، وكان سببها قتــــال مردّ جُل أسبابه إلى العصبية القبلية. وحرب البَسوس وحرب داحِس والغَبراء ويوم بُعاث وغيرها من الحروب..

أسباب الحـــرب والغــزو في الإسلام

إلى أن جاء الإسلام فأصلح المعتقدات والعادات الجاهلية، ووجّه القتـــــال والحرب لغايات سامية لا يدركها إلا من هداه الله؛ فحذّرهم من دعوى الجاهلية المقيتة الـمُهلِكة للحرث والنسل؛ فهذّبهم ورباهم على القتـــال لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ونبذ ما سواها. فقد جاء رجل إلى رسول الله فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، ما القِتَـــالُ في سَبيلِ اللَّهِ؟ فإنَّ أحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، ويُقَاتِلُ حَمِيَّةً، فَرَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ (وما رَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ إلَّا أنَّه كانَ قَائِمًا) فَقالَ ﷺ: «مَن قَاتَـــلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، فَهو في سَبيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ»1(1) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري، البخاري (123)، ومسلم (1904)..

وشرع من التعاليم والأحكام ما يحفظ للبشر مقدساتهم وأغلى ما عندهم؛ من حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض؛ فشرع الجهاد لحفظ الدين ونشره، وشرع القصاص الذي هو قتل النفس من أجل إحياء نفوس العباد، قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: ١٧٩]، كما حرم الخمر والمخدرات حفظاً لعقل الإنسان، وأمر بقطع يد السارق لحفظ المال، وأمر بالزواج وحرم الفواحش وعاقب عليها لحفظ العرض والنسب.

حقيقة الجهاد في شريعة الإسلام

وقد لخص الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه حقيقة الجهاد، وهو أحد قادة الفتح الإسلامي للعراق، في حديثه مع قائد جيش الفرس (رستم)، عندما سأله الأخير عن السبب الذي جاء بهؤلاء الفاتحين من الصحراء القاحلة إلى عقر ديار الفرس؟ ليجيبه ربعي بن عامر بكلمات جليلة بليغة خلدها التاريخ: «إنَّ الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة».

فالجهاد ظاهره العذاب، وباطنه الرحمة، فهو إنقاذ للغرقى، وحماية للمستضعفين، ونصرة للمظلومين، ورد للجائرين والمعتدين. فالجهاد وسيلة وليس غاية لذاته، بل شُرّع إذا دعت الضرورة إليه، قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) [الحج: 39]، وقال تعالى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 36]، والعالم من قبل وحتى اليوم بدوله وأنظمته يعمل على محاربة الإسلام بحجة الإرهاب، وأنه دين متطرف، يجب القضاء عليه وعلى أهله والتخلص منهم! فجندوا لذلك الأنظمة والحكام وكثيراً من المشايخ والمفكرين لتنفيذ خططهم وتحقيق أهدافهم.

بعض ظواهر الحضارة المزعومة

وقد تكشفت ألاعيبهم وخداعاتهم ومكرهم في ثورات الربيع العربي، ثم في غزة اليوم وما يجري فيها من انتهاكات في حق البشرية، وفي حق الإنسانية.. فقد أرهقوا وصدعوا رؤوس العالم من قبل بحديثهم عن القانون الدولي والقانون الإنساني وحقوق الإنسان.. وهذا ممنوع في القانون.. وهذا محظور.. وأنشأؤوا مؤسسات ومنظمات تزعم حماية الحقوق، وطلابنا -وللأسف- يدرسون ويدرسون هذا القانون ونظرياتهم وشروحاتهم ظناً منهم أنه لا يمكن لأحد أن يتفلت من هذا القانون، وأن القائمين عليه منصفون يعملون جاهدين على تطبيقه لمحاسبة الظالمين والمنتهكين لقانون الحروب، كما أنه من غير المتصور أن لا يرد الحقوق لأصحابها!

لكن هيهات هيهات فما هو إلا كالمستجير بالرمضاء من النار.. والحمد لله أن الواقع كذبهم، وجرائمهم في العراق وفي سوريا واليوم في غزة شاهدة عليهم وعلى كذبهم وافترائهم.. رأينا ذلك في سوريا.. رغم كل المجازر واستعمال الأسلحة الكيماوية والمحرمة دولياً من قبل النظام المجرم الطائفي السادي، ما زالوا مؤيدين له ومعترفين به بل يسعون لتعويمه.. ادعاءات كاذبة و شعارات براقة.. فقط هم سمحوا بدخول بعض المساعدات، وكأنهم يقولون لهذا الحيوان البشري: نحن نسمنهم لك وأنت تقتلهم وصنعوا الفيتو ليستعملوه لامتطاء القانون في مجلس الأمن لتبرير تخاذلهم وتخليهم، وإعذارهم تجاه ما يحدث من مجازر وجرائم واعتقالات طالت شعب سوريا بأكمله.

وكأن سفك الدماء وإزهاق الأرواح لا قيمة له إن لم يقابل مصالحهم، حتى رأيناهم في غزة يؤيدون ويدعمون ويشاركون المجرم اليهودي في قتل الآلاف من أهل غزة وتدمير مدينتهم عليهم، حرب إبادة في كل القوانين والأنظمة والأحكام السماوية والبشرية.. أين القوانين الدولية، وأين حقوق الإنسان، وأين النظريات التربوية والنفسية؟

بكل ما تعنيه الكلمة: لقد داسوا على شيء اسمه القانون وحق الإنسان في الحياة وهو أبسط تلك الحقوق.

والذي يزيد الجرح ألماً ونزفاً هؤلاء الذين يسمون حكام العرب، يصطفون بكل سرور مؤيدين ومناصرين لما يحصل في العالم العربي والإسلامي، وآسفاه على تلك الرؤوس التي ركعت تتعبد أربابها الظلمة وتصفق لهم مشجعة. هذا هو العالم الكاذب وهذه هي الحضارة المزعومة التي ينبهر بها كثير من شبابنا، وهذه هي مدنية القرن الحادي والعشرين؛ فهذه السادية وهذا التطرف في الإجرام وانتهاك الحقوق وخرق المعاهدات والقوانين تفتي بوجوب قتل وإهراق الدماء البريئة..

الجهاد هو الحل

هذا الظلم والإجرام لا يمكن أن ينتهي إلا بعد أن يأخذ المسلمون دورهم ويملكون زمام المبادرة والحكم.. الإسلام هو الحل الذي أنقذ الله به البشرية من براثن الطغاة والبغاة والظلام، ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بالجهاد، فنحن متعبدون بإقامة حكم الله في الأرض حتى يرفع الظلم، ويخف الشر، وينتصر للضعيف.. فليس هناك تناقض في الإسلام، وليس هناك قوانين لا تطبق عندما يحكم المسلمون؛ فالإسلام قنن الجهاد وجعل من الأولويات حماية الإنسانية، فأمر أن لا تقتل المرأة ولا الشيخ ولا الطفل ولا الراهب في صومعته، وأن لا تهدم دور عبادتهم، ولا يجوز تخويف العباد الآمنين.. هذا لم يكن مجرد كلام بل واقع، وإلا لما دخلت الناس في دين الله أفواجاً.. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بعث رجلاً إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه وكان على مقدمة الجيش فقال: «قل لخالد لا يقتلن امرأة ولا عسيفاً». والعسيف: الأجير الذي لا يقاتل2(2) رواه أبو داود بإسناد .. فليس في الإسلام دعوات أو شعارات متناقضة تظهر الرحمة وتضمر السوء والعذاب.. فلن تجد في التاريخ ظلم المسلمين لشعوب البلاد التي فتحوها، وما رأينا خرقاً لمعاهدات أو قوانين اتفق عليها، والأمثلة على ذلك كثيرة.

كيف كان الجهاد رحمة للعالمين

أكتفي بذكر قصة فتح سمرقند في عهد عمر بن عبد العزيز، حيث أرسل أهل سمرقند رسالة إلى عمر رضي الله عنه، وقالوا بأن الفتح الإسلامي لسمرقند فتح باطل؛ لأن الجيوش دخلت سمرقند عنوة، ولم تدعها إلى الإسلام، ولم تفرض عليها الجزية. فما كان من عمر بن عبد العزيز إلا أن أرسل إلى قاضي قضاة المسلمين ليحقق في هذا الأمر، ويرسل القاضي إلى عمر رضي الله عنه بأن الفتح الإسلامي لسمرقند فتح باطل، فيصدر عمر الأوامر إلى قائد الجيوش المسلمة في سمرقند بالانسحاب فوراً، ثم يدعو أهل سمرقند إلى الإسلام فإن أبوا فليفرضوا عليهم الجزية، فإن أبوا فالقتال! فلما خرج الجيش عن بكرة أبيه، خرج أهل سمرقند بين يدي الجيش الفاتح العظيم المنتصر على نفسه، وهم يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله. هذا غيض من فيض في احترام المسلمين للعهود والمواثيق.

الفرق بين المجاهدين في سوريا والنظام المجرم

وفي اليوم المعاصر لو أردنا مقارنة سريعة بين أعمال إسرائيل في غزة، وكذلك أعمال وكلاء إسرائيل في سوريا، وبين أعمال أهلنا المسلمين، لعجزت الكلمات والصفحات عن إحصاء المفارقات بينهم.. انظر في سوريا فقد فاق عدد الشهداء المليون شهيد من الذين سقطوا على أيدي النظام المجرم وبرعاية دولية، وكذلك عدد المعتقلين والمعتقلات الذين غيبوا في السجون وقتلوا بطرائق في منتهى الوحشية وكل العالم شاهد على ذلك، هذه صور قيصر التي تمت مصادقتها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن! أين المحاسبة؟ وما الذي عملوه لردع هذا الوحش الكاسر، بل ما زادوه إلا طغياناً وكفراً، وفي الوقت الذي دمر فيه بشار الأسد سوريا ومدنها ومساجدها وأهلك الحرث والنسل، فإن ثوار سوريا يعمرونها ويتنافسون في تشييدها وبنائها رغم كل ما نزل بهم، شعب ثابت على ثورته ومبادئه، ما زال يطالب بإنسانيته وكرامته وحريته، ورغم كل ما سلط عليه من عذاب وانتقام، لم يعرف عنه أي غدر ولا خيانة.

مجاهدو القسام ورعايتهم للأسرى الصهاينة

وهذه غزة اليوم والتي ما زالت محاصرة، لم تقتل أسراها ولم تعذبهم ولم تنتقم منهم رغم كل ما فعلوه بها، ولا حتى رداً على العدوان البربري والهمجي، وهي تخوض الحرب تلقن العالم دروساً في الأخلاق واحترام العهود والمواثيق وقوانين الحرب. فالأيام المقبلة كفيلة بأن تجعل العالم يعترف أن الإسلام بجميع تعاليمه وتشريعاته وأنظمته هو الحل للعيش بسلام في هذا العالم، وأن في الجهاد إصلاحاً وتقويماً لاعوجاج هذا العالم الفاسد الذي يعيش في ظلمات الجهل والطغيان وأنه لن يهنأ لهم بال حتى يعيش المسلمون في أمان وينالوا حريتهم، وليعلم الجميع أن هذا الكيان الصهيوني وحلفاءه لا بقاء لهم على هذه الأرض بعد الآن. والحمد لله رب العالمين.

الهوامش

(1) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري، البخاري (123)، ومسلم (1904).

(2) رواه أبو داود بإسناد .

المصدر

د. أنس عيروط، عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي صلى الله عليه وسلم.

اقرأ أيضا

ذل الأمة بتركها الجهاد

الجهاد مستمر في فلسطين

ذروة سنام الإسلام والإعداد له

كشف التلبيس حول شعيرة الجهاد

مخاطر ترك الجهاد في سبيل الله

التعليقات غير متاحة