ما أحوجنا إلى معرفة ربنا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا وما تثمره في قلب المسلم وفي واقع المسلمين من ثمار طيبة يانعة وموازين ثابتة عادلة منضبطة لكل ما يحدث وينزل بالمسلمين من أحداث ونوازل.

من أسماء الله الحسنى: القيوم

ورد هذا الاسم الجليل في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم مقترنًا باسمه سبحانه (الحي) وذلك في قوله عز وجل: (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة: 255].

وقوله سبحانه: (الم * اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [آل عمران:1، 2]، وقوله عز وجل: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه: 111].

ولم يرد هذا الاسم الكريم منفردًا في القرآن الكريم. ولكن ورد ذكر (القائم) في قوله تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) [الرعد: 33]، والقيام على كل نفس من لوازم اسمه سبحانه (القيوم).

أما في السنة فقد ورد مقترنًا باسمه (الحي) كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)1الترمذي (3773)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2796).، وجاء مفردًا مضافًا في قوله صلى الله عليه وسلم في استفتاح صلاة الليل: (اللَّهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن…الحديث)2(2) البخاري (1120)، ومسلم (769)..

معنى القيوم من الناحية اللغوية

قال في اللسان: «معنى القيام: العزم… ويجيء القيام بمعنى المحافظة والإصلاح ومنه قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) [النساء: 34].

وقوله تعالى: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) [آل عمران:75 ] أي: ملازمًا محافظًا، ويجيء القيام بمعنى الوقوف والثبات… وقال قتادة: «القيوم: القائم على خلقه بآجالهم، وأعمالهم، وأرزاقهم»3(3) لسان العرب 5/3781، 3786..

المعنى في حق الله تعالى

ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى معنى هذا الاسم العظيم في أكثر من موطن من كتبه. ومن ذلك قوله: «معنى اسمه (القيوم): هو الذي قام بنفسه فلم يحتج إلى أحد، وقام كل شيء به فكل ما سواه محتاج إليه بالذات»4(4) مدارج السالكين 2/111..

ويقول في موطن آخر: «فالقائم بنفسه أكمل ممن لا يقوم بنفسه، ومن كان غناه من لوازم ذاته فقيامه بنفسه من لوازم ذاته. وهذه حقيقة قيوميته سبحانه. وهو (الحي القيوم) فالقيوم: القائم بنفسه المقيم لغيره»5(5) الصواعق المرسلة 4/1328، 1329..

وقال في موطن ثالث: «وأما (القيوم) فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه لا يحتاج إلى من يقيمه بوجه من الوجوه. وهذا من كمال غناه بنفسه عما سواه، وهو المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته، وهذا من كمال قدرته وعزته»6(6) بدائع الفوائد 2/410..

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عن هذين الاسمين الكريمين: «(الحي) الجامع لصفات الذات. و(القيوم) الجامع لصفات الأفعال»7(7) تفسير السعدي 5/490..

فتضمن هذان الاسمان الكريمان معاني أسمائه وصفاته وأفعاله، ولهذا قيل: إن (الحي القيوم) هو الاسم الأعظم.

ومن معاني (القيوم) الباقي الذي لا يزول، وهذا المعنى قد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله: «لهذا كان اسم «القيوم» يتضمن أنه لا يزول، فلا ينقص بعد كمالِه، ويتضمن أنه لم يزل ولا يزال دائمًا باقيًا أزليًّا أبديّاً موصوفًا بصفاتِ الكمال، من غير حدوثِ نقصِ أو تغيُّرٍ بفسادٍ واستحالةِ ونحو ذلك مما يعتري ما يزول من الموجودات، فإنه – سبحانه وتعالى – «القيوم». ولهذا كان من تمام كونِه قيومًا لا يزولُ أنه لا تأخذه سِنَةٌ ولا نومٌ، فإن السِّنة والنوم فيهما زوال ينافي القيومية، لما فيهما من النقص بزوال كمالِ الحياة والعلم والقدرة، فإن النائم يحصل له من نقص العلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام وغير ذلك ما يظهر نقصه بالنسبة إلى الشيطان. ولهذا كان النوم أخا الموت»8(8) جامع المسائل ت: محمد عزيز شمس، إشراف: بكر بن عبدالله أبو زيد ص 55..

