للعقيدة أثرها على أخلاق الإنسان وسلوكه، باستقامة أو اضطراب. وانحراف الخلق مع العقيدة الصحيحة أمر لا يستقيم. ثمة خلل.

مقدمة

إن الإيمان الصادق يصنع الأعاجيب، فمتى استقر في القلب ظهرت آثاره واضحة في المعاملة والسلوك.

“والإسلام عقيدة متحركة لا تطيق السلبية؛ إذ إنها بمجرد تحققها في عالم الشعور، تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج وتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع”. (1في ظلال القرآن: 4/ 2525)

والمسلم إذا تمكنت العقيدة من نفسه تبرأ من المشركين وما هم عليه من عقائد وأفعال وسلوك، وإذ تخرّج على التربية الإيمانية نموذج فريد من الرعيل الأول، كانوا قمماً شامخة؛ ارتفعوا فوق جواذب الجاهلية ومفاتن الدنيا وما فيها من مغريات.

وسارت الأجيال المسلمة تنهل من التربية المثلى التي غرسها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتنهل من الأخلاق الفاضلة التي لم تتغير من فرد إلى فرد، ولا من مجتمع إلى آخر؛ بل هي قيم ثابتة تزداد ثباتاً كلما مرّت الإنسانية في تجاربها خلال هذه الحياة.

وهي أخلاق متكاملة تحتضن جميع الفضائل والأعمال الخيرة لصالح الفرد والمجتمع. (2انظر: كتاب (التربية الأخلاقية الإسلامية) ، د مقداد يالجن، ص88- 90)

علاقة الأخلاق بالعقيدة

وقد يتساءل البعض قائلاً: ما علاقة العقيدة بالأخلاق؟ ألا يمكن أن يكون للناس أخلاق طيبة بلا عقيدة؟!

نعم؛ قد يوجد أخلاق عالية مُثلى كانت عند عرب الجاهلية، وعند المجتمعات غير المسلمة أحياناً، ولكن هذا سببه أن النفس تحتجز رصيدها الخلُقي بحكم العادة والتقليد أمداً طويلاً، بعد أن تكون قد فقدت الإيمان كجزء من العقيدة. وقد تحتجزه فترة على وعي منفصلاً عن العقيدة، على أنه شيء ينبغي في ذاته أن يقوم.

ولكن النتيجة الحتمية واحدة في النهاية؛ إنه ما دامت العقيدة قد انحرفت فلا بد أن تنحرف الأخلاق أخيراً، وما دامت الأخلاق قد انفصلت عن العقيدة فلا بد أن تموت. وإن هؤلاء المخدوعين ـ بتأثير الجاهلية – حسبوا، أو صُور لهم، أن التصورات قد تنحرف ثم يستقيم السلوك..! وهو وهْم كبير يخالف طبيعة النفوس وطبيعة العقائد والسلوك.

إن هذا وهْم من أوهام الجاهلية، لأن هؤلاء الناس قد ضُلّلوا عن حقيقة الشر الذي يعيشون فيه.. وأن الحياة البشرية ذاتها مهددة بالدمار من ضخامة هذا الشر وعنفوانه ومن ضخامة تمكُّنه من الحياة الواقعية للناس. (3جاهلية القرن العشرين، الأستاذ محمد قطب، ص94-95 وما بعدها)

وغاية المسلم الأساسية في أخلاقه، أن يحقق مرضاة ربه، ذلك أن هدف المؤمن الأول من أعماله كلها هو ابتغاء وجه الله، جل وعلا. فقد أمره، سبحانه وتعالى، بذلك، ووعده بالجزاء الأوفى على أعماله الخيّرة يوم القيامة. قال تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * ومَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8].

كما أن المسلم يحقق سعادته في الدنيا بالنمكين للإسلام من أجل الله تعالى؛ ولذلك أصبح وعدا للمسلم أن يمكن الله تعالى له دينه؛ يقول، تعالى: ﴿وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ [النور: 55].

فالسرور ثمرة عملية لمن يتحلى بالأخلاق الفاضلة. والطمأنينة القلبية والشعور بخيرية الذات وخيرية المصير من ثمرات الانسجام بين الإيمان والأخلاق وذلك نتيجة طبيعية؛ لأن الإنسان عندما يتصرف بمقتضى عقيدته؛ فيؤدي الواجبات كما ينبغي أداؤها ويتجنب المحرمات؛ يشعر بأنه إنسان خيِّر قوي الإرادة.

ومن يقرأ للملاحدة والكُتاب الوجوديين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، يعلم مدى ما يعانون من الاضطراب النفسي والقلق والحيرة في أعماق قلوبهم.

“ذلك أن في طبيعة الحياة الإنسانية جانباً لا يُملأ إلا بالإحسان.. وكثيراً ما يدفع القلق هؤلاء الحيارى إلى محاولات الانتحار”. (4انظر الاتجاه الأخلاقي في الإسلام: د مقداد يالجن (الصفحات: 79، 121، 328))

وإذا تفحصنا العلاقات الاجتماعية في حياتنا المعاصرة نجد أن الاضطراب في السلوك هو الظاهرة السائدة، وأن الابتعاد عن الاستقامة مما تعج به أكثر المجتمعات الحديثة، وهذا دليل واضح ومؤشر قوي على ابتعاد الناس ـ حتى كثير من المسلمين ـ عن صفاء عقيدتهم المؤثرة والتزامهم المنضبط بتوجيهاتها.

سوء الخلق دليل على ضعف الإيمان

ربط الإسلام بين الإيمان والسلوك ربطاً قوياً، ونلاحظ ذلك في نصوص كثيرة مثبتة في الكتاب والسنة.

ومن ذلك قوله، صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت». (5هداية الباري إلى ترتيب أحاديث البخارى: 2/ 155)

وقوله، صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً». (6صحيح: المستدرك للحاكم النيسابوري 1/ 53)

إن اقتران الإيمان بحسن الخلق والسلوك الرفيع أمر يلفت النظر؛ إلا أن كثيراً من المسلمين يهملون هذا الجانب أيامنا هذه مع الأسف الشديد؛ فعندما كان المسلمون الأوائل إذا سمعوا آية فيها تكليف سارعوا إلى تطبيقه، وإذا نزل تحريم لأمر انتهوا عند ذلك من صدق الإيمان وصلابة العقيدة..

وقد عرفنا من كتب السيرة في قضية تحريم الخمر، كيف أسرع المؤمنون إلى إراقة الخمور في شوارع المدينة المنورة.

عقيدة بلا أثر..؟!

وهنا سؤال مهم يطرح نفسه، وهو:

إذا كان للعقيدة هذا الدور الفعال في توجيه السلوك. فلماذا لا نرى ذلك الأثر في واقع المسلمين الآن؟!

إننا نجد البون شاسعاً بين ما يدّعون من عقيدة وبين ما يسلكون ويتصرفون به في المعاملات والسلوك.

والحقيقة أن الدعوى شيء والإيمان الحقيقي شيء آخر؛ إذ إن الإيمان حقيقة، وكل حقيقة لها علامة، وعلامة الإيمان العمل به، وإذا دخل الإيمان القلوب واستقر فيها نبضت بالحيوية، ودفعت النفوس إلى العمل بموجبها.

أما هؤلاء فهم ممن ﴿يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 167]؛ لأن معيار صدق الإيمان هو العمل الصالح، و”الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه العمل”، والاعتقاد الصحيح يدفع إلى السلوك الطيب. (7التربية الأخلاقية الإسلامية: ص184-185)

إن انهيار الأخلاق مردُّه إلى ضعف الإيمان، أو فقدانه، فالرجل المعوج السلوك، الذي يقترف الرذائل غير آبه لأحد (8انظر: (خلق المسلم)، محمد الغزالي، ص14-18) يصف الرسول، صلى الله عليه وسلم، حاله بأنه بعيدٌ عن الإيمان بعيدٌ عن الحياء، يقول، عليه الصلاة والسلام: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه». (9رواه البخاري)، ويقول، صلى الله عليه وسلم، تقريراً لهذه المبادئ الواضحة في صلة الإيمان بالخُلق القويم: «ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال: إني مسلم!. إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان». (10رواه مسلم)

خاتمة

لقد أصبحت الشكوى مريرة لما أصاب الناس في العصور المتأخرة من انهيار في الأخلاق، واضطراب في الموازين. فالجار يشكو جاره، والأمانة ضاعت بين الناس، والمراوغة راجت سوقها، والتعلق بمتاع الدنيا فاقَ كل القيم عند كثير من البشر؛ وإنه لخطر عظيم ينذر بالشرور والفوضى.

وإن ذلك لدلالة واضحة على فساد التصور وضعف الإيمان، فظهر بسبب ذلك انفصام نكد وازدواجية بين مفهوم الإيمان ومقتضياته.

ومن هنا يلزم الدعاة والمربّين أن يتنبهوا لهذا الخطر، وأن يبينوا للناس حقيقة ما هم فيه، وأن الإيمان الصادق لا يعني حفظ بعض المتون في العقيدة أو حتى تعلُّمها إذا لم يتمثّل المرء أخلاقياتها.

لابد من تمثُّل العقيدة وتشرُّبها، وأن تتحول إلى واقع عملي في الحياة والتعامل بين الأنام.. تأسياً بأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذين تحولوا إلى نماذج فريدة سلوكاً وإخلاصاً وطهراً.

وهو المطلوب اليوم في واقعنا؛ إذ مطلوب إخراج نماذج متحركة تدعو بواقعها كما تدعو بلسانها، وتعيش بهذا الدين وتنعم به، وتُنعم غيرها برؤيته واقعا مُعاشا فتنجذب له النفوس وتَصلح به أخلاق وأحوال.

……………………………….

هوامش:

  1. في ظلال القرآن: 4/ 2525.
  2. انظر: كتاب (التربية الأخلاقية الإسلامية) ، د مقداد يالجن، ص88- 90.
  3. جاهلية القرن العشرين، الأستاذ محمد قطب، ص94-95 وما بعدها.
  4. انظر الاتجاه الأخلاقي في الإسلام: د مقداد يالجن (الصفحات: 79، 121، 328).
  5. هداية الباري إلى ترتيب أحاديث البخارى: 2/ 155.
  6. صحيح: المستدرك للحاكم النيسابوري 1/ 53.
  7. التربية الأخلاقية الإسلامية: ص184-185.
  8. انظر: (خلق المسلم) ، محمد الغزالي، ص14-18.
  9. رواه البخاري.
  10. رواه مسلم.

المصدر:

  • محمد الناصر، مجلة البيان 42، صفر – 1412هـ، أغسطس – 1991م، (السنة: 6).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة