الظلم ظلمات على أصحابه في الدنيا والآخرة، وهو بؤس وشقاء وعناء على أهله في الدنيا وعذاب ونكال في الآخرة. وما من مصيبة ولا عقوبة تقع في الدنيا على مستوى الفرد أو الأمة إلا وسببها الظلم والعدوان؛ سواء كان ذلك الظلم هو الإشراك بالله عز وجل الذي هو أعظم الظلم، أو ظلم النفوس بما دون ذلك من المعاصي والمنكرات، أو ظلم العباد بعضهم بعضا.

ظلم أهل العلم والدعاة بعضهم لبعض

وهؤلاء النخبة من الناس هم صفوة المجتمعات من العلماء وطلبة العلم والدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ حيث لهم الأثر الطيب على الأمة. ولكن الشيطان بمكره وکيده لا يقر له قرار وهو يرى من يقف في طريق إفساده من العلماء والمصلحين، ولذا فهو لا يفتأ يثير الشحناء وينشر الظلم والتحريش بين أهل الخير حتى تدب الفرقة في صفوفهم، ويضعف أثرهم على الأمة، وقد وقع هذا في الأمة مع ما جاءنا من التحذير من ذلك في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ فالواجب على العبد المسلم المحب لنفسه الخير والسلامة في الدنيا والآخرة أن يسعى لنجاة نفسه من هذه الفتن، وأن يخرج من الدنيا وما في قلبه غل لأحد من أهل الخير، ولا يطالبه أحد منهم أو من غيرهم بمظلمة في عرض أو مال أو نفس.

صور الظلم الحاصلة بين بعض أهل العلم والدعوة

وأسوق فيما يلي ما ظهر لي في هذا الزمان من بعض صور الظلم الحاصلة بين بعض أهل العلم والدعوة عافانا الله من ذلك:

الحقد والحسد وإساءة الظن بأهل العلم والدعاة

* الغيبة والنميمة التي تنشأ في الغالب من الحقد والحسد لعالم أو داعية ظهر أثره على الناس، وألقي له القبول والمحبة بينهم؛ فتبدأ نيران الحسد والغيرة تأكل في أصحاب القلوب المريضة، ويدفعهم ذلك إلى أكل لحوم المخلصين من أهل العلم وتتبع عثراتهم والتقليل من شأنهم وفي هذا كله ظلم للنفس بمعصية الله عز وجل ومخالفتها لما نهى عنه سبحانه من الغيبة والنميمة بين المسلمين عامة، فكيف بها مع أهل الفضل والعلم والدعوة والإصلاح، فوق ما فيها من ظلم العباد وتحمل حقوقهم وتبعاتهم يوم القيامة.

ويلحق بذلك إساءة الظن بأهل العلم والدعاة إلى الله عز وجل، وتفسير النوايا والمقاصد حسب الأهواء والشهوات، وإشاعة ذلك بين الناس دون علم وعدل وتثبت، فإذا كانت إشاعة الخبر الصادق عن فلان من الناس لا تجوز إذا كان يكرهه لأنها غيبة، فكيف إذا كان الأمر محض الكذب والافتراء والظنون الفاسدة؟ إنه والله الظلم والبهتان، وقد نهى الله عز وجل المؤمنين عن ذلك كله في آية واحدة فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾ [الحجرات : 12]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته»1(1) مسلم في البر والصلة (2588) ..

تشويه سمعتهم والسعي بالوشاية عليهم لدى الظلمة

* إلحاق الأذى والضرر بأحد من أهل العلم والإصلاح سواء في بدنه أو عرضه أو ماله. كل ذلك من الظلم الذي سيحاسب عليه العبد المتسبب فيه يوم القيامة، يوم الفصل والحساب، یوم یکون القصاص بالحسنات والسيئات لا بالدينار والدرهم: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 89-88].

ومن صور ذلك: السعي بتشويه سمعة أهل الخير سواء في أنفسهم أو أهليهم، ومن ذلك السعي بالوشاية على أهل الخير لدى الظلمة حتى يؤذوهم بسجن أو قتل أو تعذيب أو مصادرة أموال وحريات، ومعلوم ما في ذلك من الأذى والضرر العظيمين على هذا المظلوم وأهله وأولاده وأمته التي تحرم خیره وأثره الطيب ببعده عنها. كل ذلك يحصل ويا للأسف والأسى من بعض من يدعي العلم والغيرة على الدين وما درى هذا الظالم لنفسه والظالم لعباد الله المتقين أنما يحيق ظلمه هذا على نفسه. وما درى أنه مع ذلك قد ظلم نفسه حقا وذلك بما ينتظره من تحمل تبعات عباد الله عز وجل ، هل يستطيع ظهر هذا الآثم الظالم حمل كل هذه الحقوق؟!

تصيد الهفوات والأخطاء ومجانبة الحق والإنصاف

* بخس أهل العلم حقهم وبلاءهم وجهدهم وجهادهم بمجرد عثرة وجدت عليه أو أكثر. فمن الظلم البين أن تنسى كل الأعمال الخيرة لداعية أو طالب علم وتتلاشى عند أول هفوة منه، مع أن الموقف العدل هو العكس تماما؛ ذلك بأن أهل الفضل والبلاء الحسن تغتفر لهم السيئة والسيئتين والثلاث، وتنغمر في بحر حسناتهم العظيمة؛ قال الله عز وجل: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾ [الأعراف: 85].

وفي هذا المعنى يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى بعد كلام له في التحذير من إشاعة أخطاء العلماء وإهدار محاسنهم: (ثم لو فرض أن ما أخطأوا أو عثروا ليس لهم فيه تأویل ولا عذر، لم يكن من الحق والإنصاف أن تهدر المحاسن وتمحى حقوقهم الواجبة بهذا الشيء اليسير؛ كما هو دأب أهل البغي والعدوان، فإن هذا ضرره كبير وفساده مستطير. أي عالم لم يخطئ؟ وأي حكيم لم يعثر؟!..

ثم قال في بيان صفات أهل العلم والدين: (فتجدهم متقربين إلى الله بمحبة أهل العلم والدين جاعلين محاسنهم وآثارهم وتعليمهم ونفعهم نصب أعينهم، قد أحبوهم لما اتصفوا به وقاموا به من هذه المنافع العظيمة، غير مبالين بما جاء منهم إليهم من القدح والاعتراض، حاملين ذلك على التأويلات المتنوعة، ومقيمين لهم الأعذار الممكنة، وما لم يمكنهم مما نالهم منهم أن يجدوا له محملا عاملوا الله فيهم، فعفوا عنهم لله، راجين أن يكون أجرهم على الله، وعفوا عنهم لما لهم من الحق الذي هو أكبر شفيع لهم، فإن عجزوا عن هذه الدرجة العالية التي لا يكاد يصل إليها إلا الواحد بعد الواحد: نزلوا إلى درجة الإنصاف، وهو اعتبار ما لهم من المحاسن ومقابلتها بالإساءة الصادرة منهم إليهم، ووازنوا بين هذه وهذه، فلابد أن يجدوا جانب الإحسان أرجح من جانب الإساءة أو متساويين أو ترجح الإساءة ، وعلى كل حال من هذه الاحتمالات فيعتبرون ما لهم وما عليهم.

وأما من نزل عن درجة الإنصاف فهو بلا شك ظالم ضار لنفسه، تارك من الواجبات عليه بمقدار ما تعدى فيه من الظلم. فهذه المراتب الثلاث: مرتبة الكمال، ومرتبة الإنصاف، ومرتبة الظلم، تميز كل أحوال أهل العلم ومقاديرهم ودرجاتهم ومن هو القائم بالحقوق ومن هو تارك، والله تعالى هو المعين الموفق)2(2) الرياض الناظرة والحدائق النيرة الزاهرة (ص 96 – 99 ) باختصار ..

ويقول محب الدين الخطيب رحمه الله تعالى: (يجب على من يتحدث عن أهل الحق والخير إذا علم لهم هفوات أن لا ينسى ما غلب عليهم من الحق والخير؛ فلا يكفر ذلك كله من أجل تلك الهفوات . ويجب على من يتحدث عن أهل الباطل والشر إذا علم لهم بوادر صالحات أن لا يوهم الناس أنهم من الصالحين من أجل تلك الشوارد الشاذة من أعمالهم الصالحات)3(3) مقدمة العواصم من القواصم ( ص3)..

ومما يدخل في هذه الصورة من الظلم: الحكم على أخطاء الدعاة بمعيارين مختلفين وليس بمعيار واحد مع الجميع؛ ومثال ذلك أن يوجد شخصان من أهل العلم يخطئان خطأ واحدا، فيأتي من جانب العدل في مواقفه فيعذر من يحب منهما ويذكر حسناته وبلاءه حتى يصغر خطؤه، أما الآخر فيشنع عليه خطأه ويضخمه، ويسيء الظن به، وينسى حسناته، ويشهر به، مع أن الخطأين منهما واحد. فلماذا هذان المعياران المختلفان؟ إن هذا من الظلم والتطفيف في الميزان وقد نهى الله عز وجل عن ذلك بقوله: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: 1-3].

وأسوق حوارا جميلا جرى بين صحابيين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يرد فيه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على المسور ابن مخرمة رضي الله عنه عندما ذكر له ما يعلمه عليه من أخطاء، لعلها ترسم لنا منهجا عادلا في التعامل مع الأخطاء:

(عن عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة أخبره أنه قدم وافدا على معاوية بن أبي سفيان فقضى حاجته ثم دعاه فاخلاه فقال:

يا مسور: ما فعل طعنُك على الأئمة ؟

فقال المسور: دعنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له.

قال معاوية: لا والله، لتكلمنَّ بذات نفسك والذي تعيب علي.

قال المسور: فلم أترك شيئا أعيبه عليه إلا بينته له.

قال معاوية: لا بريء من الذنب. فهل تعد يا مسور مالي من الإصلاح في أمر العامة، فان الحسنة بعشر أمثالها أم تعد الذنوب وتترك الحسنات؟

قال المسور: لا والله، ما نذكر إلا ما ترى من هذه الذنوب.

قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم يغفرها الله؟

قال مسور: نعم.

قال معاوية: فما يجعلك أحق أن ترجو المغفرة مني؟

فوالله لما أَلِي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أخُير بين أمرين بين الله وبين غيره، إلا اخترت الله تعالى على ما سواه، وإنا على دين يقبل الله فيه العمل، ويجزي فيه بالحسنات ويجزي فيه بالذنوب إلا أن يعفو عمن يشاء.

فأنا أحتسب كل حسنة عملتها بأضعافها، وأوازي أمورا عظاما لا أحصيها ولا تحصيها، من عمل الله في إقامة صلوات المسلمين والجهاد في سبيل الله -عز و جل- والحكم بما أنزل الله تعالى، والأمور التي لست تحصيها وإن عددتها لك. فتفكر في ذلك.

قال المسور: فعرفت أن معاوية قد خصمني حين ذكر لي ما ذكر.

قال عروة فلم يسمع المسور بعد ذلك يذكر معاوية إلا استغفر له)4(4) سير أعلام النبلاء 3/ 150-151 ومختصر تاريخ دمشق (7/288)..

الفرح بوقوع أهل الخير في الأخطاء والمخالفات

* الفرح بوقوع أهل الخير في الأخطاء والمخالفات، والحزن والانقباض عند إصابتهم للحق أو ظهور الخير على أيديهم ومحبة الناس لهم. كما يلحق بهذا الشماتة والفرح عندما يحل الضرر والأذى بأحد من أهل العلم. كل هذا – والعياذ بالله تعالى – من الظلم والحقد الذي يجب على كل مسلم – فضلا عن أهل العلم – أن يجتنبوه ويسعوا لعلاج هذه الأمراض الخطيرة إذا أحسوا بوجودها في القلوب .

غياب الصدق والوضوح

* عدم الصدق والوضوح بين بعض أهل العلم، والتعامل بأسلوب المراوغة والغموض والذي مآله إلى الكذب والخداع والغدر والخيانة، وفي هذا كله ظلم وفساد ومحق للبركة والخير. كما أن فيه إذكاء للفرقة والعداوة والظنون السيئة. وياليت من يقع في هذه الأعمال المشينة يقر بخطئه ويمقت فعله، إذن لكان الأمر أهون، ولكن المصيبة في وجود من لا يرى في هذه الممارسات بأسا بل يعدها من الحنكة والسياسة والمصلحة!! نعوذ بالله من أن نكون ممن زين لهم الشيطان سوء أعمالهم.

القعود عن نصرة العلماء والدعاة

* السكوت على ما يقع على الدعاة من ظلم وعدوان، والقعود عن نصرة المظلوم منهم؛ وذلك بحضور المجالس التي يحصل فيها النيل من أعراضهم وإساءة الظن بهم وإثارة الشائعات والتهم الباطلة عليهم. لا ينتصر لهم أحد في المجلس ولا يذب عن أعراضهم مع العلم ببراءتهم مما يشاع عنهم. إن هذا الصنيع من جميع الحاضرين لهذه المجالس ناطقهم وساكتهم يعد ظلما وعدوانا؛ وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»5(5) البخاري في الإكراه (6952).، وقال أيضا: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه… الحديث»6(6) البخاري في المظالم (2447). وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ يخذل امرءا مسلما عند موطن تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر امرءا مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وتنتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته»7(7) مسند أحمد 4/30 ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5690)..

وقد اشترط الرسول صلى الله عليه وسلم على الجالسين على قارعة الطريق أن يعينوا المظلوم فقال: «إن أبيتم إلا أن تجلسوا فاهدوا السبيل، وردوا السلام وأعينوا المظلوم»8(8) أحمد 4/282، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1407). وقال صلى الله عليه وسلم في فضيلة نصرة المسلم: «من نصر أخاه بظهر الغيب، نصره الله في الدنيا والآخرة»9(9) البيهقي في السنن الكبرى 8/168 ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع .(6574)..

إهدار الجهود الخيرة لبعض الدعاة

* قيام بعض الدعاة هداهم الله بعرقلة بعض مجالات الخير والصلاح وحرمان الأمة منها بحجة أن القائمين عليها لا يوافقونه في بعض مواقفه، أو أنهم ليسوا من طائفته وحزبه، أو أن عليهم ملاحظات کیت وکیت … إلخ. ولا يخفى ما في ذلك من الظلم والعدوان على النفس وعلى أهل الخير وعلى الأمة بحرمانها من هذه المجالات الدعوية الخيرة، وبخاصة في هذا الزمان الذي انفتحت فيه أبواب الشر على مصاريعها وعم الفساد وطم، وصار واجبا على كل مسلم أن يفرح بأي باب من الخير يفتح وبأي باب من الشر يغلق؛ سواء تم ذلك على يديه أو على يد غيره ممن يعرفه أو لا يعرفه . والداعية المخلص صاحب القلب السليم يفرح بكل داعية إلى الخير ويحبه ويدعو له ولو كان يخالفه في مسائل معينة. ومن الظلم إهدار الجهود الخيرة لبعض الدعاة بمجرد التحفظ على بعض مواقفهم، ومن الظلم التقليل من هذه الجهود وتحقيرها أو إساءة الظن بفاعليها.

جور في الردود والمناظرات

* ومن مظاهر الظلم بين بعض أهل العلم ما يكون بينهم من جور في الردود والمناظرات سواء كانت مكتوبة أو منطوقة لأن الردود في الغالب لا تخلو من الهوى وحظوظ النفس ولذا فينبغي لطالب العلم أن لا يلجأ إلى الرد على من يخالفه إلا في أضيق نطاق وعند الضرورة أو الحاجة لذلك، وإذا احتاج إلى ذلك فينبغي تفقد النفس وحظوظها أثناء الرد حتى لا يجور في رده على مخالفة.

ومن الأمور التي تكون في الغالب مدعاة إلى ظلم المخالف والعدوان عليه أثناء الردود ما يلي:

أ- تفسير النوايا والمقاصد: لأن أمر النوايا والدوافع إلى الله عز وجل فهو الذي يعلم ما تخفي الصدور وهو سبحانه علام الغيوب . ولا يستطيع أحد من البشر الشق عن قلوب الناس والإخبار عن نواياهم إلا أن يخبر الشخص بنفسه عن نيته وقصده فهذا هو الممكن فقط . وما سوى ذلك فإن تفسير إنسان ما لنية إنسان آخر يعد ظلما وعدوانا وبخاصة إذا كان التفسير شيئا مشينا.

ب- إلزام المخالف بما لا يلتزم به: الإلزام بلازم القول يرد كثيرا في الردود والمناظرات، وهو أسلوب جيد في إقامة الحجة على المخالف، وتذكيره بما يلزم على قوله حتى يعود عنه، وهذا يصلح ما دام المتناظران موجودين، أو أن إمكانية الرد من أي طرف ممكنة. لكنه لا يصلح البتة في إلزام المخالف بلازم قوله وأنه هو رأيه وموقفه مع أنه لا يسلم بذلك . وبمعنى آخر لا يجوز أن ينسب لشخص ما رأي أو موقف بناء على ما يلزم من بعض كلامه؛ لأنه قد يقول قولا ولا يسلم بلازمه؛ والمواقف والاعتقادات تؤخذ من صریح كلام أهلها لا من لازم كلامهم، ومن الظلم أن ينسب إلى شخص ما رأي أو اعتقاد بناء على ما يلزم على کلامه.

ومثال ذلك ما ذكره الشاطبي رحمه الله تعالى عن حاله وحال بعض أهل زمانه الذين ألزموه بلوازم لم يقل بها ولم يعتقدها؛ فقال عما نسب إليه كذبا وبهتانا: (فتارة نسبتُ إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه – كما يعزي إلى بعض الناس – بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة والسلف الصالح والعلماء وتارة نسبت إلى الرفض وبعض الصحابة رضي الله عنهم بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب.

وقد سئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين؟ فقال: (هو بدعة، ولا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة). قيل له: فدعاؤه للغزاة والمرابطين؟ قال: (ما أری به بأسا عند الحاجة إليه، وأما أن يكون شيئا يصمد له في خطبته دائما؛ فإني أكره ذلك).

ونص أيضا عز الدين بن عبد السلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبه .

وتارة أضيف إليّ القول بجواز القيام على الأئمة؛ وما أضافوه إلا من عدم ذكرهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم .

وتارة حمل على التزام الحرج والتنطع في الدين؛ وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم ينعونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه – وإن كان شاذا في المذهب الملتزم أو في غيره -، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك، وللمسألة بسط في كتاب الموافقات .

وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله؛ وسبب ذلك أني عادیت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين – بزعمهم – لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.

وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة بناء منهم على أن الجماعة التي أمرنا بها – وهي الناجية – ما عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان . وسيأتي بيان ذلك بحول الله، وكذبوا علي في جميع ذلك أو وهموا)10(10) الاعتصام 1/37-36.أ.ه

ج- الوقوف عند كلام محتمل للمردود عليه وإلزامه بفهم معين يحدده المخالف وبناء على هذا الفهم يصنف المخالف ويرمى بالتهم التي هو بريء منها، مع أنه قد يكون هناك كلام واضح محكم للمردود عليه في مواطن أخرى من كتبه أو كلامه لو رد إليها المشتبه منها لتبين المعنى المراد في كلامه المحتمل، وهذا هو المنهج العادل في التعامل مع المخالف. أما الوقوف مع المشتبه من الجمل والمحتمل لعدة معان دون ردها إلى الواضح منها؛ فإن هذا من الظلم والجور وبخاصة إذا ترتب على ذلك رمي المخالف بالتهم والقدح في عقيدته وتبديعه أو تكفيره أو منابذته ومقاتلته. بل إن الوقوف مع الجمل المشتبهه دون ردها إلى الجمل المحكمة هو من مأخذ أهل البدع في الاستدلال وقد ذكر ذلك الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه القيم: الاعتصام.11(11) الاعتصام للشاطبی 1/220 ..

مثال: سيد قطب وعقيدة وحدة الوجود

وأضرب مثالا لأحد الدعاة الذين وقعوا تحت هذا النوع من الظلم في هذا الزمان ألا وهو سيد قطب رحمه الله تعالى؛ فلقد تعرض للقدح في عقيدته من البعض – هداهم الله – حيث وقفوا عند بعض الجمل المحتملة لأكثر من معنى في بعض كتاباته وحكموا على الرجل بفهمهم الخاص دون أن يردوه إلى الواضح من كلامه والذي ينفي ويبطل ما فهموه من كلامه المجمل.

ومن التهم الجائرة التي تعرض لها رحمه الله تعالى: نسبته إلى القائلين بوحدة الوجود بناء على كلام مجمل ذكره عند تفسير سورة الإخلاص وأول سورة الحديد، حلق به الأسلوب فاسترسل بعبارات مجملة ليته جاء بغيرها، لكن من الظلم له أن يرمى بعقيدة وحدة الوجود بمجرد كلام مجمل ومحتمل، كيف وهو قد صرح في موطن آخر من تفسيره بكلام محكم صريح في رفضه لهذه العقيدة ورده على أهلها. ولو أن من تسرع في رمیه – رحمه الله تعالى – بهذه التهمة رجع إلى هذا الكلام الصريح له لندم على اتهامه وتاب إلى الله سبحانه من هذا الظلم إن سلم القلب من الهوى والغرض.

وأسوق الآن كلا الموطنيين اللذين في أحدهما إجمال واحتمال قد يفهم منه التأثر بعقيدة وحدة الوجود، والموطن الثاني صريح وواضح في رفضه رحمه الله تعالى لهذه العقيدة وأنه لم يدر في خلده هذا الفهم في الموطن الأول . وأترك الحكم للقارئ الكريم .

قال رحمه الله تعالى في تفسر سورة الإخلاص: (﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.. ﴾ وهو لفظ أدق من لفظ واحد.. لأنه يضيف إلى معنى واحد أن لا شيء غيره معه. وأن ليس كمثله شيء.

إنها أحدية الوجود.. فليس هناك حقيقة إلا حقيقته، وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده . وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية .

وهي – من ثم – أحدية الفاعلية؛ فليس سواه فاعلا لشيء، أو فاعلا في شيء، في هذا الوجود أصلا، وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضا) .

أما الموطن الثاني الذي صرح فيه برفضه لعقيدة وحدة الوجود فهو ما ذكره في سورة البقرة عند قوله تعالى: ﴿بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [البقرة : 116-117]. قال رحمه الله تعالى بعد رده على الفلاسفة الذين فسروا هذا الوجود بعقولهم الفاسدة: (والنظرية الإسلامية: أن الخلق غير الخالق، وأن الخالق ليس كمثله شيء… ومن هنا تنتفي من التصور الإسلامي فكرة : وحدة الوجود على ما يفهمه غير المسلم من هذا الاصطلاح – أي بمعنى أن الوجود وخالقه وحدة واحدة – أو أن الوجود إشعاع ذاتي للخالق، أو أن الوجود هو الصورة المرئية الموجده .. أو على أي نحو من أنحاء التصور على هذا الأساس.. والوجود وحدة في نظر المسلم على معنى آخر: وحدة صدوره عن الإرادة الواحدة الخالقة، ووحدة ناموسه الذي يسير به، ووحدة تكوينه وتناسقه واتجاهه إلى ربه في عبادة وخشوع) وانتهى كلامه يرحمه الله.

فهل بعد هذا الرفض الصريح لعقيدة وحدة الوجود مدخل لأحد يتهم الرجل لما هو يرفضه ويتبرأ منه. غفر الله لسيد قطب عبارته هذه والذي جنح به خياله الأدبي فجاء بأسلوب وسع فيه العبارة، ولا ندعي العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الظلم الذي يجب أن يحذره أهل العلم في حق الأمة

العلم أمانة عظيمة في أعناق أهله، وحرمان الأمة منه وتركها في الجهل والضلال يعد ذلك ظلما لها وخيانة للأمانة؛ قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27].

ويمكن تلخيص بعض أشكال هذا الظلم فيما يلي:

أ- ترك الأمة جاهلة بأحكام دينها وما افترض الله عز وجل عليها بداية من معرفة التوحيد وما يضاده من الشرك وانتهاء بالأحكام الفقهية العينية التي يجب على كل مسلم بعينه أن يعرفها.

ب- ترك الأمة في لهوها وفسادها و منکراتها لا تؤمر ولا تنهى ولا يؤخذ على أيدي السفهاء منها؛ قال تعالى: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾[المائدة: 63].

ج- ترك الأمة حائرة فيما ينزل بها من النوازل دون هدايتها إلى وجه الحق في نوازلها وما ينبغي فعله إزاءها، وإسلامها للجهلة والمفسدين لتصدر عن آرائهم ومواقفهم.

د- تضليل الأمة بكتم الحق عنها أو لبسه بالباطل مما يجعلها تعيش في عماية من أمرها تحسب الحق باطلا والباطل حقا.

ه- عدم تبني أهل العلم لقضايا الأمة والدفاع عنها والقعود عن نصرة المظلومين فيها.

ز- تلبس بعض أهل العلم ببعض المخالفات الشرعية وتقليد العامة لهم فيها إما عن جهل أو هوى ومغالطة .

الهوامش

(1) مسلم في البر والصلة ( 2588) .

(2) الرياض الناظرة والحدائق النيرة الزاهرة (ص 96 – 99) باختصار .

(3) مقدمة العواصم من القواصم ( ص3).

(4) سير أعلام النبلاء 3/ 150، 151 ومختصر تاريخ دمشق (7/288).

(5) البخاري في الإكراه (6952).

(6) البخاري في المظالم (2447).

(7) مسند أحمد 4/30 ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5690).

(8) أحمد 4/282، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1407).

(9) البيهقي في السنن الكبرى 8/168 ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع .(6574).

(10) الاعتصام 1/37-36.

(11) الاعتصام للشاطبی 1/220 .

اقرأ أيضا

نازلة الامتحان بقول الباطل

القنديل والمنديل .. وما يجري على الدين من تبديل (1-4) بيان الجريمة

القنديل والمنديل .. وما يجري على الدين من تبديل (2 – 4) قناديل من علماء السلف

القنديل والمنديل .. وما يجري على الدين من تبديل (3-4) قناديل معاصرة

القنديل والمنديل .. وما يجري على الدين من تبديل (4-4) مواقف مظلمة

 

التعليقات غير متاحة