للمشقة والتيسير، تعريفات شرعية، وللأخذ بالرخص بسبب المشقة ضوابط شرعية، لا تبيح التحلل من الشريعة بل الاستمرار عليها وجريان الأحوال والأفعال على وفقها.

الزائغون بين المشقة والتيسير

يحتج بعض الزائغين، وانتشرت حجتهم في المتفلتين من الشريعة، بقواعد التيسير التي جاءت بها الشريعة المباركة، ولم يدركوا معنى المشقة التي وصفها الشارع، ولا معنى التيسير المراد والمعتبر.

يقولون: إن من مقاصد الشريعة التيسير على الناس. ولا شك أن هذه قاعدة شرعية صحيحة في أصلها؛ ولكن الخلاف مع أهل الزيغ والشبهات ليس في أصلها، ولكن في تطبيقاتها. فهم يريدون إنزالها دون الأخذ بشروطها وضوابطها الشرعية، ودون النظر في كونها معارضة للنصوص الشرعية. ويريدون تحديد مفهوم “التيسير” و”المشقة” و”عموم البلوي” حسب أهوائهم وموازينهم، لا حسب موازين الشريعة. وضوابطها.

خطورة الشبهة

وتمكن خطورة هذه الشبهة أنها تبيح لكل امرئ أن يعتبر هو المشقة في رأيه، والتي نشأت من مخالفته هواه وشهوته..! فيعتبرها مشقة مبيحة للمحظور، فيترخص بزعمه؛ فيتحلل من أحكام الله، ويتربص العلمانيون فيبدلون الشرائع بالمنطلق نفسه.

الرد على الشبهة

دين الإسلام هو دين اليسر ورفع الحرج والمشقة، وكل أحكامه وتشريعاته مصلحة وخير ورحمة للعباد، وكلها جاءت لتكون حياة الناس میسَرة وسعيدة في الدنيا والآخرة، إن هم أخذوا بها؛ قال الله عز وجل بعد آیات الصيام في سورة البقرة: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقال عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه». (1البخاري (39))

هذا هو دين الإسلام ومقاصده العظيمة، التي كلها رحمة ويسر وخير ومصلحة. ولكن بأي شيء نزِن التيسير ونضبطه..؟ أبميزان الله عز وجل المبرَأ من الهوى والجهل والاضطراب، أم بميزان البشر أهل الأهواء والشهوات، التي لا تصدر إلا عن الجهل والهوى والظلم..؟!

التيسير شرعا

التيسير هو ما يعلمه الله تيسيرا، لا ما يراه الناس بأهوائهم سهلا وميسرا لهم؛ فقد يرى الناس اليسر في شيء، ولكنه في ميزان الله تعالى عسر وعناء لهم؛ كما في قوله سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]، وقال سبحانه عن الزوجات: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء:19]، ولما أمر الله عز وجل عباده بالجهاد في سبيله حق الجهاد، بين بعد ذلك أن الجهاد فيه رفع الحرج والتيسير، لا كما يراه الناس في الظاهر دون النظر لعواقبه الحميدة للمجاهدين والبشرية كافة؛ قال سبحانه: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78].

والمقصود أن كل ما شرعه الله كل من الأوامر والنواهي، ففيه المصلحة العظيمة للناس، واليسر والرحمة واللطف بهم؛ قال ابن حزم رحمه الله تعالى:

“كل أمر من الله تعالى لنا فهو يسر، وهو رفع الحرج، وهو التخفيف. ولا يسر ولا تخفيف ولا رفع حرج أعظم من شيء أدى إلى الجنة ونجّی من جهنم؛ وسواء كان حظرا أو إباحة، ولو أنه قتل الأنفس والأبناء والآباء”. (2الإحكام 2/ 176)

ومخالفة الهوى فيها مشقة على النفوس، لكن عاقبتها اليسر والخير والفلاح. ولو أن كل ما خالف هوى النفس وشق عليها من الشريعة ترك لانحلت أحكام الشريعة وانفرط عقدها.

يقول الشاطبي رحمه الله تعالى:

“وكثيرا ما تدخل المشقات، وتتزايد من جهة مخالفة الهوى. واتباع الهوى ضد اتباع الشريعة؛ فالمتبع هواه يشق عليه كل شيء، سواء أكان في نفسه شاقا أم لم يكن؛ لأنه يصده عن مراده، ويحول بينه وبين مقصوده، فإذا كان المكلف قد ألقى هواه و نهى نفسه عنه، وتوجه إلى العمل بما كُلف به خف عليه، ولا يزال بحكم الاعتياد يداخله حبه، ويحلو له مره، حتى يصير ضده ثقيلا عليه، بعد ما كان الأمر بخلاف ذلك، فصارت المشقة وعدمها إضافية تابعة لغرض المكلف؛ فرب صعب يسهل لموافقة الغرض، وسهل يصعب لمخالفته”. (3الموافقات 1/ 332)

وفي النصوص التالية يتبين لنا أن التيسير هو ما يعلمه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم تيسيرا، لا ما يراه الناس أسهل عليهم وأيسر:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: «هل تسمع النداء بالصلاة؟» فقال: نعم. قال: «فأجِب». (4مسلم (653))

ففي هذا الحديث مع كل ما قدمه الضرير من العذر، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص له في ذلك؛ لأن مآل ذلك خير ويسر.

وعن صفية بنت شيبة، عن عائشة رضي الله عنها أن جارية من الأنصار تزوجت، وأنها مرضت فتمعَّط شعرها، فأرادوا أن يصِلوها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: «لعن الله الواصلة والمستوصلة». (5البخاري (5205)، مسلم (2123))

وهنا أيضا لم يجوّز صلى الله عليه وسلم وصل الشعر لهذه الفتاة مع حداثة عهدها بعرس، وحاجتها لتزينها لزوجها.

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالت: یا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنکحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا» مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: «لا، إنما هي أربعة أشهر وعشرا…» الحديث. (6البخاري (5336))

فهذه الأحاديث وأمثالها تدلل على أن التيسير ما رآه الشرع تيسيرا. لا ما يراه الناس، ولو عرضت هذه الأحاديث على أهل الأهواء لرخّصوا فيها، زاعمين أن هذا هو التيسير.

ضوابط الأخذ بقاعدة التيسير

وقد وضع أهل العلم ضوابط وشروطا للأخذ بمبدأ التيسير والترخص ورفع الحرج؛ منها:

1- تحقيق العذر الداعي للأخذ بالرخصة يقينا، لا ظنا.

2- قيام الدليل الشرعي على الأخذ بالرخصة؛ فإن الحرج كل الحرج في مخالفة النصوص، واليسر كل اليسر في اتباعها، والتسليم والرضا التام بما جاء فيها من أوامر ونواه.

3- الاقتصار على موضع الحاجة أو الضرورة، وعدم مخالفة النص الشرعي في ذلك؛ وعلى هذا فإنه لا يخفى ما في قول “الأخذ بالأيسر من أقوال العلماء” دون مراعاة للدليل الشرعي من ضعف التسليم لله عز وجل، والجرأة العظيمة على مخالفة الأدلة الشرعية الراجحة؛ وذلك بتأويلات مختلفة أدت إلى الأخذ بالشاذ من أقوال العلماء، أو المرجوح منها، وحصل بذلك ضعف تعظيم النصوص في القلوب. يقول الشيخ “جعفر شيخ إدريس”:

“.. يقول أحدهم لنفسه: ما دام الدين يسرا؛ فإنني سأختار ما أراه أسهل علي وعلى الناس، ثم يبدأ بالنظر في الأقوال بهذا المعيار، فيقول، مثلا: قول الحنفية هذا صعب، لكن قول الحنابلة أصعب، أما قول المالكية فسهل، وأسهل منه قول الشافعية. وأسهل من هذا کله قول العالم الفلاني، الذي خالفهم جميعا، فأنا آخذ به..!

إن المنهج الصحيح هو أن يقول الإنسان لنفسه؛ ما دام دین الله كله يسر، فسأختار ما أراه بأدلته أقرب إلى الشرع؛ لأن القرب إلى الشرع هو الأقرب لتحقيق الغاية بأدني مشقة”. (7مجلة البيان عدد (235))

إن المعترضين على الشريعة بحجة التيسير، كثير منهم من المنافقين الكارهين للدين وأحكامه؛ ولكنهم يركبون موجة التيسير، ليصلوا بها إلى أغراضهم العلمانية والليبرالية في تغريب المجتمع، ونشر الفساد والرذيلة، ولذا تراهم يركّزون على الأخذ بالقول المرجوح مثلا في حجاب المرأة، والقول المهجور في سماع الغناء والمعازف، وغيرها من الأقوال الضعيفة الشاذة، بحجة التيسير؛ ليس حبا للشرع وأدلته وقواعده الشرعية، وإنما هي خطوة لتنفيذ مخططاتهم التي يتبنوها بعد ذلك. ولذا تراهم يمكرون ويضعون لبعض المفتين أسئلة في قالب مزخرف، يستلّون منه الإجابة التي يريدونها من المفتي، ولذا يجب على المفتين من علماء الأمة التفطن لهذا المكر والتحايل، وإلا زاغوا وأزاغوا.

مسائل مهمة تتعلق بقاعدة التيسير

وهنا بعض المسائل المهمة تتعلق بقاعدة التيسير:

المسألة الأولى: أولوية التيسير على الجماعة

من الخطأ أن يحصر التيسير في الحل والإباحة، وأن نظن أن التيسير إنما هو في قولنا: هذا حلال، وهذا ليس بواجب. وذلك على مستوى الأفراد. فمن حصر التيسير في ذلك، فإنه لم يفهم التيسير بضوابطه الشرعية؛ لأن الأحكام التي شُرعت لها حِكَم قد نعلمها وقد لا نعلمها.. قد تعود بالمصلحة للفرد المكلف بهذا العمل.. وقد تعود بالمصلحة للمجتمع والأمة.. وقد تعود بالمصلحة لهما جميعا.

وحينما نقول فيمن سرق: لا تقطع يده لأنه الأيسر، فهذا فيه حماية للجريمة.. وترك تحقیق مقصد العمل في الشريعة.. وسماح بالفوضى في المجتمع؛ فيسرق السارق، ويقتل القاتل، ونحن نأخذ باليسر الذي نراه نحن، وليس الأيسر الذي تراه الشريعة. فالدين يسر في أحكامه للفرد والمجتمع.. والتيسير على الجماعة مقدم على التيسير على الفرد.

ولا يعقل أن رجلا في بلد ظهر فيه الطاعون فيقال له: الأيسر لك أن تخرج من هذا البلد، لأن هذا اليسر سيضر بالمجتمع، وسينقل الطاعون إلى بلدان أخرى، فهنا لا ينظر إلى التيسير الفردي.

وهكذا في صلاة الجماعة؛ فلا يعقل أن يقال: المسألة فيها خلاف، فنختار أيسر الأقوال، بأنه لا تجب الصلاة في المسجد، فتفوته منفعة اجتماعه مع المسلمين … ويتفكك اجتماع المسلمين في المساجد، وتضعف قوتهم. (8انظر: كيف نفهم التيسير ص 92-94 فهد أبا حسين (باختصار وتصرف يسير))

المسألة الثانية: اعتبار اليسر الأخروي

من الخطأ أيضا أن ننظر في التيسير إلى المصالح الدنيوية، ونغلبها على المصالح الأخروية؛ فإن في الأعمال الصالحة منافع عظيمة للقلوب وصلاحها، وأجور كبيرة في الآخرة، ينبغي أن لا يغفل عنها.

والحِكَم قد تظهر في مثل العادات والمعاملات، وقد تخفى في مثل العبادات.

ولذلك فإن الشارع لم يقصد من الأحكام المشقة بالناس، ولم يقصد أيضا رفع المشقة المعتادة على الناس، وإنما قصد من التشريع ما فيه مصلحة للعباد في الدنيا والآخرة. وهذه المصلحة قد لا تحصل إلا بأعمال شاقة كالحج والجهاد ولكن عاقبتها يسر ورحمة في الدنيا والآخرة. (9المصدر السابق، ص 94)

الفوز باليسر

لن يفوز أحد باليسر إلا إذا انضبط بأمر ربه، ووقَف حيث أمر وترخص حيث كانت الرخصة. فالانضباط بدين الله يضمن اليسر الفردي والجماعي، كما يضمن يسر الآخرة وهو أعظم مطلبا وأعظم قدرا. ومن احتال وترخص وخادع عاد وبال ذلك عليه..! وجلب لنفسه المشقة وخسر ما كان يرجو..!

…………………………………

الهوامش:

  1. البخاري (39).
  2. الإحكام 2/ 176.
  3. الموافقات 1/ 332.
  4. مسلم (653).
  5. البخاري (5205)، مسلم (2123).
  6. البخاري (5336).
  7. مجلة البيان عدد (235) .
  8. انظر: كيف نفهم التيسير ص 92-94 فهد أبا حسين (باختصار وتصرف يسير).
  9. المصدر السابق، ص 94..

التعليقات غير متاحة