للشيطان خطوات، يريد بها إهلاك بني آدم بقدر استطاعته؛ منها الفواحش، وأعظمها الشرك بالله وتبديل الشرائع والقول عليه بغير علم؛ وهي حقيقة ولوازم العلمانية.

حين تكون في جيب ملحد!

تنصرف أذهان أغلبنا حينما نسمع التحذير من ﴿خُطُواتِ الشَّيْطَانِ﴾ إلى خطورة الاستدراج إلى الفاحشة، إما بمدخل عاطفي أو مدخل شهواني؛ ومقدمات ذلك بنظرة أو خلوة أو محادثة أو تعارف أو غير ذلك..

وتَقْصُر عقول الكثير عن الخوف من ﴿خُطُواتِ الشَّيْطَانِ﴾ في مجال أكبر فحشا وأخطر هلَكة..! رغم تحذير القرآن منه أكثر، ورغم نصه أنه غاية خطوات الشيطان..!

قد يراك الشيطان سالكا مسلك التدين، عبادةً وطلب علم ودعوةً.. الخ. فيتركك تطلب كما تشاء وتتعبد وتطلب العلم وتبثُّ المواعظ.. الخ؛ لكنه يظفر منك في النهاية بـ “بَيْع الجملة” بعدما تركك في التفاصيل كثيرا..!

وذلك أن يظفر منك بأن تذهب بعلمك وعباداتك ودعوتك وجهدك وأنصارك وعمرك؛ فتضعها في جيب علماني أو يد ملحد أو إباحي، أو في يد امرأةٍ مجاهرة ـ ومشهورة ـ بالفجور والتعري، أو مُعينا لعقائد وديانات أخرى.. فتشهد بنفسك تنحية الشريعة وضعف الإسلام وإنزال رايته، وتَشهد بعينك، جهدَك، يستخدمه ملاحدة في تشكيك الناس في دينهم وإخراجهم منه، والإباحية وهي تنتشر، وأجيال المسلمين وهم ينسلخون من الأخلاق، وصدمات العقائد والأخلاق المتتابعة في المجتمع، بل والتنصير وهو يدب في مجتمعك وتوزَع منشوراته وكتبه وطعنه في دينك!! وفي كل هذا يؤول جهدك لاستكمال الملحدين والعلمانيين مشاريعهم لتنحية دين الله وإبعاد الناس عنه وإخراجه من حياتهم، بل ويؤول لاستكمال أهل التنصير والصهاينة أدواتهم ومشاريعهم.

قد تمتلك مسائل فروعية كثيرة وتعرف تفاصيلها وتُعجَب بعلمك بها وبمآخذ العلماء فيها ووجه ترجيح الأدلة؛ ولكن قد يتركك الشيطان في هذه التفاصيل تجمعها ثم تكون مؤامرته في مجال آخر وهو “اتجاهها وأين تضعها”؛ فيفتقدك الإسلام وأهلُه في يومين:

– يوم كان للإسلام معركة على وجوده ورايته وهويته؛ فكنت في خندق عدوه.

– ويوم كان الجيل يتغير عقائدَ وأخلاقا وسلوكا؛ وكنت في الخندق الآخر.

تذكّر أن ﴿خُطُواتِ الشَّيْطَانِ﴾ ذكرها الله في كتابه في أربعة مواضع؛ ثلاثة منها في تبديل الشرائع. وموضع منها في فاحشة الزنا.

إنك قد ترى أنْ قد نجوتَ أخلاقيا! وتكون قد هكلت عقديا وانهار غيرك بمعونتك أخلاقيا. وظفر منك العدو، بخنادقه، بما لم يظفر به من غيرك..

إياك أن تبذل ويجني منك الشيطان عمرك وجهدك وعملَك بموقف واحد تخسر به كل شيء ولا يُبقي لك شيئا.

خطوات الشيطان؛ فأي فاحشة هي؟

تدبر هذه المواضع:

أولا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقر: 168-169].

خطوات الشيطان هنا في تحليل الحرام وتحريم الحلال والقول على الله بغير علم. لقوله: ﴿حَلَالًا طَيِّبًا﴾ أي فلا تبدلوا أحكامه.

يقول البيضاوي رحمه الله:

“﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا﴾ نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس، و﴿حلالاً﴾ مفعول كلوا، أو صفة مصدر محذوف، أو حال مما في الأرض و﴿من﴾ للتبعيض؛ إِذ لا يؤكل كل ما في الأرض طَيِّباً يستطيبه الشرع، أو الشهوة المستقيمة. إذ الحلال دل على الأول. ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ لا تقتدوا به في اتباع الهوى فتحرّموا الحلال وتحللوا الحرام”. (1تفسير البيضاوي، سورة البقرة آية: 168)

ويقول صاحب المنار:

“وَأَظْهَرُ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ مَا يُجَرِّئُ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لِأَجْلِ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَلْبَسُ عَلَى الْمُتَجَرِّئِ عَلَيْهَا بِالْمَصْلَحَةِ وَسِيَاسَةِ النَّاسِ”. (2تفسير المنار، سورة البقرة آية: 168)

ويقول السعدي رحمه الله:

“ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به ـ إذ هو عين صلاحهم ـ نهاهم عن اتباع ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي: طُرُقه التي يأمر بها، وهي جميع المعاصي من كفر، وفسوق، وظلم، ويدخل في ذلك تحريم السوائب، والحام، ونحو ذلك، ويدخل فيه أيضا تناول المأكولات المحرمة، ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أي: ظاهر العداوة، فلا يريد يأمركم إلا غَشَّكم، وأن تكونوا من أصحاب السعير. فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته، حتى أخبرنا ـ وهو أصدق القائلين ـ بعداوته الداعية للحذر منه، ثم لم يكتف بذلك، حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به، وأنه أقبح الأشياء، وأعظمها مفسدة فقال: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ﴾.

أي: الشر الذي يسوء صاحبه، فيدخل في ذلك، جميع المعاصي، فيكون قوله: ﴿وَالْفَحْشَاءِ﴾ من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الفحشاء من المعاصي، ما تناهى قبحه، كالزنا، وشرب الخمر، والقتل، والقذف، والبخل ونحو ذلك، مما يستفحشه من له عقل، ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ فيدخل في ذلك، القول على الله بلا علم، في شرعه، وقدَره. فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه، أو أثبت له ما نفاه عن نفسه، فقد قال على الله بلا علم. ومن زعم أن لله ندا، وأوثانا، تقرّب مَن عبَدها من الله، فقد قال على الله بلا علم. ومن قال: إن الله أحل كذا، أو حرم كذا، أو أمر بكذا، أو نهى عن كذا، بغير بصيرة، فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: الله خلق هذا الصنف من المخلوقات للعلة الفلانية ـ بلا برهان له بذلك ـ فقد قال على الله بلا علم.

ومِن أعظم القول على الله بلا علم، أن يتأول المتأول كلامه، أو كلام رسوله، على معان اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال، ثم يقول: إن الله أرادها، فالقول على الله بلا علم، من أكبر المحرمات، وأشملها، وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها.

فهذه طرق الشيطان التي يدعو إليها هو وجنوده، ويبذلون مكرهم وخداعهم، على إغواء الخلق بما يقدرون عليه”. (3تفسير السعدي، سورة البقرة آية: 168-169)

ثانيا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 208-209].

و”السِّلم” هنا شرائع الإسلام، و”الزلل” هنا كما قال ابن عباس: هو الشرك “برد الشرائع”، ونزلت فيمن أسلم من اليهود؛ فيمن استأذنوا أن يقيموا الليل بالتوراة ويُسبتوا بعد الجمعة. أي أن يعملوا بشرائع منسوخة.

يقول الطبري رحمه الله تعالى:

“القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾

قال أبو جعفر: يعني ـ جل ثناؤه ـ بذلك: اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها، وادخلوا في التصديق به قولا وعملا ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدو مبين لكم عداوته. وطريقُ الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه، ومنه تسبيت السبت وسائر سنن أهل الملل التي تخالف ملة الإسلام”. (4تفسير الطبري، سورة البقرة آية: 208)

وجاء في روح البيان:

“أي استسلموا لله تعالى وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا. فالسلم بمعنى الاستسلام والطاعة.. فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب؛ فإنهم كانوا يراعون بعض أحكام دينهم القديم، كما رُوي أن عبد الله بن سلام وأصحابه كانوا يتمسكون ببعض شرائع التوراة من تعظيم السبت وتحريم لحم الإبل وألبانها، وأشياء كانوا يرون الكف عن ذلك مباحا في الإسلام وإن كان واجبا في شريعتهم؛ فثبتوا على ذلك مع اعتقادهم حِلها استيحاشا من مفارقة العادة؛ فإنه لا وحشة مع الحق وإنما هو من تزيين الشيطان ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ جمع “خُطوة” بالضم والسكون وهو ما بين القدمين أي لا تسلكوا مسالكه، ولا تطيعوه فيما دعاكم إليه من السبل الزائغة والوساوس الباطلة ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ظاهر العداوة يريد أن يفسد عليكم بهذه الوساوس إسلامكم ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ الزلل في الأصل عثرة القدم ثم يستعمل في العدول عن الاعتقاد الحق والعمل الصائب فالمعنى أخطأتم الحق وتعديتموه علما كان أو عملا”. (5تفسير روح البيان، سورة البقرة آية: 208)

ثالثا: ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [الأنعام: 142].

وخطوات الشيطان هنا تحريم الذبائح وغيرها بغير شريعة من الله.

“﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي طريقه وأوامره في التحليل والتحريم كفعل أهل الجاهلية..”. (6صفوة التفاسير، سورة الأنعام آية:142)

“﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ بتحريم ما لم يحرمه الله عليكم ولا بغير ذلك من إغوائه، فهو سبحانه هو المنشئ والمالك لها حقيقة، وقد أباحها لكم وهو ربكم، فأنى لغيره أن يحرم عليكم ما ليس له خلقا وإنشاء ولا ملكا، ولا هو برب لكم فيتعبَّدكم به تعبدا، و”الخطوات” جمع “خطوة” بالضم وهي المسافة التي بين القدمين. ومن بالغ في اتباع ماش يتبع خطواته كلما انتقل تأثره فوضع خطوه مكان خطوه، وتحريم ما أحل الله من أقبح المبالغة في اتباع إغواء الشيطان ; لأنه ضلال في حرمان من الطيبات لا في تمتع بالشهوات كما هو أكثر إغوائه”. (7تفسير المنار، الأنعام: 142)

(4) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 21].

وهذا الموضع تحذير من فاحشة الزنا أو إشاعة السوء عن المؤمنين.

“﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي: طرقه ووساوسه. وخطوات الشيطان، يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب، واللسان والبدن. ومن حكمته تعالى، أنْ بيّن الحكم، وهو: النهي عن اتباع خطوات الشيطان. والحكمة وهو بيان ما في المنهي عنه، من الشر المقتضي، والداعي لتركه فقال: ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ﴾ أي: الشيطان ﴿يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ أي: ما تستفحشه العقول والشرائع، من الذنوب العظيمة، مع ميل بعض النفوس إليه. ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾ وهو ما تنكره العقول ولا تعرفه.

فالمعاصي التي هي خطوات الشيطان، لا تخرج عن ذلك، فنْهي الله عنها للعباد، نعمة منه عليهم أن يشكروه ويذكروه، لأن ذلك صيانة لهم عن التدنس بالرذائل والقبائح، فمِن إحسانه عليهم، أن نهاهم عنها، كما نهاهم عن أكل السموم القاتلة ونحوِها، ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ أي: ما تطهر من اتباع خطوات الشيطان، لأن الشيطان يسعى، هو وجنده، في الدعوة إليها وتحسينها. والنفس ميالة إلى السوء أمارة به. والنقص مستول على العبد من جميع جهاته، والإيمان غير قوي؛ فلو خُلي وهذه الدواعي، ما زكى أحد بالتطهر من الذنوب والسيئات والنماء بفعل الحسنات، فإن الزكاء يتضمن الطهارة والنماء، ولكن فضله ورحمته أوجبا أن يتزكى منكم من تزكى”. (8تفسير السعدي، سورة النور آية:21)

خلاصة

إن خطوات الشيطان في الحذر من العلمانية، صريحة أو متسترة، والتي ترد شريعة الله وتبدلها؛ أهم. والهلكة فيها أخطر. فإن حذرت من الأدنى ـ وهو تحذير واجب ـ فالتحذير من الأفحش أوجب.

أكرر؛ إياك أن تبذل ويجني منك الشيطان عمرك وجهدك وعملك بموقف واحد تخسر به كل شيء ولا يُبقي لك شيئا.

…………………………..

الهوامش:

  1. تفسير البيضاوي، سورة البقرة آية: 168.
  2. تفسير المنار، سورة البقرة آية: 168.
  3. تفسير السعدي، سورة البقرة آية: 168-169.
  4. تفسير الطبري، سورة البقرة آية: 208.
  5. تفسير روح البيان، سورة البقرة آية: 208.
  6. صفوة التفاسير، سورة الأنعام آية:142.
  7. تفسير المنار، الأنعام: 142.
  8. تفسير السعدي، سورة النور آية:21.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة