الحيلولة بين الناس وبين شريعة الله يأخذ أحيانا شبهة السياسات الشرعية التي يخلط الظلمة والجائرون فيها بين السياسة الشرعية والسياسة الجائرة. وخلفها يتخفى العلمانيون والمنسلخون من الشريعة رأسا..!

لون من الاعتراض!

الاعتراض على الشريعة بالسياسات الجائرة المنسوبة للشريعة ظلما وبهتانا لون من ألوان الاعتراض على شريعة الله عز وجل الناشئ من مرض في قلوب هؤلاء المعترضين، وضعفٍ في التسليم لله عز وجل وأحكامه، ويكفي في إبطال مثل هذه الاعتراضات قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب: 36]، وقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65] وقوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 49 -50]، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية:18].

وأهل هذا الاعتراض لا يصرحون برفضهم شريعة الرحمن؛ لكنهم يوردون شبهات يبررون بها عدولهم عن الشرع المطهر إلى قوانين وسياسات من صنع البشر، يسمونها تارة بالسياسة الشرعية، وتارة بتحقيق المقاصد الشرعية ومراعاة الواقع ومتطلباته. وكل هذا من التلبيس والتدليس، لأن السياسة الشرعية لها ضوابطها ومعالمها، التي حددها الشرع، وضبط موازينها، وهي تختلف وتتضاد مع سياسات القوم، التي يكرسون فيها ظلمهم، ويبررون بها عدوانهم.

المعنى اللغوي والشرعي لمصطلح “السياسة”

ولبيان هذا الأمر وإزالة التلبيس في هذه المسألة، نتعرف على معنی السياسة في اللغة والشرع، ونذكّر بالميزان الشرعي للسياسة، والفرق بينه وبين الموازين الجاهلية:

قال في «لسان العرب»:

“السَوْس: الرياسة ؛ يقال: ساسوهم سَوْسا. وإذا رأسوه قيل: سوسوه وأساسوه. وساس الأمر سياسة: قام به.

ويقال: سوس فلان أمر بني فلان؛ أي: كلف سیاستهم.. والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه. والسياسة: فعل السائس”. (1لسان العرب 1/ 2149)

وروى البخاري في صحيحه عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة رضي الله عنه خمس سنين، فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء؛ كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فُوا ببيعة الأول فالأول؛ أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم». (2البخاري (3455)، مسلم (1842))

ومعنی “تسوسهم”: أي: تقوم على أمرهم وشؤونهم بما يصلحها في الدين والدنيا.

وفي ضوء الحديث النبوي والتعريف اللغوي نستطيع أن نعرف “مصطلح السياسة” في مفهوم الشرع بأنها: القيام بمصالح العباد المبني على أصول ثابتة من القرآن والسنة، وسيرة الخلفاء الراشدين، وما كتبه العلماء في المقاصد الشرعية بما يحقق مصالح العباد، ويرشد إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة، ويحقق العبودية لله عز وجل.

هذا هو الميزان الإلهي والمعيار الشرعي للسياسة.

والسياسة الشرعية تتميز عن السياسات الوضعية بأن مصدرها إلهي من عند الله؛ فهي كاملة شاملة عادلة، بينما مصدر السياسات الوضعية الفكر البشري الموسوم بالجهل والظلم والهوى. وبناء على ذلك فإن السياسة الشرعية واجب ديني، أما السياسات الوضعية فإلزام وضعي، لأن السياسة الشرعية تقوم على مقصد العبودية لله تعالى، وحكم الحياة بشريعته، بينما تقوم السياسات الوضعية على فصل الدين عن الدولة وحياة الناس.

