ما أحوج الأمة إلى معرفة ربها بأسمائه الحسنى وصفاته العلا وما تثمره في قلب المسلم وفي واقع المسلمين من ثمار طيبة يانعة وموازين ثابتة عادلة منضبطة لكل ما يحدث وينزل بالمسلمين من أحداث ونوازل.

من أسماء الله الحسنى: [المؤمن]

ورد اسمه سبحانه (المؤمن) في القرآن الكريم مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) … الآية [الحشر: 23]، أما في السُّنة فلم أقف – حسب علمي – على ذكر لهذا الاسم الكريم في حديث صحيح.

المعنى اللغوي (للمؤمن)

له معنيان:

الأول: المصدِّق. قال الزجاج: “أصل الإيمان: التصديق والثقة. وقال الله – عز وجل -: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا) [يوسف: 17]، أي: لفرط محبتك ليوسف لا تصدقنا”1(1) تفسير الأسماء ص 31..

الثاني: “من الأمان كما يقول: آمن فلانٌ فلانًا أي: أعطاه أمانًا ليسكن إليه ويأمن، فكذلك أيضًا: (الله المؤمن) أي: يؤمِّن عباده المؤمنين فلا يأمن إلا من آمنه”2(2) اشتقاق أسماء الله تعالى ص 385..

معنى هذا الاسم الكريم في حق الله تعالى

أولاً: تعلقه بالمعنى الأول “المصدق”: ومن معانيه في حق الله – عز وجل – ما يلي:

1 – أنه يصدق نفسه بتوحيده وصفاته، كما قال عزّ من قائل: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قائما بِالْقِسْطِ) [آل عمران: 18].

فقد شهد سبحانه لنفسه بالوحدانية، وهذه الشهادة أعظم شهادة: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً) [الأنعام: 19]، فليس فوق شهادة الله شهادة، فهي أعظم من شهادة ملائكته، ورسله، وأنبيائه، ومخلوقاته له بالشهادة.

2 – تصديق الله رسله وأنبياءَه وأتباعهم، فمن ذلك ما أنزله الله من الآيات البينات التي دلت على صدقهم، ومن ذلك ما يظهره على أيدي المؤمنين، ومنها: ما يريه أعداءَه من نصرة المؤمنين، فقد يرى الكفرة الملائكة تقاتل مع المؤمنين، ومنها: أن الكفرة قد يدعون الله أن ينصر المحق، فينصر الله المؤمنين، وغير ذلك مما يصدق به رسله وأتباعهم. ومن ذلك: إيقاع العذاب بالمجرمين والطغاة، أعداء الرسل فإن وقوع العذاب بهم تصديق من الله – عز وجل – لرسله.

3 – تصديق الله عباده المؤمنين في يوم الدين، فالله يسأل الناس في يوم القيامة، ويصدق المؤمنين بإيمانهم، ويكذب الكفرة والمجرمين، فيُشْهِد عليهم أعضاءَهم، فتشهد. ويصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب، ومصدق ما أوعدهم من العقاب3(3) انظر أسماء الله الحسنى للأشقر ص 64، 65..

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم له من شواهد صدقهم، فهو الذي صدَّق رسله وأنبياءه فيما بلَّغوا عنه؛ وشهد لهم بأنهم صادقون بالدلائل التي دلَّ بها على صدقهم – قضاءً وخلقًا- فإنه سبحانه أخبر وخبره الصدق؛ وقوله الحقُّ: أنه لا بُدَّ أن يُري العبادَ من الآيات الأفقيَّة والنفسيَّة ما يُبيِّن لهم أن الوحي الذي بلَّغته رسله، فقال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت: 53]، أي: القرآن، فإنه هو المتقدم في قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) [فصلت: 52].

ثم قال: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت: 53]، فشهد سبحانه لرسوله بقوله أن ما جاء به حقٌّ، ووعده أن يُري العبادَ من آياته الخلقيَّة ما يشهد بذلك أيضًا، ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجلُّ؛ شهادته – سبحانه – على كلِّ شيءٍ”4(4) مدارج السالكين 3/ 466..

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: “المؤمن: الذي أثنى على نفسه بصفات الكمال، وبكمال الجلال، والجمال الذي أرسل رسله وأنزل كتبه بالآيات والبراهين، وصدق رسله بكل آية وبرهان، ويدل على صدقهم وصحة ما جاءوا به”5(5) تفسير السعدي 5/ 301..

ثانيًا: تعلقه بالمعنى الثاني المشتق من (الأمان): وفيه من المعاني ما يلي:

1 – أنه الذي يُؤَمِّنُ خلقه من ظلمه وقد ذكر هذا المعنى ابن جرير في تفسيره وقال: “قال الضحاك عن ابن عباس – رضي الله عنهما – (المؤمن) أي: أمن خلقه من أن يظلمهم”6(6) تفسير الطبري 28/ 36..

2 – أنه الذي يهب عباده المؤمنين الأمن في الدنيا بالطمأنينة والأنس الذي يجدونه في قلوبهم بفعل الإيمان به سبحانه وتوحيده.

3 – أنه الذي يؤمن خوف عبده الذي لجأ إليه بصدق في كشف كربته وتأمين خوفه. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: “والمضطر إذا صدق في الاضطرار إليه: وجده رحيمًا مغيثًا، والخائف إذا صدق في اللجوء إليه: وجده مُؤمِّنا من الخوف”7(7) مدارج السالكين 3/ 324..

4 – أنه الذي يؤمن عباده المنقادين لشرعه بما يشرع لهم من الأحكام والحدود التي يأمنون فيها على دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، وأعراضهم، وأموالهم سواء على مستوى الفرد، أو الأسرة، أو المجتمع بحيث يعيش الجميع في أمن وسلام في ظل أحكام الله – عز وجل – والتي هي أثر من آثار اسمه (السلام المؤمن).

5 – أنه الذي يؤمن عباده يوم الفزع الأكبر من مخاوف يوم القيامة ومن عذاب النار، قال الله تعالى عن عباده المؤمنين: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء: 101، 103]، وقال سبحانه عن أثر الإيمان في تحقيق الأمن في الدنيا والآخرة: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]8(8) انظر في تفسير هذه الآية وأقسام الأمن وشموله رسالة “فأي الفريقين أحق بالأمن” للمؤلف..

6 – أنه الذي يؤمن عباده المؤمنين عند نزول الموت حال الاحتضار بأن يسمعوا تطمين ملائكة الرحمة لهم وتبشيرهم بالجنة، وتأمين خوفهم وحزنهم، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت: 30 – 32].

7 – أنه الذي يؤمن لجميع عباده، بل جميع خلقه، مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم، كل ما يأمن بقاء حياتهم إلى الأجل الذي أجل لهم بتوفير رزقهم ودفع الغوائل عنهم.

من آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم

1 – محبة الله – عز وجل – الذي يأمن الخائفون في كنفه، ويطمئن المؤمن بالإيمان به وعبادته وحده، فلا يخاف أحدٌ ظُلْمَه سبحانه، بل إن رحمته سبقت غضبه، ورحمته وسعت كل شيء فيحصل من جراء ذلك الأمن النفسي، والسعادة القلبية، والتعلق بالله وحده، ومحبته وإجلاله، وكثرة ذكره وشكره، واللجوء إليه وحده سبحانه في طلب الأمان وذهاب الخوف والفزع في الدنيا والآخرة؛ لأنه لا يملك تثبيت القلوب وفتح الرحمة والأمان عليها إلا الله تعالى، قال – عز وجل -: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر: 2].

2 – زيادة الإيمان والتصديق في القلب، وذلك برؤية آثار اسمه سبحانه (المؤمن) الذي منها: تصديق نفسه سبحانه وإقامة البراهين الواضحة الدالة على توحيده وتفرده سبحانه بالربوبية والألوهية وكمال الأسماء والصفات. ومنها: تصديق الله – عز وجل – لأنبيائه ورسله بما يظهر على أيديهم من المعجزات والدلائل الباهرة على صدقهم وصدق ما يدعون إليه. ومن ذلك اليقين بصدق وعد الله تعالى لعباده المؤمنين بالنصر في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة.

3 – الاغتباط بأحكامه سبحانه وشريعته الكاملة الشاملة التي تكفل الخير والسعادة والأمن الشامل لكل الضروريات الخمس التي يعيش الناس بالمحافظة عليها في أمن شامل في أنفسهم وبيوتهم ومجتمعاتهم، بل هو أمان للبشرية بأسرها لو أخذت به، وخضعت لأحكامه، بل هو أمان في الآخرة من عذاب الله تعالى وهذا الاغتباط يثمر في قلب المؤمن سرورًا وفرحًا بهداية الله – عز وجل – له إلى ذلك، كما يثمر همة وعزيمة ونشاطًا إلى الدعوة إلى هذا الدين القويم، وتبليغه للناس لعلهم يدخلون فيه فينعمون بخيره وأمنه في الدنيا، وبجنة النعيم في الآخرة والتي لا خوف على أهلها ولا هم يحزنون، ويلزم على هذا جهاد الكفار المفسدين الذين يريدون أن يحولوا بين الناس وبين هذا الدين الذي كله أمن وسلام.

4 – الصبر على المصائب والمكاره؛ لأن المؤمن يعلم أنها من عند الله الرحيم الحكيم الذي يُؤَمِّنُ عباده من ظلمه، والذي يجعل فيما يصيب المؤمن خيرًا له وأمنًا في عاقبة أمره وأجله. والله سبحانه لم يبتل العبد ليعذبه، بل ليرحمه ويهذبه.

5 – سلامة القلب نحو عباد الله تعالى وتأمينهم من العدوان والغوائل. فالمتعبد حقًا باسمه سبحانه (المؤمن) يتصف بصفة السلامة ويكف شره وأذاه عن الناس بحيث يأمن الناس شره.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن! قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)9(9) البخاري (6016).، وقال أيضًا: (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)10(10) الترمذي (2772)، والنسائي وحسنه الألباني في صحيح النسائي (4622)..

الهوامش

(1) تفسير الأسماء ص 31.

(2) اشتقاق أسماء الله تعالى ص 385.

(3) انظر أسماء الله الحسنى للأشقر ص 64، 65.

(4) مدارج السالكين 3/ 466.

(5) تفسير السعدي 5/ 301.

(6) تفسير الطبري 28/ 36.

(7) مدارج السالكين 3/ 324.

(8) انظر في تفسير هذه الآية وأقسام الأمن وشموله رسالة “فأي الفريقين أحق بالأمن” للمؤلف.

(9) البخاري (6016).

(10) الترمذي (2772)، والنسائي وحسنه الألباني في صحيح النسائي (4622).

اقرأ أيضا

أسماء الله الحسنى: (3، 4) [الواحد، الأحد]

أسماء الله الحسنى: (7) [الحيُّ]

من أسماء الله الحسنى: [الظاهر، الباطن]

 

التعليقات غير متاحة