إن في نسيان الآخرة والركون إلى الدنيا والتكاثر فيها لأخطار جسيمة في الدنيا والآخرة، يجب علينا أن نحذرها و نحذر منها، ونسعى للتخلص مما حل بنا منها.

ذكر بعض الأضرار والآفات الناجمة عن التكاثر في هذه الدنيا

 أولا: التفريط في أداء الواجبات، والجرأة على المحرمات

التعرض لسخط الله عز وجل وعقابه بالتفريط في أداء الواجبات والطاعات، والجرأة على المعاصي والمحرمات.

لا يستوي من كانت الآخرة همه ولم يركن إلى الدنيا، مع من كانت الدنيا همه قد انشغل بالتكاثر فيها عن آخرته. فبينما نجد الأول حريصا على فعل الطاعات من واجبات ومستحبات، منتهيا عن المعاصي والمحرمات، خائفا من يوم الحساب، فإنا نجد الآخر المنشغل بدنياه المكاثر بها، قد فرط في الكثير من الواجبات، و تهاون بالمحرمات، وقل واعظ الله والدار الآخرة في قلبه، وذلك لضعف هم الآخرة الذي يحول بينه وبين ترکه للطاعات وفعله للمحرمات، ومال هذا إلى سخط الله وعذابه، إن لم يرحمه الله .

يتحدث سید قطب رحمه الله تعالى عن جاذبية المعصية لمن نسي الآخرة، واغتر بالحياة الدنيا، وذلك عند قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185]، فيقول: (الكل يموت (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) كل نفس تذوق هذه الجرعة، وتفارق هذه الحياة، لا فرق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة… إنما الفارق في شيء آخر، والفارق القيمة التي يكون فيها الافتراق، وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان، القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد. والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب. (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران: 185].

ولفظ (زُحْزِحَ) بذاته يصور معناه بجرسه، ويرسم هیئته، ويلقي ظله! وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها، ويدخل في مجالها ! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلا قليلا، ليخلصه من جاذبيتها المنهومة! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها، ويستنقذ من جاذبيتها، ويدخل الجنة فقد فاز. صورة قوية، بل مشهد حي، فيه حركة وشد وجذب ! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته، فللنار جاذبية! أليست للمعصية جاذبية؟ أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية؟ بلی! وهذه هي زحزحتها عن النار؟ أليس الإنسان – حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة – يظل أبدا مقصرا في العمل.. إلا أن يدركه فضل الله؟ وهذه هي الزحزحة عن النار؛ حين يدرك الناس فضل الله، فيزحزحه عن النار! (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].

إنها متاع، ولكنه ليس متاع الحقيقة، ولا متاع الصحو واليقظة .. إنها متاع الغرور، المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا، أو المتاع الذي ينشئ الغرور والخداع ! فأما المتاع الحق، المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله.. فهو ذاك.. هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار)1(1) في ظلال القرآن 2/22..

وقال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 9]، وقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 36 – 37].

محرمات يكثر فعلها بسبب الركون إلى الدنيا والتكاثر فيها

أ- ضعف الإخلاص، والوقوع فيما يضعفه أو يزيله، من الرياء وحب الرئاسة والشهرة وكثرة الأتباع، وما ينشأ عن ذلك من العجب والكبر، والغرور بالدنيا وزينتها، والتعالي على الناس بسببها.

ب- عدم المبالاة بالمصدر الذي يحصل منه على الدنيا من حلال أم حرام، فالمهم أن يكثر ماله، وأن يكون أكثر من غيره مالا أو جاها، ولو كان ذلك من ربا أو غصب أو غش أو رشوة وغيرها، قال الله تعالى: (أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 4-6].

ج- ظلم العباد والتعدي على حقوقهم أو منعهم إياها، وهذا إنما ينشأ من الانشغال بالدنيا ونسيان الآخرة، وما فيها من الحساب، والفصل بين الخلائق، وإنصاف المظلوم من ظالمه. إذ لو كان هذا على البال، لما كان الظلم من العباد.

د- التفريط في أداء الصلاة في وقتها ومع جماعة المسلمين، ذلك للانشغال بالدنيا والتكاثر فيها، فليس أثقل على أهل الدنيا من أداء الصلاة في جماعة، والمحافظة على أوقاتها وأركانها وخشوعها، فضلا عن نوافلها.

ه- التفريط في أداء الزكاة والبخل بها، فضلا عن الصدقات والنفقات المستحبة، وذلك لتمكن حب الدنيا من القلب ونسيان الآخرة.

حب الدنيا رأس الخطايا ومفسدا للدين

يتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن أوجه کون حب الدنيا رأس الخطايا ومفسدا للدين، فيقول:

(إن محبتها تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه في الآخرة، لاشتغاله عنه بمحبوبه. والناس ها هنا مراتب:

  • فمنهم: من يشغله محبوبه عن الإيمان وشرائعه.
  • ومنهم: من يشغله عن الواجبات التي تجب عليه لله؛ ولخلقه؛ فلا يقوم بها ظاهرا ولا باطنا.
  • ومنهم: من يشغله حبها عن كثير من الواجبات.
  • ومنهم: من يشغله عن واجب يعارض تحصيلها وإن قام بغيره.
  • ومنهم: من يشغله عن القيام بالواجب في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي، فيفرط في وقته وفي حقوقه.
  • ومنهم: من يشغله عن عبودية قلبه في الواجب، وتفريغه لله عند أدائه، فيؤديه ظاهرا لا باطنا، وأين هذا من عشاق الدنيا ومحبيها؟ هذا من أندرهم.

وأقل درجات حبها أن يشغل عن سعادة العبد، وهو تفريغ القلب لحب الله ولسانه لذكره، وجمع قلبه على لسانه، وجمع لسانه وقلبه على ربه)2(2) عدة الصابرين ص 354..

 ثانيا: انتشار الحسد والأحقاد والفرقة والبغضاء بين الناس

قال صلى الله عليه وسلم: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشی أن تبسط عليكم الدنيا، کما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها کما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم»3 (3) صحيح البخاري (4015)..

هذا ما كان يخافه نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام الحريص على أمته، المشفق عليهم، حيث لم يخش على أمته الفقر، كما يخشى ذلك الوالد على ولده، وإنما كانت خشيته على أمته من الغنى وكثرة الدنيا وانبساطها على الناس، وما يؤول إليه ذلك من التحاسد والتباغض والفرقة، بل والاقتتال في بعض الأحيان، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فكم رأينا من القطيعة والهجران والشحناء بين الأقارب والإخوان والأصدقاء بسبب التكاثر في هذه الدنيا الزائلة، وكم تقاتل أهل المناصب والرياسات فيما بينهم، وهم أشقاء وأعمام من أجل هذه الدنيا ومناصبها وجاهها. هذا هو عاقبة التكاثر والتنافس في الدنيا، ألا وهو الهلاك في الدنيا والآخرة، عياذا بالله تعالى.

قال الأصمعي: (مر قیس بن زهير ببلاد غطفان، فرأى ثروة وجماعة وعددا، فكره ذلك، فقال له الربيع بن زیاد: إنه يسوؤك ما يسر الناس، فقال له: يا أخي إنك لا تدري أنه مع الثروة والنعمة التحاسد والتخاذل، وأن مع القلة التحاشد والتناصر)4(4) المجالسة وجواهر العلم 1/471 ..

ويقول ابن الجوزي: (تأملت التحاسد بين العلماء ، فرأيت منشأه من حب الدنيا، فإن علماء الآخرة يتوادون ولا يتحاسدون، كما قال الله عز وجل: (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا) [الحشر:9])5 (5) صيد الخاطر 1/2 ..

وقد يقع التحاسد بسبب الإعجاب بالفضائل في الأنساب والعلم والعبادات، والغالب أن الحسد لا يقع إلا بين المشتركين في فضيلة من الفضائل، أو في شيء من الأسباب الدنيوية، فلا يحسد الفقيه النحوي، ولا التاجر الجمال، ولا الصانع البقال6 (6) انظر: مقاصد الرعاية لحقوق الله تعالى ص 153..

ولو تأملنا الفرقة الحاصلة اليوم بين بعض الدعاة وفي صفوف بعض المجاهدين، لرأينا أن من بعض هذه الأسباب: التنافس على الدنيا ومناصبها وزينتها الفانية، نسأل الله العافية.

 ثالثا: اختلال الموازين واضطراب التصورات وسفول الأخلاق

لا يستوي من يؤمن بالله واليوم الآخر ويوقن بيوم الحساب والجزاء، مع من لا يؤمن بالآخرة أو يؤمن بها، لكنه في لهو وغفلة عنها بتكاثره في هذه الدنيا الفانية، إنهما لا يستويان أبدا في الدنيا ولا في الآخرة، قال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية: 21]، ويقول سبحانه: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص: 28]، ويقول سبحانه عن الفريقين في الآخرة (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر: 20]، إن الفريقين لا يستويان في موازينهما، التي توزن بها الأشياء والمواقف والأحداث، ولا يستويان في أخلاقهما، فبينما تسمو أخلاق الأول، وتنضبط موازينه بموازين الشرع والإيمان باليوم الآخر، فإنا نجدها عند الراكنين إلى الدنيا أخلاقا سافلة و موازین مختلة مضطربة. يقول الله في وصف هذا الفريق: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 7].

يقول سید قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية:

(ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها مع آخر يعيش هذه الدنيا وحدها، ولا ينتظر ما وراءها، لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة، ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون، فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال..

هذا يرى ظاهرا من الحياة، وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن، ونوامیس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والموت والحياة، والماضي والحاضر والمستقبل، وعالم الناس، والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء)7(7) في ظلال القرآن الآية (7)، من سورة الروم..

إن الراكنين إلى الدنيا المتكاثرين فيها لا يرون إلا هذه الحياة الدنيا، فهم يتنافسون فيها على هذا الحجر الضيق، فإن وزنوا أمورهم فبميزان الدنيا يزنون، وإن اتخذوا مواقفهم وبنوا أحكامهم، فهم من هذه الدنيا ينطلقون، وإن كان عندهم شيء من الأخلاق فبقدر ما تحقق لهم مصالحهم وشهواتهم فحسب، وإن وزنوا الناس فبمیزان الدنيا والمال والجاه، لا بميزان الدين والتقوى، وإن وزنوا الفرح والحزن، فمن أجل الدنيا يفرحون إذا أقبلت، ويحزنون إذا أدبرت، أما مواسم الآخرة فلا يفرحهم إذا أقبلت، ولا يحزنهم فواتها. وإن وزنوا الفقر والغنى فبميزان الدنيا يزنون، وليس في حسابهم قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس»8(8) البخاري (6446) مسلم (1051)..

إيمان السحرة وتغيير الموازيين

وهكذا في بقية الموازين9 (9) للتوسع في هذه الموازين يرجع إلى كتاب (الميزان) للمؤلف.، وأختم هذه الفقرة بالقصة العجيبة التي قصها الله عز وجل لنا في كتابه، وكررها سبحانه في القرآن، لما فيها من العظة والعبرة، يبين لنا سبحانه فيها كيف تغيرت موازين وأخلاق سحرة فرعون من موازين أرضية دنيوية، همها المنصب والجاه قبل إيمانهم بالله عز وجل واليوم الآخر، إلى موازین عالية وهمم وأخلاق سامقة بعد إيمانهم بالله واليوم الآخر. قال الله عن حالهم واهتماماتهم حال كفرهم قبل مباراتهم مع موسی علیه السلام: (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [الشعراء: 41-42].

فكان همهم قبل الإيمان المنصب والأجر والقرب من فرعون. أما بعد وضوح الحق وإيمانهم بالله واليوم الآخر، فقد تغيرت الموازين، وكان همهم مغفرة الله لهم، والثواب الجزيل في جنات النعيم، وكان من ذلك تحديهم لفرعون وتهدیداته وثباتهم على الحق. قال الله تعالى عن موقفهم بعد أن هددهم فرعون بالقتل والصلب بعد سجودهم لله عز وجل: (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *  إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ) [طه: 72 – 76].

رابعا: طول الأمل وضياع الأعمار

إن من أخطر الأبواب التي يدخل منها الشيطان على العبد طول الأمل والأماني الخادعة، التي تجعل صاحبها في غفلة شديدة عن الآخرة، وذلك باغتراره بزينة الحياة الدنيا والتكاثر فيها، وتضييع ساعات العمر النفيسة في اللهث وراءها، حتى يحل الأجل الذي يقطع هذه الآمال، وتذهب النفس حسرات على ما فرطت في عمرها، وأضاعت من أوقاتها.

يقول ابن قدامة عن سبب طول الأمل:

(واعلم أن السبب في طول الأمل شيئان: أحدهما: حب الدنيا، والثاني: الجهل. أما حب الدنيا؛ فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت، الذي هو سبب مفارقتها، وكل من کره شيئا دفعه عن نفسه، والإنسان مشغول بالأماني الباطلة، فيمني نفسه أبدا بها يوافق مراده من البقاء في الدنيا، وما يحتاج إليه من مال وأهل ومسكن وأصدقاء وسائر أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفا على هذا الفكر، فیلهو عن ذكر الموت، ولا يقدر قربه.

فإن خطر له الموت في بعض الأحوال والحاجة إلى الاستعداد له، سوف بذلك ووعد نفسه، وقال: الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب، وإذا كبر قال: إلى أن يصير شيخا، وإن صار شيخا، قال: إلى أن يفرغ من بناء هذه الدار، وعمارة هذه الضيعة، أو يرجع من هذه السفرة، فلا يزال يسوف ويؤخر، ولا يحرص في إتمام شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال، وهكذا على التدريج، يؤخر يوما بعد يوم، ويشتغل بشغل بعد شغل، إلى أن تخطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسرته.

السبب الثاني: الجهل، وهو أن الإنسان يعول على شبابه، ويستبعد قرب الموت مع الشباب، أو ليس يتفكر المسكين في أن مشایخ بلده لو عدوا کانوا أقل من العشر؟ وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر، وإلى أن يموت شيخ قد يموت ألف صبي وشاب، وقد يغتر بصحته، ولا يدري أن الموت يأتي فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيدا، ولو تفکر وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص من صيف وشتاء وربيع وخريف، وليل ونهار، ولا هو مقيد بسن مخصوص من شاب وشيخ أو كهل أو غيره، لعظم ذلك عنده واستعد للموت)10(10) مختصر منهاج القاصدين ص 367، 368..

خامسا: الطمع والجشع وعدم القناعة والتكبر على الناس

يزداد طمع الناس وجشعهم وتضعف قناعتهم ورضاهم بما رزقهم الله عز وجل، حينما يتكاثرون في هذه الدنيا الفانية، حيث لا يرضيهم مسکن يسكنهم، ولا طعام يشبعهم، ولا لباس يواريهم، ولا مركب يحملهم، لأن أبصارهم وبصائرهم ترنو إلى من فوقهم وتتكاثر معهم، ولا تبصر من تحتهم، فيزدرون نعمة الله عليهم، ولا يقنعون بما آتاهم الله.

ومن خطورة الطمع وعدم القناعة أن صاحبها يسعى جاهدا لتكثير ماله، وتوسيع جاهه، ولو بالطرق المحرمة، كأن يداهن المسؤول من أجل منصبه، وأن يتنازل الداعية عن دعوته، أو مبدئه طمعا في مال أو جاه، أو أن يحسد الأخ أخاه على نعمة الله عليه، أو أن يذل المرء نفسه لغير الله تعالى رغبة في دنيا فانية.

قال صلى الله عليه وسلم: «شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس»11 (11) الحلية لأبي نعيم 3/253   والحاكم في مستدرکه وصححه 4/324 ..

عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طوبی لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا وقنع»12(12) أحمد 6، 19 والترمذي (2249) وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني.، وعن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه»13(13) مسلم (1054).. وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟» قلت: نعم يا رسول الله، قال: «فتری قلة المال هو الفقر؟» قلت: نعم! یا رسول الله، قال: «إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب» الحديث14(14) ابن حبان في صحيحه (685)..

وتلك حقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولده ولو عمر ألف سنة؛ يخاطر بدينه وصحته، ويضحي بوقته يريد المزيد! وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس؛ وهو لا يجد قوت غده ! فالعلة في القلوب: رضى وجزعا، واتساعا وضيقا، وليس في الفقر والغنى15(15) انظر مقال (القناعة مفهومها ومنافعها) إبراهيم الحقيل، مجلة البيان عدد (141)..

والقناعة لا تعني أن لا يكسب المرء في هذه الدنيا، أو لا يتاجر فيها، ويضرب في الأرض بطلب رزقه، بل هذا مطلوب و مرغوب فيه لإعفاف النفس ومن تعول أو صرفها في وجوه الخير، ولكن القناعة تأبی أن تلج الدنيا في القلب، وتملك على الإنسان نفسه حتى يمنع حق الله فيها أو أن يتكاسل عن طاعة الله ويفرط في الفرائض ويرتكب المحرمات من ربا ورشوة وغش، وکسب خبیث حفاظا على هذه الدنيا أو تنمية لها.

کما تأبى القناعة على جامع المال من أن يحسد أخاه المسلم على نعمة الله عز وجل، أو أن يتسخط بنصيبه في الدنيا، أو أن ينافق من أجل منصب أو جاه أو مال.

الأسباب التي تمنع القناعة بالكفاية، وتدعو إلى طلب الزيادة

وإن مما يكرس الطمع والجشع ويذهب القناعة ما ذكره الماوردي من الأسباب التي تمنع القناعة بالكفاية، وتدعو إلى طلب الزيادة، وهي على سبيل الاختصار:

1- منازعة الشهوات التي لا تنال إلا بزيادة المال وكثرة المادة، فإذا نازعته الشهوة طلب من المال ما يوصله إليها، وليس للشهوات حد متناه، فيصير ذلك ذريعة إلى أن ما يطلبه من الزيادة غير متناه، ومن لم يتناه طلبه استدام كده وتعبه، فلم يف التذاذه بنيل شهواته بما يعانيه من استدامة كده وأتعابه، مع ما قد لزمه من ذم الانقياد لمغالبة الشهوات، والتعرض لاكتساب التبعات، حتى يصير كالبهيمة التي قد انصرف طلبها إلى ما تدعو إليه شهواتها فلا تنزجر عنه بعقل، ولا تنكف عنه بقناعة.

2- أن يطلب الزيادة ويقتني الأموال ليدخرها لولده، ويخلفها لورثته، مع شدة ضنه على نفسه، وكفه عن صرف ذلك في حقه، إشفاقا عليهم من كدح الطلب وسوء المنقلب، وهذا شقي بجمعها مأخوذ بوزرها، قد استحق اللوم من وجوه لا تخفى على ذي لب، منها:

أ- سوء ظنه بخالقه: أنه لا يرزقهم إلا من جهته.

ب- الثقة ببقاء ذلك على ولده مع نوائب الزمان ومصائبه.

ج- ما حرم من منافع ماله وسلب من وفور حاله، وقد قيل: إنما مالك لك أو للوارث أو للجائحة؛ فلا تكن أشقى الثلاثة .

د- ما لحقه من شقاء جمعه، وناله من عناء کده، حتى صار ساعيا محروما، وجاهدا مذموما.

ه-  ما يؤاخذ به من وزره وآثامه، ويحاسب عليه من تبعاته وإجرامه، وقد حكي أن هشام بن عبدالملك لما ثقل بکی ولده عليه، فقال لهم : جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما کسب، وتركتم عليه ما اكتسب، ما أسوأ حال هشام إن لم يغفر الله له! وقال رجل للحسن: إني أخاف الموت وأكرهه، فقال: إنك خلفت مالك، ولو قدمته لسرك اللحاق به.

3- أن يجمع المال ويطلب المكاثرة، استحلاء لجمعه، وشغفا باحتجانه؛ فهذا أسوأ الناس حالا فيه، وأشدهم حرمانا  له، قد توجهت إليه سائر الملاوم، وفي مثله قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة: 34].16 (16) أدب الدنيا والدين (باختصار) 317-324..

الهوامش

(1) في ظلال القرآن 2/22.

(2) عدة الصابرين ص 354.

(3) صحيح البخاري (4015).

(4) المجالسة وجواهر العلم 1/471 .

(5) صيد الخاطر 1/2 .

(6) انظر: مقاصد الرعاية لحقوق الله تعالى ص 153.

(7) في ظلال القرآن الآية (7)، من سورة الروم.

(8) البخاري (6446) مسلم (1051).

(9) للتوسع في هذه الموازين يرجع إلى كتاب (الميزان) للمؤلف.

(10) مختصر منهاج القاصدين ص 367، 368.

(11) الحلية لأبي نعيم 3/253   والحاكم في مستدرکه وصححه 4/324 .

(12) أحمد 6، 19 والترمذي (2249) وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني.

(13) مسلم (1054).

(14) ابن حبان في صحيحه (685).

(15) انظر مقال (القناعة مفهومها ومنافعها) إبراهيم الحقيل، مجلة البيان عدد (141).

(16) أدب الدنيا والدين (باختصار) 317-324.

اقرأ أيضا

أمثلة نبوية للتعريف بحقيقة الدنيا وفنائها

سورة التكاثر وما ورد في معناها من آيات

يحسب أن ماله أخلده

التعليقات غير متاحة