جاء الإسلام بتعظيم حق الله تعالى بالتوحيد، وتعظيم حق العباد بحفظ دينهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم. إنها الضرورات الخمس التي بها تقووم الحياة وتعتدل.

نزيف الحسنات

ثمة مسؤولية على العبد تجاه العباد. وهو لا يؤدي حق الله تعالى إلا أن يؤدي حق العباد. وكم ممن يحمل الحسنات تبطل يوم القيامة لاستيفاء حقوق الخلق.

والعاقل مَن تخفف من الأحمال وحقوق الخلق، وأدى ما أمره الله بأدائه ووقف عند حقوق الخلق معظما أن يتعدى حدود الله وحرمة العباد.

ظلم النفس بوقوعها في مظالم العباد

وهذا النوع من الظلم لا يخلد صاحبه في النار لو دخلها؛ ولكن الخطير فيه إثمه وعقوبته التي لا تزول إلا بردِّ المظالم إلى أهلها، أو استباحتهم منها؛ وإلا كان القصاص يوم القيامة بالحسنات والسيئات وليس بالدينار والدرهم، وكفى بهذا حاجزاً عن الظلم، وكفى به رادعاً وواعظاً للعبد المسلم في أن يتخفف من حقوق العباد، ويخرج من هذه الدنيا سالماً لا يطلبه أحد من العباد بمظلمة في دين أو نفس أو مال أو عرض. وهذه الأمور لا تكاد تخرج مظالم العباد عنها.

نوعا ظلم العباد

وظلم الناس إنما ينشأ من الإضرار بهم في دينهم أو دنياهم ويكون ذلك بأمرين:

1- إما بمنعهم حقوقهم.

2- أو بفعل ما يضرُّ بهم؛ وهذا ما يشير إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله:

“وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس؛ فالظلم للغير يستحق صاحبه العقوبة في الدنيا لا محالة لكف ظلم الناس بعضهم عن بعض، ثم هو نوعان:

أحدهما: منع ما يجب لهم من الحقوق، وهو التفريط.

الثاني: فعل ما يضر بهم وهو العدوان”. (1مجموع الفتاوى 10/ 373)

وتحصل لدينا من هذه القاعدة أن ظلم الناس يَصْدُق على أي إضرار يقع عليهم في إحدى ضرورياتهم الخمس: “الدين، أو النفس، أو العقل، أو العرض، أو المال”؛ سواءً بمنع ما يجب لهم من الحقوق أو فعل ما يضر بهم.

ومن الأمثلة الواضحة في ذلك ظلم الوالدين أو الأولاد أو الأزواج والزوجات بمنع ما يجب لهم من الحقوق أو فعل ما يضر بهم في دينهم ودنياهم.

من صور مظالم العباد

من صور ظلم العباد في دينهم

التسبب في صرف الناس عن دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم، سواءً بإثارة الشبهات التي ينحرف بها العبد عن عقيدته الصافية فيقع في الكفر أو البدعة، أو بإثارة الشهوات التي توقع العبد في الرذيلة والفسق والفجور؛ فهذا كله من الظلم العظيم للناس في دينهم وأخلاقهم، وممن يتولى كِبَرَ هذا النوع من الظلم الأصناف الآتية من الناس:

– الذين يسنّون الأنظمة الجائرة والفاجرة التي تمكّن للمفسدين في الأرض من نشر فسادهم والسماح لهم بل ومنحهم الإذن بما يخوّلهم تشييد صروحهم الإعلامية التي يُفسدون من خلالها عقيدة الأمة وأخلاقها، سواءً بكلمة مقروءة أو مسموعة أو مرئية. وهذا من أعظم الظلم.

– الناشرون الذين يبثون من خلال كتبهم ومجلاتهم وأشرطتهم كل ما من شأنه إثارة الشبهات والانحراف في أفكار الناس، أو إثارة الشهوات والانحلال سواء بالكتابات الهابطة أو الصور الساقطة، وكل هذا من ظلم العباد في دينهم.

– الإعلاميون الذين تصَدَّروا أماكن التوجيه في الوسائل الإعلامية المختلفة من تلفاز وإذاعة وقنوات، فنسوا دينهم ونسوا يوم الحساب؛ فوجهوا سمومهم إلى دين الأمة وأخلاقها بما يبثونه من شبهات ومغالطات، وبما يبثونه من أفلام قذرة وأغان خليعة تثير الشهوات وتقتل الغيرة والفضيلة. وكل هذا أيضاً من ظلم العباد في دينهم.

– التجار الذين لا يهمهم دين ولا خلق وإنما همهم الدينار والدرهم، ولا يهمهم المصدر الذي يجلب لهم المالأمن حلال هو أو من حرام. فراحوا يتاجرون بما فيه إفساد للدين ونشر للرذيلة وقتل للفضيلة؛ وذلك بما نراه اليوم من تجارة الكتب الهدامة التي تضلل الناس وتحرفهم عن دينهم أو التي تنشر أسباب الخنا والفجور من كتب الغرام وعرض صور النساء الفاجرات على غلاف المجلات وفي ثناياها، كما يلحق بهذا من يتاجر ببيع الوسائل المروّجة لذلك، وغير خافٍ على أحد ما ينشر في هذه الوسائل اليوم من شر وفساد، وكل ذلك من ظلم العباد في دينهم.

– أولئك الآباء أو الأبناء، الذين يسعون لملء بيوتهم من هذه الوسائل المدمرة للدين والأخلاق، فيخربون بيوتهم بأيديهم ويظلمون أنفسهم ومن تحت أيديهم بما يسببونه لهم من الانحراف والفساد والضياع بجلب الكتب والمجلات وأجهزة الفساد إلى أهليهم، فيحملون أوزارهم وأوزار الذين يُضلونهم.

– الذين يسهمون في الدلالة على الشر وأهله، والصد عن سبيل الله، والتنفير من أهل الخير وتشويه سمعتهم عند الناس.

– كما يدخل في ظلم الناس في دينهم كل من أسهم في ذلك بندوة أو محاضرة أو مقالة أو كتاب أو مسرحية…الخ مما فيه تضليل للناس أو إفساد لأخلاقهم. قال الله تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل: 25].

– من يُقَصّر من العلماء وطلبة العلم في تعليم الأمة أمر دينها فيتركها في لهوها وفسادها لا تؤمر ولا تنهى، أو تركها حائرة فيما ينزل عليها من النوازل دون هدايتها إلى وجه الحق في ذلك، كما أن من الظلم المبين كتمَ الحق عنها أو لبسَه بالباطل.

– كما يلحق بمن سبق أولئك الذين يُقَصّرون في تعليم أبنائهم أو آبائهم أو زوجاتهم فروض العين وما ينجون به من عذاب الله تعالى؛ فترك هؤلاء على جهلهم مع القدرة على تعليمهم يعد ظلماً في دينهم.

من صور ظلم العباد في النفس والعقل

* التعدي على كل نفس معصومة بقتل أو ضرب أو سجن أو تعذيب … إلخ. ويدخل في ذلك كل من باشر الاعتداء بنفسه أو أمر به أو أعان عليه أو أشار به أو فرح به أو شمت أو قعد عن نصرة المعتدى عليه وهو يقدر على ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: «من ضَرَبَ بسوط ظلماً اقتُصّ منه يوم القيامة» (2البخاري في الأدب المفرد (185) ، صحيح الجامع الصغير (6374)). وقال: «لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء». (3مسلم (2582))

فإذا كان هذا حال العجماوات فيما بينها فكيف الحال بما يقوم به اليوم طواغيت الأرض وأعوانهم من سجن وتعذيب وتشريد لصفوة عباد الله تعالى. إنه والله الظلم المبين.

ووقوع القتل العمد الصريح للمعصوم قد يكون قليلاً، لكن الذي يقع كثيراً هو القتل بشبهة أو تأويل؛ وهذا يكثر أيام الفتن والقتال بين طوائف المسلمين ـ أعاذنا الله من ذلك ـ وهذا هو الذي حَذِرَهُ جماعة من السلف واعتزلوا فيه الطوائف المتقاتلة وتذكروا قوله: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً». (4البخاري في الديات (6862))

* القعود عن إنقاذ من يتعرض لهلاك كالغريق والحريق والجريح مع إمكانية إنقاذه.

* ترويج المخدرات والخمور والدخان والإغراء بتناولها، ومعلوم ما في ذلك من الأضرار المعلومة

* التطبّب في الناس بجهل وشعوذة ونحوها؛ مما ينشأ عنه موت المريض أو استفحال مرضه.

* الإسهام في بيع المطعومات التي تضر بصحة الناس كالميتة والخنزير ومشتقاتهما أو بيع المغشوش من الأطعمة والأشربة الضارة بالصحة والعقل.

من صور ظلم العباد في أعراضهم

* كل ما سبق ذكره في الاعتداء على الدين، من شأنه هتك الأعراض وإشاعة الفاحشة بين الناس، ومحاربة الشريعة الغراء التي من مقاصدها حفظ الأعراض.

* قذف المُحصَن من المسلمين والمسلمات دون بيّنة شرعية؛ مما يلحق الأذى والعار بالمقذوف، ولا يخفى ما جاء من الآيات والأحاديث في النهي عن ذلك.

* المتاجرة في الملبوسات والأزياء النسائية المحرمة التي تصف الجسد أو تكشف بعضه تشبهاً بالكافرات، ويدخل في ذلك من يشتري مثل هذه الأزياء لأهله ويأذن لهم بالخروج فيها والتبرج بها، كما أن المرأة المتبرجة تعد هي الأخرى ظالمة للناس بتعريضهم للفتنة.

* التجارة بفتح المؤسسات السياحية المتخصصة بتسهيل السفر إلى بلاد الكفر بقصد ارتياد أماكن الفجور.

* الاعتداء على أعراض العباد بالغيبة والنميمة والفحش والسخرية والاستهزاء، والكذب عليهم، ويشتد الإثم في ذلك عندما توجه هذه الآفات إلى أهل الخير من العلماء والدعاة والمصلحين.

من صور ظلم العباد في أموالهم

* الاعتداء على أموال المعصومين سواء بسرقة أو إتلاف أو بالتحايل والخداع، وسواء كان المسروق عيناً أو نقداً. ويدخل في ذلك السرقة من الأموال العامة للمسلمين كبيت المال والصدقات وغنائم المجاهدين. قال الله عز وجل: ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَاًتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 161]. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن رجالاً يخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة». (5البخاري في فرض الخمس (3118))

ويلحق بذلك كل من استُؤمن على مال لحفظه أو استثماره ثم خان صاحب المال أو فرط في حفظه وتنميته، ويشتد الإثم إذا كان الاعتداء أو التفريط في حفظ المال العام والأوقاف وأموال اليتامى.

* الاستيلاء على أموال المعصومين بالغصب والقوة؛ ويتضح هذا جلياً في ظلم الأرض والعقار حيث يُستولى على الأراضي وتغير المنارات، وفي هذا جاء الوعيد الشديد؛ حيث قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوّقه الله يوم القيامة من سبع أرضين». (6البخاري، ك المظالم 3/ 100)

* التسبب في قطع حق المسلم من مال أو غيره إما بشهادة زور أو يمين كاذبة أو وجاهة… إلخ. قال صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة» فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: «وإن كان قضيباً من أراك». (7مسلم، كتاب الإيمان (131))

* أخذ الرشاوي من الناس ومنعهم حقوقهم إلا بها، وهذا من أكل المال بالباطل، ويدخل في أكل المال بالباطل التعامل بالقمار والميسر.

* السماح بإنشاء البنوك الربوية أو المساهمة في إنشائها، وتنمية المال من خلالها. ويلحق بذلك كل من تعامل بالربا فرداً كان أو مؤسسة، فكل ذلك من أكل المال بالباطل، ومن التعاون على الإثم والعدوان.

* ومما يدخل في ظلم الناس في أموالهم ما يقع بينهم من البيوع المحرمة التي يتضرر فيها أحد المتبايعين أو كلاهما، وهي كثيرة ومتنوعة منها بيوع الغرر أو بيع ما لا يملك أو بيع النجش..

* إنكار المدين ما عليه من الحق للدائن، أو المماطلة بالوفاء مع القدرة على ذلك فهذا من الظلم البيّن لقوله: «مطل الغني ظلم». (8البخاري في الحوالة (2287) ، مسلم (1564))

* منع الزكاة وعدم إيصالها لمستحقيها، وأخذ كرائم أموال الناس عند جباية الزكاة منهم لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم..». (9البخاري في الزكاة (1458))

لا تُكابر

هذا بعض مما جاءت به شريعة رب العالمين توفيرا لحرمة العباد وحفظا لكرامتهم، وإنجاءًا لهم بحفظ أديانهم. فبَئِس من تنكَّر لشرعة ربه أو تهاون بحدوده.

……………………….

الهوامش:

  1. مجموع الفتاوى 10/ 373.
  2. البخاري في الأدب المفرد (185)، صحيح الجامع الصغير (6374).
  3. مسلم (2582).
  4. البخاري في الديات (6862).
  5. البخاري في فرض الخمس (3118).
  6. البخاري، ك المظالم 3/ 100.
  7. مسلم، كتاب الإيمان (131).
  8. البخاري في الحوالة (2287)، مسلم (1564).
  9. البخاري في الزكاة (1458).

المصدر:

  • فضيلة الشيخ/ عبد العزيز الجُليّل، كتاب “وقد خاب من حمل ظلما”، ص75-120.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة