الشهوات مركبة في الإنسان لتنمية الحياة، لكن ثمة انحرافات تطرأ، وثمة خنادق تضغط في اتجاهها. وعلى المسلم السلامة من شرها، وحسن التوجيه لها.
مقدمة
في هذا العصر ومع غلبة الغرب على المسلمين نشروا إباحيتهم بل وضغطوا لاتساع مجالها. ومع غيبة عقلاء الأمة وحكمائها صار أصحاب الشهوات “حمَلَةَ راية” لترسيخ الإباحية وتغيير عقلية المسلمين وتربية أبنائهم على أساسها؛ وليسوا أصحاب شهوات على جهة الفسق فقط.
أصبح هؤلاء من يوجهون ويضغطون في الإعلام والإعلان والتعليم والأوضاع العامة، بل وحمايتها تحت مسميات: “الفن”، “الحرية”، والحداثة”.. وليس لهم من هذه الصفات شيء لكنها مجرد الشهوة “مزوَّقة”.
وصارت مداعبة هذه المشاعر واستدعائها ـ بل والضغط عليها ودغدغتها ـ منهجًا ثابتًا، زيادة إلى أنها غريزة مخلوقة في الناس لأداء وظيفة مقصودة. والنتيجة أنْ طغى الانحراف واستعلن حتى صار البعض يقول “لولا الشهوة لكنت متدينًا”..!
وصار صرف الشباب بالذات عن دينه وعن قضايا أمته من هذا الباب.
[للمزيد: الفُسّاق .. أدوات الغرب وطمع الملحدين]
علاج الداء من كتاب الله
وعلاج الأمر له مآخذه، أيُّ مأخذ منها ينجع في نفس العبد فليأخذه.
فمن نظر في كتاب الله تعالى طالبًا شفاء مرضه وجد القرآن يصف هذه الشهوة بالذات ـ شهوة النساء ـ والميل بسببها إلى الزنا سماها مرضًا: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب: 32]، على أحد القولين في الآية وهو الراجح في هذا الموطن، ولعلاجه في القرآن مآخذ:
النظر في آيات الوعيد والتصور التام للقيامة
وكذلك للنار وتصورها تصورًا تامًا، فإن الله تعالى أنزلها يخوف بها عباده ليتقوا سخطه تعالى، يقول بعض العُبّاد: “إن الخوف إذا سكن القلب طرد منه الشهوات”.
استهداف الغاية التي كلفنا الله بها وخلقنا من أجلها
فإذا انشغل بها العبد أخذت الشهوة حجمها الطبيعي: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]، ﴿حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه﴾ [الأنفال: 39].
وهي غايات تحتاج لأعمار وجهود، وهي غايات مباركة، تحبها الفطرة ولها في عمقها صدى، وفِطرُنا تتلذذ بهذا الجهد وبهذا العطاء، وتذوق به ما تتضاءل لذَّات أخرى بجانبها، وفي الحديث: «جاهدوا في سبيل الله فإن الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى باب من أبواب الجنة ينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم». (1مسند أحمد بن حنبل، جـ 5، ص 314)
ونقصد بالجهاد بذل الجهد عمومًا لله تعالى إن كان دعوةً أو بلاغًا أو قتال ذود عن حياض الأمة وإعلاءً لكلمة الله.
وذلك أن من يعمل لله تعالى يجد من اللذة والنعيم والمتعة في البذل والعطاء لله تعالى ما يملأ صدره ويريح قلبه، ويستغني به عن اتساع حجم الشهوة في نفسه.
ولا نعني بكلامنا ترك ما أباح الله؛ لكن يأخذ كل شيء حجمه في نفسه ثم يباشر ما أباحه الله تعالى.
فالقاعدة المهمة جدًا هنا أن الكثير من الشهوات وسلطانها المستولي على النفس نابع من الفراغ، فإذا جاءت الشهوة العارضة فصادفت قلبًا خليّاً تمكنت به واستولت على صاحبه، والشر يرجع عمومًا إلى العدم من الخير. (2راجع ابن القيم، مدارج السالكين،حيث يقول رحمه الله :« فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه» مدارج السالكين ، جزء 2، صفحة 199»).
أما إذا صادفت قلبًا ممتلئًا بحب ربه وإيثاره وإيثار مرضاته وخوفه والانشغال بمهام الوصول إليه، فلا يمكن لهذه الشهوات أن تتمكن منه بل لها حجمها الفطري محكومة بأمر ربه الذي يحكّمه دومًا على أعماق نفسه.
وانظر ما قاله شيخ الإسلام عن عشق امرأة العزيز ليوسف أنه إنما كان لشركها، وكذا ما حكاه القرآن عن عشق قوم لوط للغلمان إنما كانوا مشركين .. توزع الحب في قلوبهم وفرغ من إرادة الله تعالى وحبه .. أما الممتلئ بحب ربه تعالى مفردًا إياه بإرادة قلبه فلم يحْكِ عنهم تعالى هذا، فإن يوسف عليه السلام لم يعشق امرأة العزيز لتوحيده وامتلاء قلبه بحب ربه تعالى.
طلب المعالي في الدنيا وفي الجنة
بالتوق إلى المعالي والعيش الكريم، وطلب القرب والجوار لرب العالمين في جنته.
وانظر إلى آيات آل عمران: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14].
ثم أعقبها تعالى بالبديل الأخروي: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 15].
يقول البيضاوي:
“وقد نبه بهذه الآية على نِعَمِه؛ فأدناها متاع الحياة الدنيا، وأعلاها رضوان الله تعالى لقوله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ﴾، وأوسطها الجنة ونعيمها”. (3تفسير البيضاوي، جـ 1، ص 15)
فمـن أراد العـلا .. وكانت نفسه له تواقـة لم يجـد مثل هذا الذي طلبه الأولون والآخرون من الصالحين.
النظر إلى البديل الأخروي من جنس ما تركت
وذلك بالنظر إلى البديل الأخروي من نفس جنس ما نهاك عن قرب بعض أنواعه في الدنيا؛ بتدبر تفصيل ما أعدّه الله تعالى في الجنة من نفس جنس ما يترك من أجل الله تعالى:
1) ﴿وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾ [الواقعة: 22 – 23]، أي: كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه». (4تفسير ابن كثير ، جـ 4، ص 363)
2) ﴿وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ [الواقعة: 34 – 38].
يقول النسفى:
“﴿فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً﴾ عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارًا، ﴿عُرُباً﴾.. جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل، ﴿أَتْرَاباً﴾ مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين وأزواجهن كذلك”. (5تفسير النسفي، جـ 4، ص 208)
3) ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ [الصافات: 48 – 49].
يقول ابن كثير:
“وقال الحسن: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ يعني: محصون لم تمسه الأيدي، وقال السُدّي: البيض في عشه مكنون، وقال سعيد بن جبير ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ يعني: بطن البيض وقال عطاء الخراساني هو السحاء الذي يكون بين قشرته العليا ولباب البيضة وقال السدي: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ يقول بياض البيض حين نزع قشرته”. (6تفسير ابن كثير ، جـ 4، ص 10)
ويقول:
“وفي بعض الأحاديث: رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشر”. (7المصدر السابق، جـ 4، ص 369)
4) ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: 56 – 59].
يقول ابن كثير:
“أي: غضيضات عن غير أزواجهن فلا يرين شيئًا في الجنة أحسن من أزواجهن قاله ابن عباس وقتادة وعطاء الخراساني وابن زيد وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها: والله ما أرى في الجنة شيئًا أحسن منك ولا في الجنة شيئًا أحب إليّ منك فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك.
عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقيها من وراء سبعين حلة من حرير حتى يرى مخها»، وذلك قول الله تعالى: ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾، فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه وهكذا رواه الترمذي”. (8المصدر السابق، جـ 4، ص 355)
5) ﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً﴾ [النبأ: 33]
“أي: نواهد يعنون أن ثديهن نواهد لم يتدلين لأنهن أبكار عرب أتراب أي: في سن واحد”. (9المصدر السابق، جـ 4، ص 598)
معرفة الدرك الذي يريد الشيطان منا الوصول إليه
﴿إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6].
﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 169].
﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً﴾ [النساء: 28]، يعني: قاعا ليس له حدود.
وقد سمعنا في الغرب ما هو أغرب من الخيال، وما لا تشتهيه البهائم .. من الزنا المطلق إلى زنا المحارم إلى الزنا بالحيوانات إلى القتل مع الزنا .. قتل حقيقي!!.
﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً﴾ [النساء: 120].
خاتمة
ثمة مآخذ عديدة لتجنب الفتن والوقوع في الشهوات؛ منها:
“الزهد في الدنيا وتذكر الموت والرغبة في الآخرة، وكثرة العبادة والعمل الصالح وذكر الله سبحانه، مجالسة الصالحين والمباعدة من المفسدين وأهل الشهوات، التربية الجادة داخل الأسر وفي دور التعليم. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإشاعته في المجتمعات”. (10فاستقم كما أُمرت، الجليل، صـ 471 – 478)
خاتمة .. تدبر ماذا يريد شياطين الإنس
إنما هو استيراد إباحية الغرب، وهي لا تقف عند حدود؛ فإباحية مطلقة ثم إباحية مع المحارم، وشذوذ، وما يعقبه من أمراض يقول المجرمون عنها: إنها أمراض الحضارة المعاصرة وعليهم أن يأخذوها بأمراضها!! فأي شخصية ستنتج؟ أي دين أو عرض أو وطن إسلامي سيدافع عنه هذا المسخ؟ فلينظر العاقل .. لنفسه ولأمته.
…………………………
الهوامش:
- مسند أحمد بن حنبل، جـ 5، ص 314.
- راجع ابن القيم، مدارج السالكين،حيث يقول رحمه الله :« فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه» مدارج السالكين ، جزء 2، صفحة 199».
- تفسير البيضاوي، جـ 1، ص 15.
- تفسير ابن كثير ، جـ 4، ص 363.
- تفسير النسفي، جـ 4، ص 208.
- تفسير ابن كثير ، جـ 4، ص 10.
- المصدر السابق، جـ 4، ص 369.
- المصدر السابق، جـ 4، ص 355.
- المصدر السابق، جـ 4، ص 598.
- فاستقم كما أُمرت، الجليل، صـ 471 – 478.