أطلق الشيخ “سفر الحوالى” سهما لا يزال يصيب، وأضاء شعلة لا تزال ترسل قبسا بعد قبس. سينطق الكثير ويتحرك الراكد، وعلى الله تعالى التوكل لإيقاظ الأمة.

الصدق إذا أقفر الأمل

إن قمة الصدق مع الله أن يجود المسلم بأغلى ما يملك في مواطن الجود التي تخاذل عنها الكثير، وما تخاذل المتخاذلون إلا لأن الضريبة المدفوعة كبيرة وسياط الجلادين مؤلمة وأن الكآبة شديدة عند مفارقة العيش الرغيد إلى سجنٍ مظلم أو بلدٍ مقفر.

ولعل من أهم مواطن الجود وميادين التضحيات؛ موطن الصدع بكلمة الحق في وجه سلاطين الجور وأئمة الظلم، والذي يُعد من أعظم الجهاد لما فيه من تحقق الهلاك، وتيقن البطش، وتحتم عقوبة الظالمين، قَالَ الْخَطَّابِيُّ:

وإنما صار ذلك أفضل الجهاد لأن من جاهد العدو كان مترددا بين الرجاء والخوف لا يدري هل يَغْلِبُ أَوْ يُغْلَبُ، وصاحب السلطان مقهور في يده، فهو إذا قال الحق وأمره بالمعروف فقد تعرض للتلف، وأهدفَ نفسه للهلاك، فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف.(1)

تعيش الأمة المسلمة مرحلة حرجة في تاريخها؛ تكالبت عليها الأمم الأخرى لطعنها في مقتل وجودها الثقافي والديني بل والبشري والديموغرافي، شارك في ذلك ملوك الجور وطغاة الظلم ومن سار في ركبهم من سحرة الإعلام ودهاقنة الفكر ومنافقو السياسة وعلماء السلطان..

إقدام عن بينة

لم يكن سفر الحوالي يجهل مصيره بعد نشره “المسلمون والحضارة الغربية” بل ولا مصير أعز الناس إليه وأقربهم منه، لكنه ذا نفس كبيرة لا تبالي بالآلام في سلوك طريق الصدق، ولا تهاب الصعاب حين تسير في درب الشهداء…

لم يكن سفر الحوالي مثقلا بأعطيات الملوك، ولم يكن متفلسفا ومنظرا لأوهام اسمها استراتيجيات، ولم يكن مكبَّلا بقيود حزب يراعي مصلحته السياسية على حساب مصلحة الأمة، ولم يكن محبوسا في قبو جماعات تلاعبت مخابرات الدول بفكرها وتوجهها وطرحها؛ بل كان حراً في فكره، حراً في رزقه، حراً في نصحه للأمة… ومن كان حراً كان الصدق رفيقه، والإخلاص دافعه، والقرب من الحق أهم خصائصه.

“سفر” وما أدراك ما “سفر” .. اسمه يغني في التعريف به عن كل لقب.. فلا يحتاج في التعريف بعلمه إلى لقب “دكتور”، ولا ينقصه في التعريف بمكانته مصطلح “شيخ”، ولا يعوزه في بيان شجاعته مسمى “مجاهد”…

أتُجهل الشمس أو يُسْتنكَر القمر

مواهب ربانية، لمواقف شريفة

وقف سفر الحوالي موقف ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في عصره في ميادين العقيدة والتوحيد؛ مؤصلا ومدافعا ومحققا ومدققا، بطرح أصيل، وعلم غزير، وفهم ثاقب، أذهل كل من استمع إليه أو قرأ ما خطه بنانه، فقد شرح عقيدة الطحاوي بشرح لم يسبق إليه، وخط قلمه المجلدات ونطق لسانه بالكلمات في الرد على أهل البدع والإرجاء، وعلى أرباب العلمنة ودعاة التغريب، وكتب إلى الملوك والرؤساء والعلماء رسائل النصح الصادق والإنكار الواضح بقلم العالم الرباني والسياسي الخبير.

تأهل بعلمه في الشريعة والواقع إلى أن ينظر في القضايا والحوادث والمسائل بنظر العالِم الشرعي، وبصيرة السياسي الواعي، فوقف موقف أحمد بن حنبل، رحمه الله، حينما أفتى علماء زمانه بجواز الاستعانة بالأمريكان في حرب الخليج الأولى تحت مبرر جواز الاستعانة بالكافر في أمور القتال من غير تحقيق لمناط الحكم، أو تنقيح لمناط الواقعة، فبيّن الحوالي من خلال كتابه “وعد كيسنجر” أن قضايا السياسة لا تعالَج بالنظر العلمي دون البعد الواقعي، ذاكراً فيه خيوط المؤامرة، وحقيقة المعركة، ومستقبل الحدث.

وكان من أثر هذا الموقف الشجاع أن تعرّض لسجنٍ وتعذيبٍ لكنه ظل ثابتا على قوله، حتى أثبت الواقع الحق الذي نطق به.

واليوم يقف الحوالي موقف أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، في عالَم تعالت فيه أصوات الردة..

عالَم أحاطت بالإسلام وأهله مؤامرات أعداء الداخل والخارج..

عالَم خنس فيه صوت الحق، وآثر أهله منهج السلامة، وسلك كثير من مدّعيه سلوك التحريف، ولبَّس الجمُّ الغفير من حملته على الأمة دينَها وواقعها؛ بفتوى فقيه، أو هرطقة سياسي، تحت مبررات شتى؛ ظاهرُها فلسفة وتنظير، وباطنُها خوف وطمع، خوف من دفع الضريبة، وطمع في عطايا الملوك..

[اقرأ المزيد: “سفر الحوالي” .. الى كرامة السجن]

رسالة “المسلمون والحضارة الغربية”

وفي ظل هذا الظلام الدامس أشرق نور “سفر الحوالي” عبر شمس “المسلمون والحضارة الغربية” والتي أنارت عقولا قد غطّاها تلبيس المرجفين، وأزالت اليأس عن نفوسٍ وقفت في صف المتخاذلين.

لم يكن “المسلمون والحضارة الغربية” مجرد كتاب سُودت صفحاته بالمداد في علوم مكررة تمل منها النفوس، أو أفكار مستأجرة وجدت لتلميع الباطل، أو فلسفات سياسية وضعت لترسيخ حكم الطغاة.. بل هو دستور يرسم معالم الحاضر لمستقبل أفضل، وكتاب أعذر صاحبه إلى الله تعالى ليرفع الإثم عن العاجزين، ونور يبدد ظلمات الجاهلية المعاصرة والردة العارمة في الواقع والسياسة والفكر.

“المسلمون والحضارة الغربية” رسالة للتاريخ أنه لا يزال في هذه الأمة رجال صادقون يصدعون بكلمة الحق في وجه الطغاة..

رسالة إلى سلاطين الجور والخيانة أن في الأمة علماء أحرارا لا يُفتنون بأموالكم العفنة، ولا يهابون سجونكم المظلمة، ولا يخافون سيوفكم المسلطة..

رسالة إلى الغرب النصراني عموما وإلى راعية الإرهاب أمريكا؛ لا تفرحوا بمؤتمرات الخيانة التي يمجدكم فيها دعاة التغريب وفقهاء العلمنة ودراويش الصوفية وعلماء السلاطين؛ ففي الأمة سفر الحوالي؛ وهو بهذا الكتاب يبعث الحياة من جديد في مئات من أمثال سفر الحوالي كانوا فقط بحاجة إلى قدوة يقف في طريقكم العفن فكان لها العالم البطل سفر الحوالي، وأنعِم بسَفر.

“المسلمون والحضارة الغربية” نداء إلى علماء الشرع ورجال الدعوة والمشاركين بالسياسة؛ ما الذي يمنعكم من قول كلمة الحق، أو النصح للأمة بصدق

ما الذي يخيفكم من بيان الواقع كما هو، أو العمل للإسلام بصورة جادة؟

ما الذي يُقعدكم عن التفاني في سبيل الله سبحانه ببذل الغالي والنفيس؟

فإن السجن خلوة، والقتل شهادة، والتهجير سياحة، وكلها مغانم وليست مغارم.. لا قيمة لأشخاصكم ومؤسساتكم وأحزابكم ومصالحكم إذا كانت عائقا عن نصرة الحق ومقاومة العدوان؛ فما تدفعونه من ضريبة الوقوف مع الباطل أو مداهنة أهله أو السكوت والصمت، أشد وأقصى من ثمن الأخذ بالحق بقوة، والعمل له بصدق وإخلاص.

[للمزيد: المسلمون والحضارة الغربية .. كتاب أم شهادة!]

وجوب النشر

سطر “الحوالي” سِفراً جليلاً ينبغي أن يقرأه من أراد معرفة الواقع كما هو من غير كذب ولا خداع..

ينبغي أن تُعقد المجالس في تدارسه والاستفادة منه، وينبغي أن يلخص في المنابر ويُعرض للأمة والأجيال التي تلاعب بفكرهم المرجفون، وضحك على عقولهم دهاقنة الإعلام.

كما ينبغي أن تتشرف دور النشر بطباعته؛ فهو كتاب علم وبصيرة، وكتاب سياسة وحقيقة، وكتاب تاريخ وواقع.

وجوب سكوت البعض!

وفي الأخير: على من عجز عن قول الحق ضعفا، أو داهن الباطل سياسةً، أو خذل شباب الأمة عن نصرة الحق خوفاً، أو غرر بهم في معارك تخدم الطغاة مصلحةً.. أن يصمت عن نقد الشيخ بفلسفة جبانة، وأن يسكت عن الطعن في الشيخ بتنظير أحمق؛ ومن تجرأ على ذلك فلينتظر لعنة التاريخ والأجيال..

وصدق العشماوي حين قال في سفر الحوالي:

حبيبــــــنا سفر الأخلاق يا رجـــــلا … به الرجولة والأخــــــــــلاق تفتخر
بصيرة شاهدت من حال عالِمَنــــــا … ما لو رأى مثلها ، لاسـتعبر الحجر
كم صرخة حمِّلت بالحب أطلقــــها  … مذكَّرا أمَّةً قد مسّـــــــــها الضــرر
نادى بني قومه في ليـلةٍ غُمِسَت  … في بحر ظلمائها، والقلب منكسر
ستذكرون حديثي ، حين تدهمكم  … جحافل الروم عنها الليل ينحــسر
نادى ، فأبرأ بالتذكيــــــر ذمـــــــته  … وربما ينفع التذكــــــير والنــــــــذر
لك المشاعر نبع الحب أرســــلها   … نهرا تدفق بالأشــــواق يا ســــفر

……………………………………..

الكاتب:

  • د. أسعد الغامدي. أستاذ الفقه وأصوله

هوامش:

  1. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح – ج 7 – القصاص – الديات – الحدود، صـ 257، إهداء الديباجة بشرح سن ابن ماجة – ج 5، صـ 371.

اقرأ أيضا:

  1. “سفر الحوالي” .. الى كرامة السجن
  2. المسلمون والحضارة الغربية .. كتاب أم شهادة!
  3. الأمة تفتقدكم .. فأين أنتم يا معشر العلماء
  4. مسؤولية الفرد عن انتكاسة الأمة.. (1-2) التكاليف الفردية والجماعية

التعليقات غير متاحة