من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين

أولا: التبرؤ من الحول والقوة والافتقار التام لله عز وجل

وإنزال جميع الحوائج بالله عز وجل وإخلاص الاستعانة والاستغاثــة والاعتصام لله عز وجل وقطع التعلق بالمخلوق الضعيف المربوب لله تعالى المفتقر إلى ربه – عز وجل – الفقر الذاتي التام. ولذا وردت الاستغاثة باسمه (الحي القيوم)، كما جاء في الحديث السابق: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)9(9) سبق تخريجه ..

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «انتظم هذان الاسمان صفات الكمال والغنى التام، والقدرة التامة، فكأن المسـتغيث بهما مستغيث بكل اسـم من أسماء (الرب) تعالى وبكل صـفة من صـفاته فما أولى الاستغاثة بهذين الاسمين أن يكونا في مظنة تفريج الكـربات وإغـاثة اللهفات وإنالة الطلبات»10(10) بدائع الفوائد 2/410..

ثانيا: محبته سبحانه وحمده وإجلاله وتعظيمه.

ومع ظهور آثار قيوميته سبحانه لكل شيء من المخلوقات جامدها، ومتحركها، فاجرها، وتقيها إلا أن لآثار قيوميته سبحانه بأوليائه وبمن أحبه شأنًا آخر وطعمًا خاصًا يظهر في حفظه ولطفه ورعايته بعباده المتقين، وهذا يقتضي محبة الله – عز وجل – المحبة التامة، والركون إليه، والتعلق به وحده، والسكون إليه، والرضا بتدبيره.. وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «هو سبحانه (القيوم) المقيمُ لكلِّ شيءٍ من المخلوقات – طائعِها وعاصيها – فكيف تكون قيوميته بمن أحبَّه وتولاه؛ وآثره على ما سواه، ورضي به من دون الناس حبيبًا، وربّاً، ووكيلا،ً وناصرًا، ومعينًا، وهاديًا؟»11(11) طريق الهجرتين 1/281..

ثالثا: دعائه عز وجل دعاء مسألة، ودعاء عبادة

لاسم (الحي القيوم) تأثير خاص في إجابة الدعوات، وكشف الكربات كما جاء في الحديث السابق، وكما جاء في السنن، وصحيح ابن حبان من حديث أنس رضي الله عنه: «أن رجلاً دعا فقال: اللَّهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد دعا باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)12(12) سنن النسائي (1300)، وأبو داود (1495)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1326).، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته المشهورة:

هذا ومن أوصـــــافه القيوم والـ       ـقيوم في أوصــــــــــافهِ أمـرانِ

إحــداهما القيوم قام بنفســــــه       والكــــون قام به هما الأمـــرانِ

فالأول اســــــتغناؤه عــن غيره       والفقـــــــر مـن كل ٍّ إليه الثاني

والوصف بالقيوم ذو شـأن عظيم       هكذا موصوفه أيضًا عظيم الشانِ

والحـي يتلـوه فأوصــاف الكمـا       ل هــما لأفـق ســـمائها قطــبان

فالحيُّ والقيـــوم لن تتخـلَّف الـ        أوصاف أصــــلاً عنهما ببيانِ13(13) الكافية الشافية ص 248.

رابعا: تضمن هذان الاسمان العظيمان جميع الأسماء وصفات الكمال لله تعالى. كما سبق في قول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «فكأن المستغيث بهما مستغيث بكل اسم من أسماء (الرب) تعالى وبكل صفة من صفاته».

وكما قال رحمه الله تعالى في نونيته الشهيرة:

وله الحـياة كمالهـا فلأجــــــلِ ذا     ما للممات عليه من ســـــــلطانِ

وكذلك القيـــــــوم من أوصـافهِ     ما للمنام لديه من غشــــــــــيانِ

وكذاك أوصاف الكـمال جـميعها     ثبتت له ومدارها الوصــــــــفانِ

فمصحِّحُ الأوصاف والأفعال والـ     أســـــماء حقّا ذانك الوصـــفانِ

ولأجـــل ذا جـــاء الحـديث بأنه     في آية الكرسـي وذي عمــــــرانِ

اسم الإله الأعظم اشتمـلا على اسـ     م الحيِّ والقيــــــــــــوم مقترنانِ

فالكلُّ مرجعها إلى الاســــمين يد     ري ذاك ذو بصرٍ بهـــذا الشانِ14(14) المصدر السابق ص 65، 66.

خامسا: الخوف منه سبحانه ومراقبته

لأنه القائم على كل نفس، المتولي أمرها، الحافظ لأعمالها الذي لا يخفى عليه شيء من أمرها.

يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: عند قوله تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) [الرعد: 33].

«القائم الحفيظ والمتولي للأمور. وأراد سبحانه نفسه فإنه المتولي لأمور خلقه، المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق، وإحصاء الأعمال على كل نفس»15(15) فتح القدير 3/120..

اسم الله (القيوم) وآثاره في الأحداث المعاصرة

نظراً لضخامة الحوادث في زماننا اليوم وتسارعها ومفاجآتها حتى أصبح المرء يتوقع في كل يوم يستيقظ فيه حوادث ومفاجآت جديدة، تنسيه ما حدث بالأمس، ونظراً لانصراف كثير من الناس عن ربط هذه الأحداث بتدبير الله عز وجل وقيوميته وحكمته ورحمته ولطفه إلى ربطها بتفسيرات مادية وتحليلات سياسية متخبطة، فنظراً لذلك كله رأيت أن أنبه نفسي وإخواني المسلمين إلى أن نرتبط بالله عز وجل وأن نتعرف على أسمائه الحسنى وصفاته العلى وآثارها في النفوس والآفاق والأحداث والنوازل، فما أشرفه من علم وما أسعد من وفقه الله إلى هذا العلم بمعرفة الحق والهداية إليه والانقياد له.

ويمكن زيادة البيان حول هذه المعاني في الأمور التالية:

الأمر الأول

إن تدبر معاني أسماء الله عز وجل ومنها اسمه سبحانه «القيوم» يزيد من يقين المسلم واطمئنانه على أن كل ما يجري في ملكوت الله عز وجل علويه وسفليه من خلق أو أمر إنما يقع بعلم الله وإرادته وإذنه، فهو المقدر له الخالق لجميع الخلق وأفعالهم، وأن كل ما يقدره سبحانه ويخلقه ويوجده ناشئ عن علمه وحكمته سبحانه وقهره وعزته وعدله ولطفه ورحمته، والعارفون لربهم سبحانه المدركون لهذه المعاني والمسلمات هم الذين يعيشون في طمأنينة وحسن ظن بالله تعالى في كل ما يقدره سبحانه، ويوقنون أن أقضيته قد وقعت في مواقعها التي ينبغي أن تقع فيها، علم الحكمة منها من علم وجهلها من جهل، ومثل هذا الشعور يجعل المؤمن يتلقى أقضية ربه بطمأنينة غير متفاجئ أو مستغرب منها، لعلمه أن الخلق والأمر له وهو مقتضى أسمائه الحسنى وسننه العادلة المطردة التي لا تتبدل.

ولا يعني هذا الرضا الاستسلام لأقدار الله عز وجل الكونية التي يمكن مدافعتها، وإنما الواجب أن ندافع أقدار الله بأقدار الله، فكما ندافع قدر الجوع بالأكل، والمرض بالتداوي، كذلك ندافع كل نازلة كونية بقدر آخر من أقدار الله ندافعها به إن أمكن ذلك، وذلك بالقيام بالأسباب الدافعة لها، فيدفع مثلاً قدر تسلط الأعداء وغزوهم العسكري أو العقدي أو السلوكي بقدر آخر أمرنا الله عز وجل به، وهو مدافعة ذلك كله بجهاد الدفع، إن كان عسكرياً فبالسنان، وإن كان فكرياً فبالحجة والبيان، وإن كان سلوكياً فبالتربية والتحصين والاحتساب.

الأمر الثاني

إذا استقر في حس المؤمن أن كل ما يجري في السماوات والأرض من قضاء الله وقدره إنما هو بعلم الله عز وجل وإذنه فيه وخلقه وقهره وعزته ولو شاء الله لما كان ووجد، وأن الخلق جميعهم تحت قهره وعزته وقوته نواصيهم بيده لا يستطيعون فعل أي شيء إلا بإذنه سبحانه، إذا استقر هذا في قلب المؤمن فإنه حينئذ يغيب في شهود قيوميته سبحانه وقهره وعزته عن شهود أفعال العباد وتدبيرهم والخوف منهم أو رجائهم أو ابتغاء مرضاتهم وتقديم محابهم على محاب الله عز وجل. فيغيب في تدبير الله عز وجل وعزته وقهره وشهود حكمته ولطفه عن شهود تدبير العباد وقوتهم فلا يراهم شيئاً، وإن كان مأموراً بأن يحذرهم ويأخذ بالأسباب التي تبطل باطلهم وتدفع صيالهم، فيغيب في إرادة الله عز وجل وتدبيره عن إرادة غيره وتدبيره، وبمحبته عن محبة من سواه، وبخوفه عن خوف من سواه، وبرجائه والتوكل عليه عن رجاء من سواه، فلله كم تثمر هذه المشاهد في قلب المؤمن من المحبة لله سبحانه وتجريد الخوف والرجاء والإخلاص له والنظر إلى المخاليق الضعاف مهما بلغوا من القوة والبطش على أنهم في قبضة الله عز وجل ونواصيهم بيده ولا يستطيعون تدبير أمر أو فعل شيء إلا بإذنه وحكمته ولطفه بعباده المؤمنين، قال الله عز وجل عن نبيه هود عليه السلام حينما هدده قومه قوم عاد الشداد: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنظِرُونِ 55 إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 55، 56].

كم نحن في حاجة لإحياء هذا البعد وهذه المعاني في نفوسنا ونفوس المسلمين حتي يضعوا الأمور في مواضعها الصحيحة ويزنوها بميزان الله عز وجل القسطاس المستقيم، وذلك بأن يغيب في تدبير الله وإرادته ومحبته والخوف منه ورجائه عن تدبير وإرادة ومحبة من سواه وعن الخوف مما سواه.

الهوامش

(1) الترمذي (3773)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2796).

(2) البخاري (1120)، ومسلم (769).

(3) لسان العرب 5/3781، 3786.

(4) مدارج السالكين 2/111.

(5) الصواعق المرسلة 4/1328، 1329.

(6) بدائع الفوائد 2/410.

(7) تفسير السعدي 5/490.

(8) جامع المسائل ت: محمد عزيز شمس، إشراف: بكر بن عبدالله أبو زيد ص 55.

(9) سبق تخريجه .

(10) بدائع الفوائد 2/410.

(11) طريق الهجرتين 1/281.

(12) سنن النسائي (1300)، وأبو داود (1495)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1326).

(13) الكافية الشافية ص 248.

(14) المصدر السابق ص 65، 66.

(15) فتح القدير 3/120.

اقرأ أيضا

كيف يكون الإيمان بالأسماء والصفات

قواعد وتنبيهات على أسماء الله الحسنى

أسماء الله الحسنى: (7) [الحيُّ]

أسماء الله الحسنى: (3، 4) [الواحد، الأحد]

 

التعليقات غير متاحة