سمة الميزان الشرعي للسياسة

السمة الأساسية لهذا الميزان هي العدل، وإقامة العبودية لله عز وجل في الأرض، وتحقيق المصالح للعباد، ودرء المفاسد عنهم في الدارين، وذلك في ضوء الشرع، وهو ما يسمى بالسياسة الشرعية في الإسلام، وقد تكون مصلحة فردية أو جماعية، وقد يكون الممارس لها عالما مفتیا أو قاضيا حاكما، أو أميرا وواليا، أو مجلس شورى، أو هيئة شرعية، أو خليفة للمسلمين.

وتتسم هذه السياسة بالشمولية والتوازن والانطلاق من ثوابت الإسلام وأصوله.

وقد عرف بعض أهل العلم السياسة الشرعية بأنها “كل حكم أو إجراء وتدبير يساس به الكافة على مقتضى النظر الشرعي”. وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“فإن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض. فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت دولة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق کان؛ فثَمّ شرع الله ودينه ورضاه وأمره. والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأمارته في نوع واحد، وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر؛ بل بيّن بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها. والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها، ولن تجد طريقا من الطرق المثبتة للحق إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها، وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك”. (3إعلام الموقعين 4/ 472)

سمات الموازين الجاهلية للسياسة

تقوم الموازين الجاهلية للسياسة، وتنطلق في سماتها من أهواء البشر وظلمهم وجهالاتهم، متنكرة لشرع الله عز وجل وسياساته العادلة؛ لذا فهي تقوم على الظلم والمكر والخداع والكيل بعدة مكاییل، ومحاولة تبرير هذه المظالم وإخراجها في قالب السياسة والحزم وتحقيق الأمن والمحافظة على مصالح الناس. ورحم الله ابن القيم حيث فضح هؤلاء وأمثالهم بقوله:

“وأخرج المنافقون النفاق في قالب الإحسان والتوفيق والعقل المعيشي، وأخرج الظلمة الفجرة الظلم والعدوان في قالب السياسة وعقوبة الجناة، وأخرج المكاسون أكل المكوس في قالب إعانة المجاهدين وسد الثغور وعمارة الحصون”. (4إغاثة اللهفان 2/ 80- 81)

ويقول في موطن آخر:

“وتقسیم بعضهم طرق الحكم إلى شريعة وسياسة ـ كتقسیم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة، وكتقسیم آخرين الدين إلى عقل ونقل. وكل ذلك تقسيم باطل؛ بل “السياسة” و”الحقيقة” و”الطريقة” و”العقل”؛ كل ذلك ينقسم إلى قسمين صحيح وفاسد، فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها، والباطل ضدها ومنافيها. وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها، وهو مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده، وإنما حاجتهم إلى من يبلغهم عنه ما جاء به.

فلرسالته عمومان محفوظان، لا يتطرق إليهما تخصيص: عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بعث إليه في أصول الدين وفروعه.

فرسالته کافية شافية عامة لا تحوّج إلى سواها، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به “. (5إعلام الموقعين 4 / 375)

ويقول في موطن ثالث:

“إن المعارضين للوحي بعقولهم في الأصل هم أعداء الرسل المكذبون لهم. ودونهم طوائف الجهمية المعطلة وملاحدة الصوفية وزنادقة الباطنية وخونة الولاة وظلمتهم؛ فالجهمي يقول “قال لي عقلي”، وملاحدة المتصوفة يقول قائلهم “قال لي قلبي”، وزنادقة الباطنية يقولون “لكل شيء تأویل وباطن يعلمه أهل الباطن وينكره أهل الظاهر”، وخونة الولاة يقولون “لا تستقيم أمور الرعية إلا بهذه السياسة، ولو وكلناهم إلى الشريعة لفسدت أمورهم”..!”. (6الصواعق المرسلة 4/ 1342)

هذا هو كلام أئمة السلف، الذين عظّموا الله عز وجل، وعظموا شرعه عن واقعهم، فيمن مال عن بعض الشريعة ببعض السياسات الجائرة، مع أن الشريعة في عصرهم سائدة بالجملة ولم تُبدل، فكيف لو رأوا عصرنا الذي بُدلت فيه أحكام الإسلام وأُقصيت فيه الشريعة عن الحكم والتحاكم، وحكم بدلا عنها بالقوانين والتشريعات الجاهلية، التي أحلت الحرام وحرمت الحلال..؟ وشكلت من أجل ذلك مجالس برلمانية أو وطنية، تشرع من دون الله، وزعموا أنهم يمثلون الشعب الذي انتخبهم، فهم يحكمون بإرادة الشعب وحكمه، وهذا ما يسمى اليوم بالديمقراطية التي هي بمثابة صنم يعبد من دون الله، له السيادة العليا، ولا سيادة فوقه تحكمه..!!

العلمانية وخطرها

إن الديمقراطية في عرف أهلها هي سيادة حكم الشعب، والسيادة سلطة عليا مطلقة غير محكومة بأي سلطة أخرى. وتتمثل في حق الشعب في اختيار حكامه، وحقه في تشريع ما يشاء من القوانين، ويمارس الشعب السلطة عادة بالإنابة؛ بأن يختار نوابا عنه يمثلونه في البرلمان، وينوبون عنه في ممارسة السلطة؛ أي أن مصدر التشريع والتحليل والتحريم هو الشعب وليس الله، ويتم ذلك عن طريق اختياره لممثلين ينوبون عنه في مهمة التشريع وسن القوانين. وقد يسمونه “بالمجلس الوطني” أو “مجلس الحكم” أو “مجلس الأمة” أو “مجلس الشعب”. وهذا يعني أن المألوه المعبود المطاع ـ من جهة التشريع ـ هو الإنسان، وليس الله جل في علاه. وهذا مغایر ومناقض لأصول الدين والتوحيد؛ يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [يوسف:40]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 26]، وقوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21]؛ وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121]، لأنكم عبدتموهم من جهة طاعتكم إياهم في تحليل ما حرم الله، أو تحریم ما أحل الله، فإنکم لَعابدون لهم من دون الله؛ لأن الشرك لا يُطلق في القرآن أو السنة إلا لنوع عبادة تصرف لغير الله عز وجل .

وكذلك قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّه﴾ [التوبة: 31]، فهم أرباب من دون الله بالاعتراف لهم بحق التشريع والتحليل والتحريم وسن القوانين من دون الله.

والديمقراطية تقوم على مبدأ اعتبار وإقرار موقف ورأي الأكثرية، مهما كان نوع هذه الأكثرية، وأيا كان موقف هذه الأكثرية؛ وافقت الحق أم لا. وأعضاء البرلمان الذين يضعون لأنفسهم حق التشريع للناس هم في الحقيقة يضعون أنفسهم أربابا معبودين من دون الله.

خطر عقدي

هناك ارتباط وثيق بين “الديمقراطية” و”العلمانية”، بل هي الثمرة الحنظلية للعلمانية، التي تقوم على فصل الدين عن الحياة، وعلى أن كل إنسان أن يسوّى أموره مع الله بطريقته الخاصة وطقوسه الخاصة، لكن دون تدخل في أمور المجتمع وحياته واقتصاده وسياساته. وهنا تختفي مفاهیم الفرد المسلم وأصول عقيدته، فلا فرق بين مسلم وغيره، ولا بين امرأة ورجل، بل إن كل هذه الأصناف جميعها تستبدل بمفهوم “الفرد المواطن”..!!

………………………..

الهوامش:

  1. لسان العرب 1/ 2149
  2. البخاري (3455)، مسلم (1842).
  3. إعلام الموقعين 4 / 472.
  4. إغاثة اللهفان 2/ 80- 81.
  5. إعلام الموقعين 4/ 375.
  6. الصواعق المرسلة 4/ 1342.

المصدر:

  • “قال أسلمت لرب العالمين”، ج 18، ص185-194. فضيلة الشيخ/ عبد العزيز الجُليّل.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة