العلم يُطلب به الآخرة، فإذا صُرف وجهه الى الدنيا ظهرت آثار التكاثر المذموم. والله تعالى العاصم

مقدمة

في المقال الأول تم بيان بعض أنواع التكاثر المذموم بالمال، ثم الأولاد والأنساب، الجاه والرئاسات، ثم الأتباع والشيوخ.. وفي هذا المقال يوضح الكاتب خطر المكاثرة في مجال العلم، وهو ما يغفل عنه الكثير..

التكاثر بالعلم والكتب

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

فالتكاثر فيي كل شيء من مال أو جاه أو رياسة أو نسوة أو حديث أو علم؛ ولا سيما إذا لم يحتج إليه. والتكاثر في الكتب والتصانيف وكثرة المسائل والتفريعات وتوليدها. (1الفوائد ص30)

والمكاثرة بالعلم والكتب لها صور كثيرة من أهمها:

التكاثر باقتناء الكتب وتأليفها

التكاثر باقتناء الكتب بطبعاتها المختلفة والمكاثَرة بتأليفها وتكبيرها

لا شك أن اقتناء كتب العلم لمن يستفيد منها من العلماء وطلاب العلم أمر مطلوب، وفيها من الفائدة والنفع ما لا يخفى.

ولكن إذا تحول هذا الاقتناء إلى مكاثَرة ومُفاخَرة ومباهاة مع قلة الاستفادة منها فهذا هو الأمر المذموم، وهذا هو الذي يدخل تحت قوله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾.

ومن ذلك التكاثر باقتناء المخطوطات بأنواعها المختلفة من غير استفادة منها في تحقيق أو دراسة.

ومن ذلك كثرة التأليف في أمور لا فائدة فيها: مكررة، ونفخ الكتب بكثرة الهوامش والمقدمات والتراجم والمباهاة بكثرة المراجع في خاتمة الكتاب.

ومن ذلك التكاثر بزخرفة الكتب، والمكاثرة بتقريظ بعض المشايخ أو طلاب العلم لها وثنائهم عليها، وملء جلدة الكتاب بها، حتى لا تكاد تجد فيها فراغا، وكأنها من صفحات الكتاب الداخلية.

تنبيه أهل العلم

يقول الشيخ عبدالكريم الخضير حفظه الله تعالى في معرض جواب له عن سؤال: كيف يبني طالب العلم مكتبته؟

«لا يخلو عالم أو طالب علم من مكتبة؛ لأنه لا يمكن أن يستغنى عن الكتب؛ حتى زاد هذا الاهتمام ووصل إلى حد التكاثر والتفاخر.

في نفح الطيب للمقرِي في وصف قرطبة قال:

“وهي أكثر بلاد الأندلس كتبًا، وأشد الناس اعتناء بخزائن الكتب” صار ذلك عندهم من آلات التعين والرئاسة، حتى أن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل ويهتم في أن تكون في بيته خزانة كتب، وقد يكون لا يقرأ ولا يكتب، وينتخب فيها، ليس إلا لأن يقال: فلان عنده خزانة كتب، الكتاب الفلاني لا يوجد إلا عند فلان، لا يوجد عند غيره، والكتاب التي بخط فلان قد حصله وظفر به». (2نفح الطيب 1/ 462)

فصارت المسألة تفاخرًا وتكاثرًا…… إذا وصل جمع الكتب والعناية بها إلى هذا الحد صارت مما يلهي ويشغل عن تحصيل العلم والعمل الصالح، فيدخل دخولًا أوليًّا في قوله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ مجرد تكاثر، هذا وُجد في المتقدمين والمتأخرين….

على الإنسان أن يكون متوسطًا في أموره كلها، ما يحتاجه من الكتب يقتنيه، ما ينفعه عند المراجعة يقتنيه، أما أن يجمع كل كتاب يسمع عنه، يحتاجه أو لا يحتاجه، ليقال: إن عنده من كل كتاب نسخة، فهذه مصيبة!!

إن الفائدة من جمع الكتب تحصيل العلم الشرعي، والعلم الشرعي من أمور الآخرة المحضة التي لا يجوز التشريك فيها. فإذا دخلت النوايا مثل هذه المقاصد، ليقال: إن عند فلان مكتبة أو عنده أكبر مكتبة خاصة.

فهذه حقيقة مُرة، وقدح ظاهر في الإخلاص، وإن وُجدت عند بعض المتعلمين. نسأل الله السلامة والعافية». (3انظر أرشيف ملتقى أهل الحديث 39/ 359-361 في المكتبة الشاملة)

في المباهاة بطلب العلم ومعرفة الغرائب

 التكاثر والمباهاة في طلب العلم، ولا سيما الفقه منه والحديث، والمباهاة بمعرفة دقائقها وغرائبها

يقول الغزالي رحمه الله تعالى عن أصناف الناس في طلب العلم:

واعلم أن الناس في طلب العلم ثلاثة أحوال:

رجلٌ طلب العلم ليتخذه زاده إلى المعاد، ولم يقصد به إلا وجه الله والدار الآخرة..
فهذا من الفائزين.

ورجل طلبه ليستعين به على حياته العاجلة، وينال به العز والجاه والمال، وهو عالمٌ بذلك، مستشعرٌ في قلب ركاكة حاله وخِسَّةَ مقصِدِه.
فهذا من المخاطرين، فإن عاجَلَه أجلُه قبل التوبة خيفَ عليه من سوء الخاتمة، وبقي أمره في خطر المشيئة؛ وإن وُفِّقَ للتوبة قبل حلول الأجل، وأضاف إلى العلم العمل، وتدارك ما فرط منه من الخَلل ـ الْتحق بالفائزين، فإن التائبَ من الذنب كمن لا ذنب له.

ورجل ثالث استحوذ عليه الشيطان؛ فاتخذ علمه ذريعة إلى التكاثر بالمال، والتفاخر بالجاه، والتعزز بكثرة الأتباع، يدخل بعلمه كلَّ مُدْخَل رجاء أن يقضى من الدنيا وطره، وهو مع ذلك يضمر في نفسه أنه عند الله بمكانة، لاتسامِهِ بسِمَةِ العلماءِ، وترَسُّمه برسومهم في الزِّى والمنطِق، مع تكالبه على الدنيا ظاهراً وباطناً..

فهذا من الهالكين، ومن الحمقى المغرورين؛ إذ الرجاء منقطع عن توبته لظنِّه أنه من المحسنين، وهو غافل عن قوله تعالى ﴿يَأيُها الَّذين آمنوا لِمَ تَقولونَ مالا تَفعَلون﴾.

وهو ممن قال فيهم رسول الله: «أنا من غير الدجال أخوَف عليكم من الدجال» فقيل: وما هو يارسول الله؟، فقال: «علماء السوء». (4لم أقف عليه في كتب الحديث المعروفة، وإن كان له شاهد في مصنف ابن أبي شيبة (38641) عن علي رضي الله عنه قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسا وهو نائم، فذكرنا الدجال، فاستقظ محمرا وجهه، فقال “غيرَ الدجال أخاف عليكم عندي من الدجال:ائمه مضلون”)

وهذا لأن الدجال غايته الإضلال، ومثل هذا العالِم وإن صَرَفَ الناس عن الدنيا بلسانه ومقاله فهو دافع لهم إليها بأعماله وأحواله، ولسان الحال أفصَحُ من لسان المقال، وطباع الناس إلى المساعى في الأعمال أميَلُ منها إلى المتابعة في الأقوال..

فما أفسده هذا المغرور بأعماله أكثر مما أصلحه بأقواله، إذ لا يستجرىء الجاهل على الرغبة في الدنيا إلا باستجراء العلماء، فقد صار علمه سببا لجرأة عباد الله على معاصيه، ونفسُه الجاهلة مذلة مع ذلك تمنيه وترجيه، وتدعوه إلى أن يمن على الله بعلمه، وتخيل إليه نفسه أنه خير من كثير من عباد الله.

فكن أيها الطالب من الفريق الأول، واحذر أن تكون من الفريق الثاني، فكم من مُسَوِّفٍ عاجَلَهُ الأجل قبل التوبة فخسر، وإيّاك ثم إيّاك أن تكون من الفريق الثالث، فتهلك هلاكا لا يُرجى معه فلاحك، ولا يُنتظر صلاحك. (5بداية الهدايه: المقدمه ص1، 2)

المكاثرة بتفريع المسائل، وشواذها

ومن صور التكاثر في طلب العلم والمباهاة فيه التكاثر بالمسائل وتفريعها وتوليدها وافتراضها والانشغال بالأقوال الشاذة عن المهم من العلوم في التفسير والعقيدة والفقه والحديث.

التكاثر بكثرة التخريجات لما هو في الصحيح

ومن التكاثر في العلم ولا سيما في علم الحديث التكلف في كثره التخريجات، وذكر الطرق لحديث صحيح ، جاء مخرجاً في الصحيحين أو أحدهما.

ومن لطيف ما ورد في هذا المعني ما اخرجه ابن عبد البر رحمه الله في جامعه عن حمزه الكناني رحمه الله قال:

خرّجتُ حديثا واحداً عن النبي صلي الله عليه وسلم من مئتي طريق أو من نحو مئتي طريق ـ شك الراوي ـ قال: فرأيت ليله من الليالي يحيي بن معين في المنام.

فقلت له: يا أبا زكريا! خرجت حديثا واحدا عن النبي صلي الله عليه وسلم من مئتي طريق، قال: فسكت عني ساعة ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾. (6جامع بيان العلم وفضله (1023), 2/ 259)

وقد ساق الشاطبي رحمه الله هذه الحكاية في الموافقات وعقب عليها بقوله:

وهو صحيح في الاعتبار، لأن تخريجه من طرق يسيرة كاف في المقصود، فصار الزائد على ذلك فضلا. (7الموافقات 1/ 114)

وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله تعالى:

أن قوما أكثروا سماع الحديث، ولم يكن مقصدهم صحيحا، ولا أرادوا معرفة الصحيح من غيره بجمع الطرق..

وإنما مرادهم العوالي والغرائب، فطافوا البلدان، ليقول أحدهم: لقيت فلانا، ولي من الأسانيد ما ليس لغيري، وعندي أحاديث ليست عند غيري.

وهذا كله من الإخلاص بمعزل، وإنما مقصدهم الرئاسة، والمباهاة، ولذلك يتبعون شاذ الحديث وغريبه. (8تلبيس إبليس ص104- 105)

وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ينكر على الذي يطلب الأسانيد الغريبة التي أخطأ فيها الرواة ويستكثر من ذلك، وقال:

يجيئون بثلاثين إسنادا أونحو ذلك، ما أقل العلم عندهم

يعني يضيعون الوقت في سماع الأخطاء التي أخطأ فيها الرواة. (9انظر أرشيف ملتقى أهل الحديث 3/ 196)

وقيل ليحيى بن معين رحمه الله تعالى: لماذا لا تسمع بعض الأحاديث الغرائب؟ قال: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ يعني أن تستكثروا من الأشياء التي لا منفعة فيها، ولا تأثير فيها، ولا رجاء من ورائها. (10انظر أرشيف ملتقى أهل الحديث 3/ 196)

وقال ابن قتيبة رحمه الله تعالى في غريب الحديث:

ونعوذ بالله من حيرة الجهل وفتنة العلم وإفراط التعمق، وأن يشغلنا التكاثر في العلم عن التفقه فيه، ويقطعنا ما وضعه الله عنا عما كلفنا فيه. (11غريب الحديث 1/ 147)

وصدق ابن قتيبة رحمه الله تعالى؛ فكم رأينا من ينشغل بمُلَح العلم وفروعه، التي لم يوجب الله علينا تعلمها عما كلفنا به من العلوم العينية، التي لا يسع أحد جهلها: كأحكام الوضوء والطهارة والصلاة والصيام وغير ذلك من فروض العين.

التكاثر بإجازات القراءة والرواية

ومن صور التكاثر بالعلم ما يحرص عليه بعض المنتسبين إلى علم الحديث والقرآن من الحصول على الإجازات في رواية الحديث أو بعض القراءات والتكاثر والتفاخر بها. والله أعلم بما في القلوب.

التنطع في الترتيل وتمطيط الأصوات

ومن صور التكاثر بالعلم ما يقع فيه بعض القراء وأئمة المساجد من التكلف والتنطع في ترتيل القرآن في الصلوات الجهرية..

ولا سيما في صلاة التراويح والقيام في رمضان، والتكاثر في تنويع الأصوات وتمطيطها ورفعها.

التكاثر في الدعاء وتكلفه

وكذلك التكاثر في دعاء القنوط أو عند ختم القرآن برفع الأصوات وتنوع الدعاء، والإتيان بدعوات مخترعة، لا يخلو بعضُها من مخالفات، وترْك الجوامع من الأدعية النبوية الصحيحة، وتكلف البكاء ورفع الصوت في ذلك. وإطالة الدعاء.

ولا يخفى ما في ذلك من الاعتداء في الدعاء والمكاثرة به وقد قال الله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (الأعراف:55).

وقد يكون في ذلك إرضاء المصلين وجذبهم للصلاة خلفهم، وكل هذا لا يغني عند الله عز وجل؛ حيث لا يبقى إلا العمل الصالح الذي يكون صاحبه مخلصا لله عز وجل متبعا للرسول صلى الله عليه وسلم.

ومثل هذه المكاثرة في القراءات والأدعية قد ينقصها الإخلاص والمتابعة.. والله أعلم بمن اتقى.

المكاثرة والمباهاة بأخذ المال على الدين..!

ومن صور التكاثر بالعلم المكاثرة بأخذ الأموال على تسجيل محاضرة أو درس أو قراءة قرآن في صلاة التراويح والقيام وادعاء حفظ حقوقها لمحل التسجيل أو للقارىء والمحاضر.

ولا يخفى ما في هذا الصنيع من الجشع وطلب الدنيا بالدين، وقد مر بنا قوله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف، لدينه». (12رواه الترمذي وابن حبان والدارمي[/mfn]) ..

كما مر بنا قوله صلى الله عليه وسلم أن: «لكل أمة فتنة وفتنة أمتي في المال». (12أخرجه الترمذي (2/ 54) والبخاري في “التاريخ الكبير” (4/1/ 222) و ابن حبان (2470) والحاكم (4/ 318) وأحمد (4/ 160))

خاتمة

تلك القلوب القابعة في الصدور تحتاج دوما الى التعهد والمراجعة وإصلاح النيات والمقاصد، وتجديد التوبة والعزم، وتفقُّد حالها في طريقها الى ربها؛ حتى لا تبتعد عن مقصود الطلب وجادّة الطريق.

………………………………….

هوامش:

  1. الفوائد ص30.
  2. نفح الطيب 1/ 462.
  3. انظر أرشيف ملتقى أهل الحديث 39/ 359-361 في المكتبة الشاملة.
  4. لم أقف عليه في كتب الحديث المعروفة، وإن كان له شاهد في مصنف ابن أبي شيبة (38641) عن علي رضي الله عنه قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسا وهو نائم، فذكرنا الدجال، فاستقظ محمرا وجهه، فقال “غيرَ الدجال أخاف عليكم عندي من الدجال:ائمه مضلون”.
  5. بداية الهدايه: المقدمه ص1، 2 .
  6. جامع بيان العلم وفضله (1023), 2/ 259.
  7. الموافقات 1/ 114.
  8. تلبيس إبليس ص104- 105.
  9. انظر أرشيف ملتقى أهل الحديث 3/ 196.
  10. انظر أرشيف ملتقى أهل الحديث 3/ 196.
  11. غريب الحديث 1/ 147.
  12. رواه الترمذي وابن حبان والدارمي.
  13. أخرجه الترمذي (2/ 54) والبخاري في “التاريخ الكبير” (4/1/ 222) و ابن حبان (2470) والحاكم (4/ 318) وأحمد (4/ 160).

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

لقراءة بقية السلسلة:

  1. المقال الأول
  2. المقال الثالث
  3. المقال الرابع

اقرأ أيضا:

  1. فوائد مستنبطة من سورة التكاثر

التعليقات غير متاحة