إن أجلّ المقاصد وأنفع العلوم العلم بمعاني أسماء الله عز وجلّ الحسنى وصفاته العلا. فإن التعرّف على الله تعالى من خلال أسمائه وصفاته يحقق العلم الصحيح بفاطر الأرض والسماوات، والعلم بأسماء الله وصفاته يستلزم عبادة الله تعالى ومحبته وخشيته، ويوجب تعظيمه وإجلاله.

من أسماء الله الحسنى: الحكيم

ورد اسمه سبحانه: (الحكيم) في القرآن في واحد وتسعين موضعًا. وفي جميع المواضع يرد هذا الاسم الكريم مقترنًا باسم آخر من أسمائه – سبحانه – الحسنى ومن ذلك:

اقترانه باسمه سبحانه (العزيز)

وهو أكثر الأسماء اقترانًا باسمه سبحانه (الحكيم) في القرآن حيث ورد في نحو ستة وأربعين موضعًا من ذلك قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحديد: 1]، وقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة: 38]، وقوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِن اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) [النساء: 56].

اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه – عز وجل – (العليم)

وهذا أيضًا في القرآن كثير حيث ورد في نحو سبعة وثلاثين موضعًا أكثرها بتقديم (العليم) على (الحكيم)، كما في قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النساء: 26]، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِن اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الأحزاب: 1].

وفي مواضع أخرى وهي قليلة ورد تقديم (الحكيم) على (العليم) كقوله تعالى: (قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) [الذاريات: 30]، وقوله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام: 83].

اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (الخبير)

وقد ورد كذلك في أربعة مواضع منها قوله تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 18]، وقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [النبأ: 1].

اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (التواب)

وقد ورد ذلك مرة واحدة في القرآن بتقديم (التواب) على (الحكيم) كما في قوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) [النور: 10].

اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (العلي)

وقد ورد ذلك في القرآن مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الشورى: 51].

اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (الواسع)

ولم يأت هذا الاقتران في القرآن إلا مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) [النساء: 130].

اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (الحميد)

وهذا الاقتران أيضًا لم يرد إلا مرة واحدة كما في قوله تعالى: (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42].

معنى الحكيم من الناحية اللغوية

قال في لسان العرب: “قال ابن الأثير: في أسماء الله تعالى الحكم والحكيم. وهما بمعنى الحاكم. وهو: القاضي فهو فعيل بمعنى فاعل. أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها فهو فعيل بمعنى مفعل. وقيل: الحكيم ذو الحكمة. والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم … “.

وقال الجوهري: والحكيم العالم، وصاحب الحكمة. وقد حَكُم أي: صار حكيمًا.

وحكم الشيء وأحكمه كلاهما: منعه من الفساد ..”1(1) لسان العرب 2/ 951، 953..

معنى هذا الاسم الكريم في حق الله تعالى

يقول الحليمي -رحمه الله تعالى-: “الحكيم: الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب. وإنما ينبغي أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم، كما لا يظهر الفعل على وجه الاختيار إلا من حي عالم قدير”2(2) انظر الأسماء والصفات للبيهقي ص 22..

وقال الطبري رحمه الله تعالى: ” (الحكيم): الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل”3(3) تفسير الطبري 1/ 436..

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: “قد دلت العقول الصحيحة والفطر السليمة على ما دل عليه القرآن والسنُّة: أنه سبحانه (حكيم) لا يفعل، شيئًا عبثًا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل. بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل .. وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا. وهذا في مواضع لا تكاد تحصى، ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها”4(4) شفاء العليل 1/ 190..

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: “و (الحكيم): الموصوف بكمال الحكمة، وبكمال الحكم بين المخلوقات. فالحكيم هو واسع العلم، والاطلاع على مبادئ الأمور وعواقبها، واسع الحمد، تام القدرة، غزير الرحمة. فهذا الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها في خلقه وأمره، فلا يتوجه إليه سؤال ولا يقدح في حكمته مقال … “5(5) الحق الواضح المبين ص 50..

من آثار اسمه سبحانه (الحكيم)

آثار حكمه وحكمته سبحانه وتعالى بادية في خلقه – عز وجل – وفي أمره وشرعه: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 54].

يتناول اسمه سبحانه (الحكيم) معنيين كبيرين:

المعنى الأول: (الحُكم) أي: أن له سبحانه الحكم كله في الدنيا والآخرة. والحكم هنا يتناول الأحكام الثلاثة: الأحكام الكونية القدرية، والأحكام الدينية الشرعية، والأحكام الجزائية، فله الحكم فيها كله لا شريك له في حكمه، كما لا شريك له في عبادته قال سبحانه وتعالى: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) [الكهف: 26].

المعنى الثاني: (الإحكام). أي: الذي له الحكمة البالغة في خلقه وأمره وشرعه فلا يخلق ولا يأمر إلا بما فيه المصلحة والحكمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.

وعن المعنى الأول يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“والحكم نوعان: حكم كوني قدري، وحكم أمري ديني:

الأول: حكم شرعي ديني: فهذا حقه أن يتلقى بالمسالمة والتسليم، وترك المنازعة، بل الانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة فلا يعارض بذوق ولا وجد، ولا سياسة، ولا قياس ولا تقليد. ولا يرى إلى خلافه سبيلاً البتة، وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول، فإذا تلقى بهذا التسليم والمسالمة إقرارًا وتصديقًا بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادة وتنفيذًا وعملاً، فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهة تعارض إيمانه وإقراره، وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق وشهوة تعارض الأمر.. فهذا حق الحكم الديني.

الحكم الثاني الحكم الكوني القدري:

الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة، والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه، فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن، ولا يسالم البتة، بل ينازع بالحكم الكوني أيضًا، فينازع حكم الحق بالحق للحق فيدافع به وله، كما قال شيخ العارفين في وقته عبدالقادر الجيلاني: “الناس إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والعارف من يكون منازعًا للقدر لا واقفًا مع القدر” أهـ.

فإن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه، فتأمل قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وقد عوتب على فراره من الطاعون فقيل له: أتفر من قدر الله؟ فقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله.

…فحق هذا الحكم الكوني أن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه، فإذا غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم، وبهذا أمر، بل هذا حقيقة الشرع والقدر، ومن لم يستبصر في هذه المسألة ويعطيها حقها لزمه التعطيل للقدر أو الشرع شاء أو أبى، فما للعبد ينازع أقدار الرب بأقداره في حظوظه، وأسباب معاشه ومصالحه الدنيوية ولا ينازع أقداره في حق مولاه وأوامره ودينه؟ وهل هذا إلا خروج عن العبودية ونقص في العلم بالله وصفاته وأحكامه؟ ولو أن عدوًا للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله، وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب دفعًا لقدر الله بقدره، فما للاستسلام والمسالمة هنا مدخل في العبودية، اللَّهم إلا إذا بذل العبد جهده في المدافعة، والمنازعة، وخرج الأمر عن يده، فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث.

الحكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته:

فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة، وترك المخاصمة، وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركب في لجة البحر، وعجز عن السباحة وعن سبب يدنيه من النجاة فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة، مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه، وعدله في قضائه، وحكمته في جريانه عليه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة، فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد، فمن رضي، فله الرضى ومن سخط فله السخط، ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم (الحكيم) – جل جلاله – وصفته الحكمة، وأن القدر قد أصاب مواقعه وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به، وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل، فهو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فله عليه أكمل حمد وأتمه، كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره”6(6) طريق الهجرتين 1/ 37، 38، ولم يشر الإمام ابن القيم هنا إلى الحكم الجزائي والذي هو من أنواع الحكم الذي هو لله وحده..

وأما المعنى الثاني: (للحكيم) وهو الموصوف بكمال الحكمة والإحكام والإتقان فينقسم إلى قسمين:

الأول: حكمته سبحانه في خلقه وصنعه.

الثاني: حكمته سبحانه في أمره وشرعه.

وعن هذين النوعين من الحكمة يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: “وحكمته نوعان:

أحدهما: الحكمة في خلقه فإنه خلق الخلق بالحق، ومشتملاً على الحق، وكان غايته والمقصود به الحق، خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام، ورتبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات، وكل عضو من أعضاء الحيوانات خلقته، وهيئته، فلا يرى أحد في خلقه خللاً، ولا نقصًا، ولا فطورًا، فلو اجتمعت عقول الخلق من أولهم إلى آخرهم ليقترحوا مثل خلق الرحمن أو ما يقارب ما أودعه في الكائنات من الحسن، والانتظام، والإتقان لم يقدروا، وأنى لهم القدرة على شيء من ذلك.

وحسب العقلاء الحكماء منهم أن يعرفوا كثيرًا من حِكَمه، ويطلعوا على بعض ما فيها من الحسن والإتقان. وهذا أمر معلوم قطعًا بما يعلم من عظمته، وكمال صفاته، وتتبع حِكَمِه في الخلق، والأمر.

وقد تحدى عباده، وأمرهم أن ينظروا، ويكرروا النظر، والتأمل هل يجدون في خلقه خللاً أو نقصًا، وأنه لا بد أن ترجع الأبصار كليلة عاجزة عن الانتقاد على شيء من مخلوقاته.

النوع الثاني: الحكمة في شرعه وأمره، فإنه تعالى شرع الشرائع، وأنزل الكتب وأرسل الرسل ليعرفه العباد، ويعبدوه، فأي حكمة أجل من هذا، وأي فضل، وكرم أعظم من هذا، فإن معرفته تعالى، وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له وحده، وشكره، والثناء عليه أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق.

وأجل الفضائل لمن منَّ الله عليه بها، وأكمل سعادة، وسرورًا للقلوب، والأرواح، كما أنها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية، والنعيم الدائم.

فلو لم يكن في أمره، وشرعه إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل الخيرات، وأكمل اللذات، ولأجلها خلقت الخليقة، وحق الجزاء، وخلقت الجنة، والنار، لكانت كافية شافية.

هذا وقد اشتمل شرعه، ودينه على كل خير، فأخباره تملأ القلوب علمًا، ويقينًا، وإيمانًا، وعقائد صحيحة، وتستقيم بها القلوب، ويزول انحرافها، وتثمر كل خلق جميل، وعمل صالح، وهدى، ورشد، وأوامره، ونواهيه محتوية على عناية الحكمة، والصلاح، والإصلاح للدين والدنيا فإنه لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مضرته خالصة أو راجحة.

ومن حكمة الشرع الإسلامي أنه كما هو الغاية لصلاح القلوب، والأخلاق، والأعمال، والاستقامة على الصراط المستقيم، فهو الغاية لصلاح الدنيا، فلا تصلح أمور الدنيا صلاحًا حقيقيًا إلا بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذا مشاهد محسوس لكل عاقل، فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لما كانوا قائمين بهذا الدين أصوله، وفروعه، وجميع ما يهدي، ويرشد إليه كانت أحوالهم في غاية الاستقامة، والصلاح، ولما انحرفوا عنه، وتركوا كثيرًا من هداه، ولم يسترشدوا بتعاليمه العالية، انحرفت دنياهم كما انحرف دينهم.

وكذلك انظر إلى الأمم الأخرى التي بلغت في القوة، والحضارة، والمدنية مبلغًا هائلاً، ولكن لما كانت خالية من روح الدين، ورحمته، وعدله كان ضررها أعظم من نفعها، وشرها أكثر من خيرها، وعجز علماؤها، وحكماؤها، وساساتها عن تلافي الشرور الناشئة عنها، ولن يقدروا على ذلك ماداموا على حالهم، ولهذا كانت من حكمته تعالى أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين، والقرآن أكبر البراهين على صدقه، وصدق ما جاء به لكونه محكمًا كاملاً لا يحصل إلا به، وبالجملة، فالحكيم متعلقاته المخلوقات، والشرائع، وكلها في غاية الإحكام فهو الحكيم في أحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية، وأحكامه الجزائية”7(7) الحق الواضح المبين ص 51، 52..

وإن من العجائب أن يظهر في أهل القبلة بعض الطوائف التي تنفي صفة الحكمة لله تعالى حيث لا حكمة عندهم ولا تعليل لأفعال الله تعالى وأحكامه وأقضيته، وإنما هي المشيئة المجردة وهم الذين يعرفون بنفاة الحكمة والتعليل من الجبرية والجهمية ومن تبعهم، ويرون أن كل “لام” في القرآن توهم التعليل إنما هي لام العاقبة، وكل “باء” تشعر بالتسبب إنما هي باء المصاحبة. وقد أطال النفس في الرد عليهم الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – في كتابه النفيس (مفتاح دار السعادة ومنشور دار الولاية) حيث فند مذهبهم هذا في أكثر من ستين وجهًا. وساق في الكتاب أمثلة كثيرة جدًا توضح حكمة الله تعالى وآياته في الآفاق وفي الأنفس، وحكمته سبحانه في دينه وشرعه – أنصح بالرجوع إليها -.

الهوامش

(1) لسان العرب 2/ 951، 953.

(2) انظر الأسماء والصفات للبيهقي ص 22.

(3) تفسير الطبري 1/ 436.

(4) شفاء العليل 1/ 190.

(5) الحق الواضح المبين ص 50.

(6) طريق الهجرتين 1/ 37، 38، ولم يشر الإمام ابن القيم هنا إلى الحكم الجزائي والذي هو من أنواع الحكم الذي هو لله وحده.

(7) الحق الواضح المبين ص 51، 52.

اقرأ أيضا

أسماء الله الحسنى .. المعرفة للتعبد

أسماء الله الحسنى: (8) [القيوم]

أسماء الله الحسنى: [الأول، الآخر]

التعليقات غير متاحة