قد يبخل امرؤ بحقوق الله وحقوق خلقه فيُذم، وقد يسرف فيُذم أيضا. وقد يتمادى امرؤ في حقوق الخلق عن نفسه وربه فيُذم أو يجفو عن خلقه فيذم. والوسط العدل، والجمع بين الأمور هو الخير.

مقدمة

للمال وظيفة لإقامة الحياة، والصله به أمر متأكد شرعا، لكن النفوس لا تنضبط على حال بعينه؛ فقد تبخل بحقوق أو تسرف بالنفقة وكلاهما ذميم. والقرآن يؤكد خطأ الانحرافين ويوجه الى العدل والقصد.

وكذلك الموازنة بين الحقوق، وبين صلة الخلق ومحاسبة النفس والصلة بالرب سبحانه. والتوازن والجمع بين الحقوق بعدل تطيقه النفس هو الطريق الأرحب والقصد الموصل لرب العالمين سبحانه.

أولا: الإنفاق

 قال الله عز وجل: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [الإسراء:29].

وقال عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان:67].

يقول الإمام ابن كثير، رحمه الله تعالى، عند هذه الآية:

“أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم بل عدلًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها لا هذا ولا هذا».

ويقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، في وصف أهل التوسط والاعتدال:

“وقد مدح تعالى أهل التوسط بين الطرفين المنحرفين في غير موضع من كتابه؛ فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان:67].

وقال تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [الإسراء:29].

وقال: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء:26].

فَمَنْعُ ذي القربى والمسكين وابن السبيل حقهم انحراف في جانب الإمساك، والتبذير انحراف في جانب البذل، ورضاء الله فيما بينهما، ولهذا كانت هذه الأمة أوسط الأمم، وقِبلتها أوسط القِبَل بين القبلتين المنحرفتين، والوسط دائمًا محمي الأطرف». (1«الصلاة» لابن القيم (ص193، 194))

ويقول في موطن آخر:

“وأما الفرق بين الاقتصاد والشح: أن الاقتصاد خُلُق محمود يتولد من خُلقين: عدل وحكمة؛ فبالعدل يعتدل في المنع والبذل، وبالحكمة يضع كل واحد منهما موضعه الذي يليق به، فيتولد من بينهما الاقتصاد؛ وهو وسَط بين طرفين مذمومين كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [الإسراء:29].

وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان:67]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين﴾ [الأعراف: 31].

وأما الشح فهو خُلُق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس، ويمده وعد الشيطان حتى يصير هلعًا، والهلع شدة الحرص على الشيء والشره به فتولد عنه المنع لبذله والجزع لفقده كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج:19-21]». (2«الروح» (ص503))

ويقول سيد قطب، رحمه الله تعالى، عند آية الفرقان:

“وهذه هي سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات ويتجه إليها في التربية والتشريع؛ يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال.

والمسلم ـ مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة ـ ليس حرًّا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان، إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير، فـ “الإسراف” مَفسدة للنفس والمال والمجتمع، و”التقتير” مثله؛ حبْس للمال عن انتفاع صاحبه به، وانتفاع الجماعة من حوله؛ فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية، والإسراف والتقتير يُحدثان اختلالًا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، وحبْس الأموال يُحدث أزمات، ومثله إطلاقها بغير حساب، ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق.

والإسلام، وهو ينظم هذا الجانب من الحياة؛ يبدأ به من نفس الفرد، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: ﴿لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان:67]». (3«في ظلال القرآن» (5/ 2578، 2579))

زبدة توجيه القرآن في المال

من كل ما سبق نخلص إلى أن القرآن الكريم قد بيَّن لنا المنهج العدل الوسط في إنفاق المال وأنه وسط بين طرفين:

الأول: طرف القابضين أيديهم، البخلاء بأموالهم المقترين على أنفسهم وعلى أهليهم فضلًا عن من سواهم.

الثاني: طرف المسرفين المترفين، المفْرِطُين في إنفاق المال الذين بسطوا أيديهم كل البسط.

وبين هذين الطرفين تقف قِلة من الناس سلكوا السبيل القويم والتزموا العدل والتوازن؛ وهؤلاء هم عباد الرحمن حقًّا.

ثانيًا: حقوق الخلق

شرع الله عز وجل لعباده حقوقًا بعضهم على بعض؛ فللوالدين حقوق وللأولاد حقوق، وللأزواج حقوق، وللأقارب حقوق، وللجيران حقوق، وللضيف حقوق، ولليتامى والمساكين حقوق، وللأصحاب حقوق، وغير هؤلاء من الخلق.

والعدل في ذلك والتوازن: ألا يطغى حق على حق، ولا تطغى حقوق هؤلاء على حق النفس، ولا يطغى حق النفس وحقوق الخلق على حق الله تعالى، والموفَّق من رزقه الله عز وجل الموازنة بين الحقوق كلها.

أصناف الناس أمام الحقوق

والناس في الموازنة بين هذه الحقوق وبين حق الله تعالى، أو حق النفس طرفان ووسط:

الطرف الأول: طرف من أفرط في حقوق الخلق

وقام بها حتى شغله ذلك عن حق الله عز وجل ، وطاعته والدعوة إليه، والجهاد في سبيله. أو شغَله ذلك عن نفسه، ومحاسبتها في تفريطها في جنب الله تعالى.

الطرف الثاني: طرف من فَرَّط في حقوق العباد

حتى قصّر فيما يجب عليه نحوهم من حقوق دينية؛ كدعوةٍ أو تعليم أو حقوق صلة وبر، متعللًا بحق الله تعالى أو حق النفس.

الوسط والعدل: وهو من لم يطغ عنده حق على حق

بل وازن بين الحقوق كلها وأعطى كل ذي حق حقه متمثلًا في ذلك التوجيه النبوي الكريم والذي يتمثل في الرواية التالية:

عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتبذِّلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعامًا، فقال له: كـل، فـإنـي صـائم. قـال: مـا أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقومُ، فقال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نَمْ، فلما كان من آخر الليل، قال سلمانُ: قُمِ الآن، فصلَّيَا، فقال له سلمانُ: إنَّ لرِّبك عليك حقًّا، وإنَّ لنفسك عليك حقَّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقَّهُ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: «صدَقَ سلمانُ». (4رواه البخاري، في الأدب، باب: صنع الطعام والتكلف للضيف (6139))

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، وهو يتحدث عن الأدب وأنه التوسط في الأمور:

“ومثال ذلك ـ أي: التوسط ـ في حقوق الخلق: ألا يُفْرط في القيام بحقوقهم، ولا يستغرق فيها، بحيث يشتغل بها عن حقوق الله، أو عن تكميلها، أو عن مصلحة دينه وقلبه، وألا يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية؛ فإن الطرفين من العدوان الضار، وعلى هذا الحد، فحقيقة الأدب هي العدل، والله أعلم”. (5«مدارج السالكين» (3/ 213)، ط. دار طيبة)

خاتمة

بُنيت هذه الحياة على الاعتدال، ونزلت الشرائع مبنية على الاعتدال وتقصد الى إقامة العدل. ومن سلك العدل الوسط وصل أسرع ممن شذ الى أحد الطرفين المذمومين. فالتكلف لا ينفع، والغلو مع طرف دون آخر مذموم وتفريط في عبوديات أخرى أمر الله تعالى. ولا أنفع للعبد من التوازن والعدل. قال تعالى ﴿وعلى الله قصد السبيل﴾ فالسبيل القاصد يدل على الله تعالى وعلى عبادته وهو الموصل اليه، والله الموفق سبحانه.

……………………..

الهوامش:

  1. «الصلاة» لابن القيم (ص193، 194).
  2. «الروح» (ص503).
  3. «في ظلال القرآن» (5/ 2578، 2579).
  4. رواه البخاري، في الأدب، باب: صنع الطعام والتكلف للضيف (6139).
  5. «مدارج السالكين» (3/ 213)، ط. دار طيبة.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة