التزام العدل يضبط الأخلاق، وافتقاد العدل في الأخلاق ينحرف بصاحبه. هذا في كل خُلق، وكذلك في الأقوال والأعمال. فمن أدركه سعِد.

مقدمة

لقد فطر الله عز وجل الإنسان على الخير، وركز في فطرته أصول الأخلاق الفاضلة؛ وركب فيها الميل إلى الحَسن، والنَّفرة من القبيح، إلا من انتكست فطرته تحت وطأة البيئة وسوء التربية، وإغواء النفس والشيطان، ومع ذلك جاء الإسلام بالتأكيد على الأخلاق الفاضلة، والحث عليها، والتنفير من الأخلاق السيئة بصورة تتسم بالوسطية والعدل والتوازن.

والدين كله خُلق؛ عقائده وعباداته وأحكامه ومعاملاته؛ كما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان خلقه القرآن». (1صحيح مسلم، (746))

ويقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى:

“الدين كله خُلق؛ فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الدين”. (2مدارج السالكين، (3/ 73)، ط. دار طيبة)

وقد جاءت أخلاق الإسلام متصفة بصفة العدل والتوازن؛ فكل خُلق حميد فهو وسَط بين خُلقين ذميمين: أحدهما ينزع إلى الغلوّ والإفراط، والآخر ينزع إلى التفريط والتضييع.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى:

“والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط؛ فيحمله على خُلق الجود والسخاء الذين هما توسّط بين الإمساك والإسراف والتبذير، وعلى خلق الحياء الذي هو وسط بين الذُّلِّ والقِحَة، وعلى خُلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خُلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس.

وكل خُلق محمود مكتنَف بخُلقين ذميمين، وهو وسط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان… فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخُلقين الذميمين لا بد.

فإذا انحرفَت عن خلق (التواضع) انحرفت إما إلى كِبْر وعُلوّ، وإما إلى ذل ومهانة وحقارة، وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إما إلى قِحَة وجرأة، وإما إلى عجز وخَوَر ومهانة، بحيث يُطمِع في نفسه عدوه، ويَفُوته كثير من مصالحه، ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء؛ وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس.

وكذلك إذا انحرفَت عن خُلق (الصبر المحمود) انحرفت: إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط، وإما إلى غِلظة كبد، وقسوة قلب، وتحجُّر طبع.

وإذا انحرفَت عن خلق (الحِلم) انحرفَت إما إلى الطيش والنزق والحدة والخفة، وإما إلى الذل والمهانة والحقارة، ففرق بين مَن حِلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز، وبين من حِلمه حلم اقتدار وعزة وشرف.

وإذا انحرفَت عن خلق (الأناة والرفق) انحرفت: إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة. والرفق والأناة بينهما.

وإذا انحرفَت عن خلق (العزة) التي وهبها الله للمؤمنين، انحرفَت إما إلى كِبر، وإما إلى ذل. والعزة المحمودة بينهما.

وإذا انحرفَت عن خُلق (الشجاعة) انحرفت ما إلى تهور وإقدام غير محمود، وإما إلى جبن وتأخر مذموم.

وإذا انحرفت عن خلق (المنافسة في المراتب العالية والغبطة) انحرفت إما إلى حسد، وإما إلى مهانة وعجز وذل ورضا بالدُّون.

وإذا انحرفت عن (القناعة) انحرفت إما إلى حرص وكَلَب، وإما إلى خِسَّة ومهانة وإضاعة.

وإذا انحرفت عن خلق (الرحمة) انحرفت إما إلى قسوة، وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس، كمن لا يقدم على ذبح شاة، ولا إقامة حد، وتأديب ولد؛ ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك، وقد ذبح أرحمُ الخلق صلى الله عليه وسلم بيده في موضع واحد ثلاثًا وستين بدنة، وقطع الأيدي من الرجال والنساء، وضرب الأعناق، وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم، وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرأفهم.

وكذلك (طلاقة الوجه)، والبشر المحمود؛ فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد، وطيِّ البِشْر عن البَشَر، وبين الاسترسال بذلك مع كل أحد بحيث يُذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبِغْضة والنَّفْرة في قلوب الخلق.

وصاحب الخُلق الوسط مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه، وفي صفة نبينا صلى الله عليه وسلم: «من رآه بديهًة هابه، ومن خالطه عِشْرة أحبه». (3رواه الترمذي في المناقب، باب: ما جاء في صفة النبي، وقال: حسن غريب، وضعفه الألباني في «ضعيف الترمذي» (748))، والله أعلم». (4مدارج السالكين، (3/ 74-79) باختصار، ط. دار طيبة)

وبعد هذا البيان لأهمية ومحورية الوسطية والتوازن في أخلاق هذا الدين؛ فإنه يحسن بنا التفصيل في إظهار هذه السِمة في بعض الأخلاق، ومنها تلك التي ظهرت في عصرنا الحاضر وهي مجانبة للتوسط والاعتدال، خاصة وأنها سَرَت في المجتمع حتى وصلت إلى بعض الدعاة وطلبة العلم.

العدل والتوازن في الكلام والبيان

إن نعمة النطق واللسان والبيان نعمة عظيمة لا يقدّرها حق قدْرها إلا من فقدها أو عاش بين الناس أبكمًا.

قال تعالى ممتنًا على عباده بنعمة البيان: ﴿الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن:1-4].

والقلم والكتابة من البيان الذي أنعم الله به على الإنسان.

يتفاوت الناس في نعمة الكلام والبيان حيث ينقسمون إلى طرفين ووسط.

طرف الإفراط في الكلام والبيان

وصاحبه هو “المهذار” الذي يطلق لسانه أو قلمه في ما لا فائدة فيه؛ وما لا يعنيه؛ وهذا في الغالب يعرّض نفسه لكثير من آفات الكتابة، واللسان؛ كالرياء والغيبة والنميمة والكذب، وقول الباطل والسب والشتم، وغيرها من آفات اللسان والقلم.

طرف التفريط في الكلام والبيان النافع

وصاحب هذا الطرف هو الذي يغلب عليه الصمت، وقلة الكلام حتى يوقعه ذلك في السكوت عن قول الحق أو السكوت على باطل، أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، وقد يصل به التقصير في أداء نعمة الكلام إلى أن يفوّت على نفسه كثيرًا من العبادات اللسانية؛ كالذكر والدعاء وقراءة القرآن.

وعن هذين الطرفين يتحدث الإمام ابن القيم وهو يصور وصية الشيطان لذريته في القيام على ثغر اللسان فيقول:

“قوموا على ثغر اللسان؛ فإنه الثغر الأعظم، وهو قبالة الملك، فأجْرُوا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه: من ذكر الله تعالى واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع، ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهما ظفرتم:

أحدهما) التكلم بالباطل؛ فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم، ومن أكبر جندكم وأعوانكم.

والثاني) السكوت عن الحق؛ فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما أن الأول أخ ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم؛ أما سمعتم قول الناصح: المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس؟

فالرباطَ الرباطَ على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل، وزيّنوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوّفوه من التكلم بالحق بكل طريق.

واعلموا يا بَنِيَّ أن ثغر اللسان هو الذي أُهلِكُ منه بني آدم، وأكُبُّهم منه على مناخرهم في النار، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر». (5الجواب الكافي، (ص 137، 138) ت: حسين عبد الحميد)

الموقف الوسط العدل

وهو الموقف الذي يقوم فيه أهله بأداء شكر نعمة اللسان والبيان؛ فيتكلمون ويكتبون في الأمر حين يكون طاعة لله عز وجل، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، ويُسخِّرون هذه النعمة في اللَّهَج بذكر الله تعالى، وشكره وعبادته، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، ويسكتون حين يكون السكوت محبوبًا لله عز وجل ؛ وذلك حينما يكون الكلام معصيةً لله عز وجل؛ كالظلم والرياء والغيبة والنميمة، وقول الباطل وغير ذلك من آفات اللسان.

ويصف الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، هذه المواقف الثلاثة فيقول:

“وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى:

آفة الكلام، وآفة السكوت؛ وقد يكون كل منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها..

فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاصٍ لله، مراءٍ مداهن إذا لم يخَف على نفسه. والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاصٍ لله.

وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته؛ فهم بين هذين النوعين، وأهل الوسط ـ وهم أهل الصراط المستقيم ـ كفُّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة؛ فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلًا أن تضره في آخرته.

وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به». (6الجواب الكافي، (ص 220) ت: حسين عبد الحميد)

وهكذا كان السلف الصالح ـ رحمهم الله تعالى ـ في طريقتهم في الكلام أو السكوت وسطًا بين الإفراط والتفريط.

فعن ميمون بن مهران قال:

“جاء رجل إلى سَلمان فقال: أوصني. قال: لا تَكلَّمْ. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يتلكم. قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكتْ.

قال: زدني. قال: لا تغضب. قال: إنه ليغشاني ما لا أملكه. قال: فإن غضبت فأمسك عليك لسانك ويدك.

قال زدني. قال: لا تلابس الناس. قال: لا يستطيع من عاش في الناس ألا يلابسهم. قال: فإن لابستَهم فاصدق الحديث وأد الأمانة”. (7«صفة الصفوة» (1/ 549))

خاتمة

العدل من مجامع الأخلاق فمن أنعم الله تعالى عليه فرأى مواضعه، ثم أنعم عليه فأعطاه من القوة ما يقوم بهذا العدل في جميع مجالات حياته، وفي جوانب الأخلاق بتنوعها؛ فهي نعمة عظيمة وفوز وإدراك للفلاح الذي رجّى الله عباده فيه، وتحقيق لمجامع الأوامر وكليات المأمورات التي أمر الله تعالى بها ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾.

……………………………..

الهوامش:

  1. صحيح مسلم، (746).
  2. مدارج السالكين، (3/ 73)، ط. دار طيبة.
  3. رواه الترمذي في المناقب، باب: ما جاء في صفة النبي، وقال: حسن غريب، وضعفه الألباني في «ضعيف الترمذي» (748).
  4. مدارج السالكين، (3/ 74-79) باختصار، ط. دار طيبة.
  5. الجواب الكافي، (ص 137، 138) ت: حسين عبد الحميد.
  6. الجواب الكافي، (ص 220) ت: حسين عبد الحميد.
  7. «صفة الصفوة» (1/ 549).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة