الاستقامة طريق النجاة، وهي الأمر الوسط بين الغلو والتفريط، وللسلف تعريفات موضحة، وفي زماننا تحديات تستوجب تحفيز الهمة، والضراعة لله، والتسليم الكامل له تعالى.

مقدمة

إن التمسك بطريق النجاة وسبيل أهل الاستقامة أمرٌ ليس بالهيّن والسهل، وبخاصة في واقعنا المعاصر؛ بل إنه يحتاج إلى مزيد عناية بالشرع، والتبصّر بالدين، والإخلاص لله عز وجل والتواصي بالثبات عليه، وتجنب أسباب الانحراف، والتماس أسباب الثبات وسؤال الله عز وجل قبل ذلك وبعده الثبات على الدين الصحيح، وتصريف القلب على طاعته.

تحديات زماننا

إن المتأمل في زماننا اليوم وما يعج به من ألوان الفتن والفساد والشبهات والشهوات لَيشعر بالخوف الشديد، والإشفاق على نفسه من أن يزيغ قلبه أو تزل قدمه في وسط هذه الأمواج العاتية، وكيف لا يخاف وهو يرى تقلب القلوب ومزلات الأقدام من حوله..؟

كيف لا وهو يرى أنماطًا من السلوك والتفكير والمواقف تظهر على أشخاص وهيئات لم تكن معهودة لهم من قبل، ولا يتصور أن تصدر من أمثالهم..؟

حيث أصبحنا نسمع ونرى ما لم نك نعهده في المنتسبين إلى عقيدة أهل الاستقامة أهل السنة والجماعة، الذين ثبتوا على ما كان عليه الرسول ﷺ، وصحبه الكرام عقيدة وسلوكًا وعبادة ودعوة وجهادًا، وما أبرّئ نفسي؛ فاللهم سلِّم سلِّم.

وقد عمّت الفتنة وطمّت بعد أن انفتح العالم بعضه على بعض في السنوات الأخيرة عن طريق القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت التي فُتن بها الناس إلا من رحم الله تعالى.

وكان من جرّاء ذلك أن فشت المنكرات، وظهر كثير من العادات والتصورات، والأنماط السلوكية المخالفة لطريق أهل الاستقامة، وساير الناس بعضهم بعضًا في المسارعة إليها، وكانت من الكثرة وسرعة الانتشار أن ضعف أمام ضغوطها كثير من المسلمين..! فألقوا سلاح المقاومة وحنوا رءوسهم للعاصفة، وظهرت كثير من التنازلات، وسرت روح الانهزامية والتبعية للغرب الكافر.

وتزامن مع هذه الفتن انفتاح الدنيا على أهلها، وظهرت صور من الوسائل المحرمة في كسب المال فمال إليها كثير من الناس بشبهة أو شهوة، ولم يسلم من هذه الفتن كلها إلا من رحمه الله عز وجل فوفّقه وثبته أمام هذه الفتن، ورزقه الصبر والقبض على الدين، فكان من القِلّة الذين أخبر عنهم النبي ﷺ بقوله: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر» (1).

قال صاحب “التحفة”:

“قال القاري: الظاهر أن معنى الحديث؛ كما لا يمكن القبض على الجمرة إلا بصبر شديد وتحمُّل غلبة المشقة؛ كذلك في ذلك الزمان لا يتصور حفظ دينه ونور إيمانه إلا بصبر عظيم”. (2)

ولكن مما يعين العبد على هذه المشقة الشديدة تذكُّر الأجر العظيم الذي يناله المستعصي على ضغط الواقع، والمستعلي بإيمانه، من ذلك قوله ﷺ: «إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم» قالوا: يا نبي الله أو منهم؟ قال: «بل منكم» (3).

وقد وردت آيات كثيرة تأمر بالاستقامة تارة، وتذكر فضل أهلها تارة أخرى، من ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت: 30)، وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ الآية (فصلت: 6).

والاستقامة هي:

“لزوم العدل بين طرف الغلو والإفراط وطرف التقصير والتفريط، وهي ضد الطغيان الذي هو مجاوزة الحدود في كل شيء، كما أنها ضد التفريط والتقصير الذي هو ترك الواجبات وفعل المحرمات”.

تعريفات السلف للاستقامة

ويذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى شيئًا من أقوال السلف في معنى الاستقامة فيقول:

“«سُئل صِدّيق الأمة وأعظمها استقامة ـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه ـ عن الاستقامة فقال: «أن لا تشرك بالله شيئًا» يريد الاستقامة على محض التوحيد.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب».

وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: «استقاموا: أخلصوا العمل لله»، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن عباس رضي الله عنه: «استقاموا: أدوا الفرائض».

وقال الحسن: «استقاموا على أمر الله، فعمِلوا بطاعته واجتنَبوا معصيته»، وقال مجاهد: «استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله».

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ يقول: “استقاموا على محبته وعبوديته، فلم يلتفتوا عنه يَمنة ولا يَسرة”.

وفي «صحيح مسلم» عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» (4).

وفيه عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» (5).

والمطلوب من العبد الاستقامة، وهي السداد؛ فإن لم يقدر عليها فالمقاربة؛ فإن زلّ عنها فالتفريط والإضاعة.

فالاستقامة كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء، بالعهد، والاستقامة تتعلق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنيات؛ فالاستقامة فيها: وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله”. (6)

تسليم لله بلا استثناء شيء من النفس

ويقول ابن القيم أيضا:

“قال بعض العارفين: «كن صاحب استقامة لا طالب الكرامة؛ فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطالبك بالاستقامة».

سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدّس الله تعالى روحه ـ يقول: «أعظم الكرامة لزوم الاستقامة»”. (7)

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة: 208-209).

يعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية الكريمة فيقول:

“إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان، بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميّزهم ويفرّدهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم.. دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة.

وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكُلياتهم لله في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم: أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصوُّرٍ أو شعور، ومن نيّةٍ أو عمل، ومن رغبةٍ أو رهبة، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه، استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية.”

“.. ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة حذَّرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان؛ فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان: إما الدخول في السلم كافة، وإما اتباع خطوات الشيطان، إما هدى وإما ضلال، إما إسلام وإما جاهلية، إما طريق الله وإما طريق الشيطان، وإما هدى الله وإما غواية الشيطان.

وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحيّر بين شتّى السبل وشتّى الاتجاهات.

إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدًا منها، أو يخلط واحدًا منها بواحد… كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يُسْلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر؛ إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان.

ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك، إنما هناك حق وباطل، هدى وضلال، إسلام وجاهلية، منهج الله أو غواية الشيطان.

والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة، ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان، ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة، التي لا ينساها إلا غافل، والغفلة لا تكون مع الإيمان، ثم يخوّفهم عاقبة الزلل بعد البيان: ﴿فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة: 209)“. (7)

خاتمة

الاستقامة طريق وضيء، وهو طريق أيضا يسير. وهو وسط بين طرفين، وهو موافق للفطرة والنفس.

والجهد المبذول في تحقيق الاستقامة أقل مما يُبذل في البعاد عما أمر الله، وهو في الوقت نفسه جهد شريف يرفع صاحبه ويسمو به. وقد اجتهد الأولون في العلم به، والاستقامة عليه، وفي تعريفه للخلق، وتوصيتهم بلزومه.

وهو فريضة، لا يمنع عنها تغير الزمان ولا انصراف الخلق، فإذن ازداد العبء أو الجهد لملابسات خاصة بالزمان؛ فهو لا يُعفي أهله من أمر الله، وإنما يؤجَرون بحسب ما بذلوا من أجل الله.

والأمور كلها معلقة بالمشيئة، ولذا فالتوكل لازم للعبد إذا طلب الوصول.

…………………………………

الهوامش:

  1. «تحفة الأحوذي» (2361) (6/539)، وقال الترمذي: حديث غريب. وقال الأرناؤوط في تحقيقه لـ«جامع الأصول»: له شواهد يرتقي بها. (4/10).
  2. المصدر نفسه.
  3. أبو داود في «الملاحم» (4341)، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة».
  4. مسلم في الإيمان، باب: جامع أوصاف الإسلام (1/650) (38).
  5. ابن ماجه في الطهارة، باب: المحافظة على الوضوء (1/101) رقم (277، 278) وصححه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» برقم (224).
  6. «مدارج السالكين» (2/104-106) ت البغدادي (باختصار).
  7. المصدر السابق.
  8. في «ظلال القرآن» (1/206-211) (باختصار)، ط. الشروق.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة