لا يقتصر الأمن على أمن الدنيا فقط؛ بل أمن الآخرة داخل في مفهوم الأمن إذ هي خير وأبقى وأطول بقاءا وامتدادا؛ فلا يؤثر عليها أياما معدودة إلا مدخول في عقله مضطرب في ميزانه.

مقدمة

كما جاء الإسلام بتشريعاته لحفظ أمن العبد في الدنيا على نفسه وماله وأسرته ومجتمعه؛ فإن للإسلام مفهومه الخاص للأمن بحيث يعًدّ أمن العبد في الآخرة أهم مطالبه، وفي الطريق يتحقق له أمن الدنيا.

وللآخرة أخذها في الأمن، والذي يجب أن يُتلقى فيه عن رب العالمين.

مآخذ الأمن في الآخرة

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ (الأنعام: 83)، إن الأمن والإهتداء في الدنيا والآخرة لا يكونان إلا لمن آمن بالله ووحده، وأطاعه، ولم يلبس إيمانه بظلم. ولكن الناس يتفاوتون في هذا الأمن والاهتداء حسب تحقيقهم للإيمان وخلوصهم من الظلم؛ فإن خلص الإيمان من الشرك الأكبر الذي هو أعظم الظلم، وخلص من ظلم العباد، وخلص من ظلم العبد لنفسه بما دون الشرك من الكبائر والمعاصي وذلك باجتنابها أو التوبة الصادقة منها قبل الموت؛ فإن هذا الصنف من الناس يحصلون على الأمن التام في الدنيا وعند الموت وبعد الموت في البرزخ ويوم القيامة. وهم الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (النحل: 32)، وبقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾ (فصلت: 30-32).

أما إذا شاب الإيمان شيء من الظلم؛ فيُنظر إلى هذا الظلم فإن كان من الظلم الأكبر الذي هو الشرك بالله عز وجل، فإن صاحبه محروم من مطلق الأمن في الدنيا والآخرة؛ فلا يشعر في الدنيا بأمن ولا سعادة ولا طمانينة لفقده الإيمان، ولا ينعم بالأمن عند موته، بل تغشاه کُرَب الموت وغمراته وزجر ملائكة العذاب وضربهم له كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ (الأنفال: 50) ولا يؤمَّنون في قبورهم؛ بل الفزع والعذاب المؤلم إلى يوم القيامة ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ (غافر:46) ويوم القيامة يَحزُنُهم الفزع الأكبر، ويدخلون دار الشقاء والخوف والعذاب الأليم.

أما إذا كان هذا الظلم ما دون الشرك الأكبر كمظالم العباد، أو الكبائر والمعاصي التي مات العبد وهو مُصِرٌّ عليها، فإن هذا يحصل له الأمن في نهاية المطاف بدخوله الجنة دار الأمن والسلم بما معه من الإيمان والتوحيد والعمل الدال على صدق إيمانه؛ لكنه معرَّض للمخاوف والعذاب في البرزخ ويوم القيامة، حتى يطيب ويزول خبثه، ويتهيأ لدخول الجنة دار الطيبين، لأن الجنة لا يدخلها إلا طيبٌ؛ قال تعالى عن أهل الجنة: ﴿طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ (الزمر:73).

أسباب المغفرة التي تحول دون عقوبة الذنب

وقد يدرك العبدَ الظالم لنفسه ـ ظلما دون الشرك ـ أحدُ الأسباب التي تحول بينه وبين عقوبة ذنوبه فلا يعذب. ومن هذه الأسباب ما ذکرها شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى بقوله: على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب:

أحدها: التوبة. وهذا متفق عليه بين المسلمين؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (التوبة:104).

السبب الثاني: الاستغفار. لقوله صلى الله عليه وسلم: «لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يُذنبون ثم يستغفرون فيغفر الله لهم». (1البزار (3247) وقال الهيثمي في المجمع 10/ 215 رجاله ثقات وصححه الألباني في السلسلة (970))

السبب الثالث: الحسنات الماحية. كما قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ (هود: 114) وقال صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر». (2مسلم في الطهارة (233))

السبب الرابع: دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه». (3مسلم في الجنائز (948))

وهذا دعاء له بعد الموت، فلا يجوز أن تُحمَل المغفرة على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر. وكُفرت عنه الصغائر وحده، فإن ذلك مغفور له عند المتنازعين، فعُلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت.

السبب الخامس: ما يُعمل للميت من أعمال البر. كالصدقة ونحوها..

السبب السادس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». (4أحمد 3/ 213 والترمذي (2430) وقال حسن صحيح)

السبب السابع: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا. كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما يصيب المؤمن من وَصب ولا نَصب ولا هَمّ ولا حَزن ولا غَمّ ولا أذى ـ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه». (5البخاري (5641) ومسلم (2573))

السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة؛ فإن هذا ما يكفر به الخطايا.

السبب التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها.

السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد. (6مجمع الفتاوی 7/ 487 – 501 (باختصار))

خطورة الغفلة عن أمن الآخرة

دأب كثير من الناس في حديثه عن الأمن اقتصاره في ذلك على الأمن في الحياة الدنيا، وعدم التطرق عند الحديث عن الأمن عن أمن الآخرة وأهوالها، ولا عن أمن القبر ونعيمه وعذابه..! ولذا يحرص أكثر الناس اليوم على توفير الأمن في حياتهم الدنيا وبخاصة على النفس والأهل والمال والعرض، ويبذلون ما في وُسْعهم من الأسباب لتحقيق السلام والأمن والسعادة في حياتهم الدنيا، والقليل القليل منا من يوجه همه وتفكيره وحركته للفوز بالأمن الحقيقي والسلام السرمدي يوم يبعث الله من في القبور ويحصل ما في الصدور ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ (الروم:14) فريق في الجنة آمنون سالمون منعمون أبد الآباد، وفريق في السعير معذبون مکروبون لا يموتون فيها، وما هم منها بمخرجين أبد الآباد. قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ﴾ (المعارج: 27- 28) وقال سبحانه: ﴿أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (فصلت: 40)..

فأي الدارين أحق بتوفير الأمن فيها أدار الدنيا الفانية الزائلة بأفراحها وأتراحها..؟ أم الدار الباقية السرمدية بنعيمها أو عذابها..؟

لا شك أن منطق الشرع والعقل يؤثر الآخرة على الأولى. والعاقل من مهَّد لنفسه ليرتاح الراحة التامة الكاملة الأبدية في دار الخلد والسلام. والعاجز الأحمق من غفل عن ما بعد الموت وعن اليوم الآخر وانشغل بدنياه الفانية الزائلة عما وراءه من الأهوال والأفزاع والحساب والعذاب ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس: 34-37) ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ (الحج: 2).

والعجَب كل العجب أنه مع كل هذا التذكير، والتنبيه والتحذير من ربنا الرحمن الرحيم من هذا اليوم العصيب، وأثره على أمن مستقبلنا الأبدي، إلا أن حالنا في هذا الزمان حال الغافل اللاهي عن كل هذه التحذيرات؛ فلا تكاد تجد منا ـ إلا من رحم الله ـ إلا من هو منشغل بالتفاهات من هذه الدنيا الدنية، قد استهلكت عليه وقته، وأصبح في دوامة مستمرة منذ أن يصبح وحتي ينام آخر الليل.

وما هنالك أشد من مرض الغفلة، ولكن الأدهى والأمرَّ أن يكون المرء من أهل الغفلة وهو لا يشعر بذلك، وهذه الحالة ـ والعياذ بالله ـ قد تتحول إلى جمود و تحجّر وقسوة، ثم إلى لجاج وعناد.

وإذا كان الكتاب والسنة قد اهتما غاية الاهتمام بتفاصيل هذا اليوم المشهود، وخوَّفا منه ومن أهواله، فإنه من الحمق والجهل أن لا نهتم بما اهتم به كتاب ربنا ـ سبحانه ـ وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

والدليل على هذا الحمق أن نجد الكثير منا ـ إلا من رحم الله ـ يکد ويتعب من أجل مستقبل قریب يسعی ـ بزعمه ـ لتأمينه؛ وهذا المستقبل بالإضافة إلى ما قد مر من عمر الإنسان لا يتعدى في الغالب الستين أو السبعين سنة، وقليل من يتجاوز ذلك. ولْنفرض أنه مائة أو أكثر، فماذا يساوي بالنسبة إلى المستقبل البعيد الأبدي السرمدي والذي لا نهاية له..؟ إنه لا يساوي شيئا، فلماذا نحن بأمن المستقبل القريب الفاني مشتغلون وعليه مثابرون، وعن أمن مستقبلنا الأبدي السرمدي منشغلون ولاهون..؟ إنه لابد من وقفة محاسبة وتأمل.

قضية المصير

إن أعظم قضية يجب أن ينشغل بال كل واحد منا بها هي قضية وجوده وحياته والغاية منها، وقضية مستقبله ومصيره وشقائه وسعادته فيه؛ فلا يجوز أن يتقدم ذلك شيء مهما كان شأنه؛ فكل أمر دونه صغير، وكل خطب سواه حقير.. وهل هناك خَطْبٌ أعظم وأفظع من أن يخسر الإنسان نفسه وأهله ويخسر سعادته وسعادتهم..؟! فماذا بقي له بعد ذلك..! وما قيمة الدنيا الفانية وزخرفها وزينتها وراء ذلك..؟ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ (الزمر:15).

ولو لم يكن في انتظارنا إلا الموت وسكراته وغُصصه لكفى به واعظا و مکدرا؛ فكیف ووراءه يوم البعث والحساب والجزاء والجنة أو النار.

يوم تحار فيه العقول، وتذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، ويكون الولدان فيه شيبا. فاللهم اجعلنا في ذلك اليوم من الآمنين.

خاتمة

لا يُفهَم مما سبق أن لا يهتم المسلم بدنياه، والأخذ بأسباب الأمن والسلامة فيها؛ وإنما المقصود أن لا ننسى ولا نغفل عن الأمن الأبدي الحقيقي وهو الأمن يوم القيامة، وأن يكون اهتمامنا وسعينا لأن نكون من الآمنين في الدار الآخرة أكبر وأشد من سعينا لذلك في الدنيا الفانية الزائلة.

مع أن طاعة الله عز وجل وخوف اليوم الآخر يحصل بهما الأمن في الدنيا قبل الآخرة كما سبق بيانه. إذن فالأمن في الدارين مصدرهما طاعة الله وتوحيده واتقاء مساخطه، وأسباب عقابه.

………………………………..

الهوامش:

  1. البزار (3247) وقال الهيثمي في المجمع 10/ 215 رجاله ثقات وصححه الألباني في السلسلة (970).
  2. مسلم في الطهارة (233)۔
  3. مسلم في الجنائز (948).
  4. أحمد 3/ 213 والترمذي (2430) وقال حسن صحيح.
  5. البخاري (5641) ومسلم (2573).
  6. مجمع الفتاوی 7/ 487 – 501 (باختصار).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة