المجتمع المسلم مختلف تماما عن المجتمعات التي تنشئها الرأسمالية أو الشيوعية أو المجتمعات المتأثرة بهما وبقوانينهما وقيمهما. للمجتمع المسلم سمات رسمها القرآن والسنة.

أمن المجتمع

إن أمن المجتمع واستقراره مرهون بطاعة الله تعالى، والتزام أحكامه الشرعية. وبدون ذلك فلا يطمع مجتمع على وجه الأرض في أمن ولا رخاء ولا طمأنينة، وواقع الأمم والمجتمعات في القديم والحديث يشهد بذلك. ويرى الناس هذه السنة الربانية المسطورة في كتاب الله تعالى؛ ماثلة للعيان..

قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: 96]، وقوله تعالى: ﴿وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا * لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾ [الجن: 16-17]، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 65-66].

وقوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112].

وقوله تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: 3-4].

والآيات في هذا المقام كثيرة جدا. وما ذكرته هو على سبيل المثال، لا على سبيل الحصر.

من شرائع الله لحفظ المجتمع

وقد شرع الله عز وجل في كتابه الكريم، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحكاما، وآدابا سامقة تحفظ للمجتمع أمنه، وتحميه من الآفات والشرور التي تكدر عليه أمنه وسلامته. وقبل الدخول في ذكر نماذج من هذه الأحكام الرفيعة النظيفة أقدم لذلك ببعض ما كتبه سيد قطب، رحمه الله تعالى، عن أمن المجتمع في ظل الإسلام حيث يقول:

مجتمع بلا صراع

“في المجتمع تتشابك المصالح، وتتزاحم الدوافع، ويكثر الشد والجذب، ويتكرر الأخذ والعطاء. وفي المجتمع يتبادل الأفراد، وتتعامل الجماعات، وتتفاعل القوى، وتتنافس المقدرات. وفي المجتمع يندمج الفرد، ويندمج البيت، وتندمج الأسرة، ويحف بها جميعا ذلك السياج الضخم الذي يشمل نشاطها جميعا، ويمثل اتجاهاتها جميعا، ويؤثر فيها ويتأثر بها في كل اتجاه.

وعندما يفرض بعض المذاهب الاجتماعية أن العلاقة بين الفرد والفرد هي أبدا علاقة الصراع والخصومة، وأن العلاقة بين الأفراد والسلطات هي أبدا علاقة الكبت والإجبار؛ يقرر الإسلام أن العلاقة بينهم جميعا ـ في المجتمع المسلم ـ هي علاقة الود والرحمة، وعلاقة التضامن والتعاون، وعلاقة الأمن والسلام.

ويقرر أن القاعدة التي تقوم عليها حياتهم هي قاعدة التناسق بين الحقوق والواجبات، والتعادل بين المغانم والمغارم، والتوازن بين الجهد والجزاء.

ويقرر أن الغاية المقدرة لهم جميعا هي امتداد الحياة، وإنماء الحياة، وترقية الحياة والتوجه بكل نشاط فيها وبكل نية وكل عمل إلى الله خالق الكون والحياة.

ومن ثم ينتهي كل نشاط فردي، وكل نشاط اجتماعي، كما ينتهي كل تنظيم وكل إنتاج، إلى السلام الكلي، الذي ينسق بين مختلف النوازع والاتجاهات، ومختلف القوى والطاقات، ومختلف الأفراد والجماعات. لأن هنالك أفقا أعلى من أفق المصالح الوقتية التي تثير الشحناء، وتؤجج العداوات.

إن المذاهب الغربية منطقية مع البيئة التي نشأت فيها. بيئة الحضارة الغربية المادية، التي تنفي من الحياة كل هدف أبعد من هدف المصلحة المباشرة القريبة، وتنفي عن الإنسانية عنصر التطلع إلى ما هو أبعد من الذات.. فحين تحكم الحياة كلها هذه الفكرة المادية لا يكون هنالك مجال لغير الصراع القاسي بين الطبقات في المجتمع، ولا يكون هنالك مجال لغير قوانين العمل وظروف الإنتاج، ومن ثم تصبح مسألة “صراع الطبقات” حقيقة مادية واقعة لا فكاك منها، ولا أمل في اجتنابها، ولا سبيل كذلك لتجاهلها.

فأما حين يحكم الحياةَ منهجٌ كالمنهج الإسلامي، وحين يأخذ نظام الإسلام الاجتماعي سبيله إلى التنفيذ العملي، وحين يصبح القانون الإسلامي نافذا كما أراده الله لا كما أراده المحرفون من رجال الدين. عندئذ تصبح «الجبرية المادية» كما تصبح «حتمية صراع الطبقات» مسألة تحكمية لا تستند إلى واقع ولا منطق، لأنها تحكم على بيئة أخرى، ونظام آخر، حكما مستمدا من بيئة معينة تحكمها الأفكار المادية وتنفي منها الأهداف العليا للحياة” (1السلام العالمي والإسلام، ص103-104)

وفيما يلي نتعرف على بعض صور السلام والأمن الذي يعيشه المجتمع المسلم في ظل شريعة الإسلام التي أنزلها الحكيم العليم، اللطيف الخبير، الرؤوف الرحيم ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 180]، ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].

مقصود التوادّ والتراحم

الصورة الأولى: يظهر للمتدبر لأحكام الله عز وجل الشرعية التي تتعلق بالمعاملات بين الناس أنها تقوم على كل ما يحقق التواد والتراحم بين المسلمين. ويمنع كل ما من شأنه إيقاع العداوة والبغضاء وإثارة الشحناء والأحقاد بينهم ومن هذه التشريعات:

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13-12].

والآيات واضحة الدلالة في الحرص على إشاعة الأمن والسلام والمحبة بين أفراد المجتمع المسلم، وسد الباب أمام كل سبب يكدر على المسلمين أمنهم وتوادهم وتراحمهم، ويؤكد هذا قوله: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». (2البخاري (6011)، مسلم (5186))، وكذلك قوله «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا». (3البخاري (6065)، مسلم (2559))

ومن الحِكم البالغة في تشريع آية الدين هو المحافظة على أموال الناس، والقضاء على أسباب الاختلاف والشحناء، وسوء الظن التي تعكر على الأمن والسلام بين الناس في المجتمع المسلم.

ومن ذلك تحريمه صلى الله عليه وسلم أنواعا كثيرة من البيوع لما تفضي إليه من البغضاء والشحناء، والقطيعة بين المسلمين كقوله: «لا يبتاع المرء على بيع أخيه ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد». (4البخاري (2160))

ونهيه عن بيع الحصاة والملامسة والمنابذة؛ لما فيها من الجهل والغرر والغبن.

ومن ذلك تحريم الغش والاحتكار والتطفيف وغيرها من صور الظلم في المعاملات التي من شأنها إثارة العداوة والشحناء بين المسلمين.

نهيه عن التهاجر بين المسلمين وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم :«لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالي يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام». (5البخاري (6077)، مسلم (2560)).؛ بل إنه نهى أن يتناجي إثنان في حضرة ثالث منعا لسوء الظن وإيذاء المسلم وإحزانه. قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كانوا ثلاثة فلا يناجي إثنان دون الثالث فإن ذلك يؤذيه». (6البخاري (6228)، مسلم (2183))

تحريم النميمة بين الناس لما فيها من الإفساد والتفريق بين المسلمين وتقطيع الأرحام وإثارة الشحناء، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قتات». (7البخاري (6056)، مسلم (105)) أي نمّام.

تحريم الكبر والخيلاء، والتعالي على الناس: قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: 18] وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا﴾ [الإسراء: 37].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد». (8مسلم (2865)) ولا يخفى ما في الكبر من التعالي على الناس، وظلمهم واحتقارهم؛ فإذا اختفت هذه الآثار ساد الأمن والسلام والمحبة والإخاء..

تحريم الخمر والميسر، ورتَّب على شرب الخمر عقوبة وحدا. كل ذلك من أجل حماية المجتمع مما يكدّر أمنه وسلامته ومما يثير الشحناء والعداوة بين أفراده؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: 90-91].

تحريم الربا لما يثيره من الأحقاد في المجتمع، فليس يغيظ النفس أكثر من أن يلجا المحتاج إلى صاحب المال فينتهز الفرصة السانحة والضرورة الملجأة للفقير ويفرض على أخيه ضريبة حراما، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة :278-280].

إن المال ينبغي أن يعطى للمحتاج قرضا حسنا بلا فائدة لتنتشر في المجتمع روح المودة والرحمة والسلام والتضامن.

نهيه صلى الله عليه وسلم وتحذيره من الوقوع في صفات المنافقين وخصالهم التي تؤدي بصاحبها إلى التفرق والبغضاء وفقدان الأمن والسلام. قال صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». (9البخاري (34)، مسلم (58))

تحريم إيذاء المسلمين وبخاصة إيذاء الجار، قال صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن (ثلاثا) قيل من یارسول الله قال: من لا يأمن جاره بوائقه». (10البخاری (6016))

خاتمة

قد يغيب عنا كثير من سمات المجتمع المسلم بحكم تأثير الإعلام والفن الذي طغت فيه سمات المجتمعات الصليبية الغربية، على أنها مجتمعات عالمية وتطور طبيعي، فيفرضون على مجتمعات المسلمين ما اختفت به كثير من السمات التي كانت بدهيات في التوادّ والتراحم والتعاون والإيثار وإخفاء الصدقة وغيرها من الخير. فنُحرم الكثير من الخير والأخلاق والقيم.

لكن هذا مرهون بانحراف التوجيه. وعندما يأخذ المجتمع توجيه القرآن والسنة بالجدية اللائقة بهما سنجد سمات مختلفة تصوّرْنا أنها لعصور مضت فقط وفي خير لا يتكرر؛ فنفاجأ بأن في نفوسنا من الخير والتجاوب مع توجيه ربها ما تصلح به حياة الأمة وتتغير به نفوسها وواقعها.

……………………………….

الهوامش:

  1. السلام العالمي والإسلام، ص103-104.
  2. البخاري (6011)، مسلم (5186).
  3. البخاري (6065)، مسلم (2559).
  4. البخاري (2160).
  5. البخاري (6077)، مسلم (2560).
  6. البخاري (6228)، مسلم (2183).
  7. البخاري (6۰56)، مسلم (105).
  8. مسلم (2865).
  9. البخاري (34)، مسلم (58).
  10. البخاری (6016).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة