إن العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله أجلَّ العلوم وأشرفها وأعظمها، فهو أصلها كلُّها، وكلُّ علم تابع له مفتقر إليه، فالعلم به أصلُ كل علم ومنشأه، فمن عرَفَ الله عرف ما سواه، ومن جهل ربَه فهو لما سواه أجهل.

مقدمة

إن الله عز وجل خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له . وجعل لهم أجلا لا ريب فيه، حيث يرجعون إليه سبحانه فيحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون ، ثم إن الله سبحانه وتعالى قد ركب في فطر خلقه الاستعداد للتوحيد ، والانجذاب إليه سبحانه فيما لو تركت النفس بدون مغير؛ كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي «إني خلقت عبادي حنفاء … الحديث»1(1) صحیح مسلم ۔ کتاب الجنة وصفة نعيمها (2865). .

وقد أودع عز وجل في هذا الكون من الآيات الباهرات التي تدل عليه سبحانه وأنه وحده الخالق المدبر لهذا الكون، وأنه هو المستحق للعبادة وحده .

ولكن مع كل هذا الاستعداد الفطري للتوحيد ومعرفة الله عز وجل بآياته إلا أنه سبحانه وتعالى وبواسع رحمته ، وعظيم إحسانه لم يكلنا إلى فطرتنا وحدها ؛ ذلك لما يعتري الفطرة السليمة من الفساد والركام بفعل المؤثرات.

الخارجية أولا ، وثانيا : لأن الفطرة الإنسانية مهما كانت سليمة وموحدة لبارئها وعالمة به في الجملة ؛ إلا أن هذا العلم والتوحيد سيبقى مجملا وناقصا .

حاجة البشرية للرسل الكرام عليهم السلام

ومن أجل ذلك أرسل الله عز وجل الرسل عليهم الصلاة والسلام لیزیلوا ركام الوثنية والشرك الذي تراكم على النفوس ليردوها إلى التوحيد الخالص لله عز وجل ويعرفوهم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى والتي لا تدركها الفطرة بدون معلم، كما يعلمونهم الأحكام ، والتشريعات الربانية التي تصلح أمور دينهم ودنياهم ، ويعلموهم أن لهم میعاد يوم لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون ، وأن هناك جنة ونارا وللجنة أهلون لهم صفات يلقون بها ، وللنار أهلون لهم صفات يستحقون العذاب بسببها، وكل هذه المعارف والعقائد لا تعرف لولا رحمة الله عز وجل، بإرسال الرسل وإنزال الكتب. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ۲۰].

المقصود بالإيمان بأسماء الله وصفاته

ومن أمور التوحيد التي فصلها سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أمر أسمائه الحسنى وصفاته العليا، التي يعرف بها العباد خالقهم ورازقهم ومعبودهم سبحانه حتى يقدروه حق قدره ، ويعبدوه حق عبادته ، ولتمتلئ النفوس بعظمته وجلاله وليتعبدوا له سبحانه ويدعونه بها، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ۱۸۰].

وإن توحيد الأسماء والصفات له شأن عظيم ، وأثر كبير في النفوس والقلوب ، ولا يصح إيمان عبد إلا بإيمانه بأسماء الله عز وجل وصفاته ، ولكن ما معنى الإيمان بالأسماء والصفات ؟ .

إن الإيمان بأسماء الله عز وجل وصفاته لا يتم على الوجه الصحيح إلا أن ينبني الفهم فيها على ثلاث أسس مهمة ذكرها الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى في محاضرة له عن ( منهج دراسة لآيات الأسماء والصفات) ، قال في خاتمتها: إنا نوصيكم وأنفسنا بتقوى الله ، وأن تلتزموا بثلاث آيات من كتاب الله :

الأولى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشوری : ۱۱] ؛ فنزهوا رب السموات والأرض عن مشابهة الخلق .

الثانية: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشوری : ۱۱] ؛ فتؤمنوا بصفات الجلال والكمال الثابتة بالكتاب والسنة، على أساس التنزيه كما جاء ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ بعد قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.

الثالثة: أن تقطعوا أطماعكم عن إدراك حقيقة الكيفية ؛ لأن إدراك حقيقة الكيفية مستحيل ، وهذا نص الله عليه في سورة طه ؛ حيث قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ۱۱۰].

وإن هذا الذي ذكره الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في المنهج الصحيح لفهم الأسماء والصفات ، لابد أن ينضم إليه الشعور بآثارها القلبية، والتعبد لله عز وجل ودعائه بها ، وإلا لن يتم الإيمان بالأسماء والصفات كما آمن به سلف الأمة الذين جمعوا بين الفهم والعمل ، ونظروا إلى كل اسم من أسماء الله عز وجل بأن فيه حقا من العبودية لله عز وجل على العباد، يتعبدون الله سبحانه وتعالی به .

ثمرات الإيمان بالأسماء والصفات

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالی :

(والأسماء الحسني والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر ، اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين ، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها؛ أعني من موجبات العلم بها ، والتحقق بمعرفتها ، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح .

فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة ؛ يثمر له عبودية التوكل عليه باطنا ، ولوازم التوكل وثمراته ظاهرا .

وعلمه بسمعه تعالى وبصره، وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، وأنه يعلم السر وأخفى ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؛ يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله . وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك الحياء باطنا ، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح .

ومعرفته بغناه ، وجوده ، وكرمه، وبره ، وإحسانه، ورحمته ؛ توجب له سعة الرجاء ، ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه ، وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة. وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواع من العبودية الظاهرة هي من موجباتها .

وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية ، فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها ارتباط الخلق بها ، فخلقه سبحانه وأمره هو موجب أسمائه وصفاته في العالم وآثارها ومقتضياتها)2(2) مفتاح دار السعادة ص424. .

وقال رحمه الله تعالى:

(وأحب الخلق إلى الله من اتصف بمقتضيات صفاته فإنه كريم يحب الكريم من عباده وعالم يحب العلماء وقادر يحب الشجعان وجميل يحب الجمال…، وهو سبحانه وتعالى رحيم يحب الرحماء، وإنما يرحم من عباده الرحماء، وهو ستير يحب من يستر على عباده، وعفو يحب من يعفو عنهم، وغفور يحب من يغفر لهم، ولطيف يحب اللطيف من عباده، ويبغض الفظ الغليظ القاسي الجعظري الجواظ، ورفيق يحب الرفق، وحليم يحب الحلم، وبر يحب البر وأهله، وعدل يحب العدل، وقابل المعاذير يحب من يقبل معاذير عباده، ويجازي عبده بحسب هذه الصفات فيه وجوداً وعدماً، فمن عفا عفا عنه ومن غفر غفر له ومن سامح سامحه ومن حاقق حاققه، ومن رفق بعباده رفق به، ومن رحم خلقه رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن صفح عنهم صفح عنه، ومن تتبع عورتهم تتبع عورته، ومن هتكهم هتكه وفضحه، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن شاق شاق الله تعالى به، ومن مكر مكر به، ومن خادع خادعه، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة.)3(3) الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص34..

خاتمة

مما سبق ، يتبين أن المقصود من الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات ليس مجرد المعرفة الذهنية فقط ، وإنما المقصود أن نفهمها كما فهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام لفظا ومعنى ، والتعبد لله سبحانه وتعالى بها والعمل بمقتضاها .

ولقد أحدث أهل الكلام وتلامذتهم من المبتدعة حدثا كبيرا في هذا الركن الركين من التوحيد ؛ حيث تحول التعبد لله تعالى بأسمائه وصفاته إلى جدل كلامي ، ودراسات فلسفية ، وانعكس ذلك بدوره حتى على الذين يدرسون أو يدرسون الأسماء والصفات على منهاج أهل السنة والجماعة ، فقلما نجد من الدارسين أو المدرسين لهذا العلم العظيم من يشير إلى المقصود الأساسي من دراسة هذا العلم ؛ ألا وهو التعبد لله تعالى بأسمائه وصفاته والعمل بمقتضاها كما مر بنا في كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالی.

الهوامش

(1) صحیح مسلم ۔ کتاب الجنة وصفة نعيمها (2865).

(2) مفتاح دار السعادة ص424.

(3) الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص34.

اقرأ أيضا

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (1-7) علوم ضرورية، العلم بالأسماء والصفات

فبهداهم اقتده .. العلم بالله وكمال التوحيد

آثار التوحيد في حياة الأمة

 

التعليقات غير متاحة