لما كان الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق كل ذلك لا يقوم ولا يستقيم إلا بالصبر ؛ جاء التأكيد على صفة التواصي بالصبر وأنها من صفات الناجين من الخسران ، ولم يكن من صفاتهم أنهم صابرون فحسب ؛ بل زادوا على ذلك بأن كانوا يتواصون بالصبر ويحض بعضهم بعضا عليه.
بعض المسائل المتعلقة بالصبر
ولأهمية الصبر والتواصي به ، وارتباطه الوثيق بالإيمان والعمل الصالح وحاجة التواصي بالحق إليه ، ولكونه أصلا عظيما من أصول النجاة لا تتحقق إلا به ؛ رأيت التوسع في بعض المسائل المتعلقة به والتي لا بد منها في الحديث عن الصبر والتواصي به ، ومن هذه المسائل ما ذكرناه في المقال السابق [التواصي بالصبر من صفات الناجين من الخسران] ، وما نكمله بتوفيق الله عز وجل في هذا المقال.
المسألة السادسة: شروط الصبر
الصبر المرضي لله عز وجل، لا يتحقق إلا بثلاثة شروط ؛ وذلك ليحصل الانتفاع به بالثبات في الدنيا والثواب في الآخرة .
وهذه الشروط هي:
الأول : أن يكون ابتغاء وجه الله عز وجل واحتساب الأجر منه سبحانه وليس لأجل عرض من أعراض الدنيا ؛ قال الله تعالى: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) [المدثر :7] .
الثاني : أن يكون على أمر يحبه الله ويرضاه وهو ما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثالث : الاستعانة بالله وحده على الصبر ؛ لأنه سبحانه هو وحده المصبر والمثبت ، وهذا يقتضي التبرؤ من كل حول و قوة سوى الله عز وجل .
وهذه الأمور الثلاثة هي شروط الصبر النافع الذي يثاب صاحبه وبدونها يضعف ويخذل ؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (وهو – أي الصبر – على ثلاثة أنواع : صبر بالله ، وصبر لله ، وصبر مع الله :
فالأول : أول الاستعانة به ، ورؤيته أنه هو المصبر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه ؛ كما قال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) [النحل: 127] يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر .
والثاني : الصبر لله ، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله ، وإرادة وجهه ، والتقرب إليه، لا لإظهار قوة النفس، والاستحماد إلى الخلق ، وغير ذلك من الأعراض .
الثالث : الصبر مع الله ، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه ، ومع أحكامه الدينية ، صابرا نفسه معه ، سائرا بسيرها ، مقيما بإقامتها، يتوجه معها أين توجهت رکائبها ، وينزل معها أين استقلت مضاربها فهذا معنی کونه صابرا مع الله ، أي قد جعل نفسه وقفا على أوامره ومحابه ، وهو أشد أنواع الصبر وأصعبها وهو صبر الصديقين)1(1) مدارج السالكين 2/157..
وفي كتاب الله عز وجل ما يؤيد هذه الشروط اللازمة للانتفاع بالصبر وذلك في موقف سحرة فرعون عندما هددهم بالقتل حيث قالوا: (قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ۚ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) [الأعراف: 126-125] فذكرهم الانقلاب إلى الله عز وجل فيه الإخلاص واليقين بوعده وابتغاء وجهه سبحانه بصبرهم ، وذكرهم لآيات الله التي رأوها فيها اطمئنانهم إلى أن الحق مع موسى عليه السلام وهو الحق الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه ، ودعاؤهم آخر الآية فيه الاستعانة بالله عز وجل وسؤاله التصبر والثبات والموت على الإسلام وفي ذلك التبرؤ من الحول والقوة .
المسألة السابعة: وسط بين طرفين
الصبر كغيره من الأخلاق يكتنفه خلقان ذمیمان والممدوح منه وسط بينهما والتواصي به يعني التواصي على الاستقامة بين الطرفين المذمومين للصبر :
طرف التفريط في الصبر المؤدي إلى التهور والعجلة في الأمور أو الهلع والجزع والتسخط ، وطرف الإفراط المؤدي إلى القسوة وغلظ الكبد وتحجر الطبع ، وبينهما يقع الصابر المستقيم الذي لم تدفعه الشدائد والابتلاءات إلى الضعف والخور والجزع ، وفي المقابل لم تدفعه بضغوطها وشدتها إلى العجلة والتهور والقسوة المخالفة لقواعد الشريعة ومقاصدها .
وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى :
(وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين وهو وسط بينهما ، وطرفاه خلقان ذميمان ، فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد ، فإذا انحرفت عن خلق « الصبر المحمود » انحرفت إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط ، وإما إلى غلظة کبد ، وقسوة قلب وتحجر طبع)2(2) مدارج السالكين 2/310. ( باختصار ) ..
ويقول أيضا : ( قلت : والنفس فيها قوتان ، قوة الإقدام ، وقوة الإحجام فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه ، وقوة الإحجام إمساكا عما يضره )3(3) عدة الصابرين ص10..
المسألة الثامنة: صبر الكرام
الصبر الذي ينبغي التواصي به هو صبر الكرام لا صبر اللئام ؛ والفرق بينهما : ( أن الكريم يصبر اختيارا لعلمه بحسن عاقبة الصبر ، ولعلمه بأنه إن لم يصبر لم يرد الجزع عليه فائتا ولم ينزع عنه مكروها ، وأن المقدور لا حيلة في دفعه ، وما لم يقدر لا حيلة في تحصيله ؛ وأما اللئيم : فإنه يصبر اضطرارا حيث رأى أن الجزع لم ينفعه فصبر صبر الموثق للضرب ؛ والكريم : يصبر في طاعة الرحمن ؛ واللئيم : يصبر في طاعة الشيطان ؛ فاللئام أصبر الناس في طاعة أهوائهم وشهواتهم ، وأقل الناس صبرا في طاعة ربهم )4(4) عدة الصابرين ص38 (باختصار وتصرف يسير )..
المسألة التاسعة: من الأسباب المعينة على الصبر
من التواصي بالصبر التواصي بالأسباب التي تعين عليه وتقويه في قلب العبد ، ومن أهمها ما أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله : ( فالصبر وإن كان شاقا كريها على النفوس فتحصيله ممكن ، وهو يتركب من مفردين : العلم والعمل ؛ فمنهما تركب جميع الأدوية التي تداوى بها القلوب والأبدان ، فلا بد من جزء علمي وجزء عملي ، فمنهما يركب هذا الدواء الذي هو أنفع الأدوية ، فأما الجزء العلمي فهو إدراك ما في المأمور من الخير والنفع واللذة والكمال ، وإدراك ما في المحظور من الشر والضر والنقص ، فإذا أدرك هذين العلمين كما ينبغي أضاف إليهما العزيمة الصادقة والهمة العالية والنخوة والمروءة الإنسانية ، وضم هذا الجزء إلى هذا الجزء ، فمتى فعل ذلك حصل له الصبر وهانت عليه مشاقه وحلت له مرارته وانقلب ألمه لذة ، وقد تقدم أن الصبر مصارعة باعث العقل والدین لباعث الهوى والنفس ، وكل متصارعين أراد أن يتغلب أحدهما على الآخر فالطريق فيه تقوية من أراد أن تكون الغلبة له ويضعف الآخر )5(5) عدة الصابرين ص39 ..
بعض الأمور التي تقوي باعث الدين والعقل على باعث الهوى والنفس
(أولا : إجلال الله تبارك وتعالى ، أن عصى وهو يرى ويسمع ، و من قام بقلبه مشهد إجلاله لم يطاوعه قلبه لذلك البتة .
الثاني : مشهد محبته سبحانه ، بترك معصيته محبة له ؛ فإن المحب لمن يحب مطيع ، وأفضل الترك ترك المحبين ، كما أن أفضل الطاعة طاعة المحبين ، فبين ترك المحب وطاعته وترك من يخاف العذاب وطاعته بون بعيد.
الثالث : مشهد النعمة والإحسان ؛ فإن الكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه ، وإنما يفعل هذا لئام الناس ، فليمنعه مشهد إحسان الله تعالى ونعمته عن معصيته حياء منه أن يكون خير الله وإنعامه نازلا إليه ومخالفاته ومعاصيه وقبائحه صاعدة إلى ربه ، فملك ينزل بهذا وملك يعرج بذاك فأقبح بها من مقابلة .
الرابع : مشهد الغضب والانتقام ، فإن الرب تعالى إذا تمادى العبد في معصيته غضب ، وإذا غضب لم يقم لغضبه شيء ، فضلا عن هذا العبد الضعيف .
الخامس : مشهد العوض ، وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله و نهی نفسه عن هواها وليوازنه بين العوض والمعوض فأيهما كان أولى بالإيثار اختاره وارتضاه لنفسه .
السادس : مشهد المغافصة والمعاجلة : وهو أن يخاف أن يغافصه الأجل فيأخذه الله على غرة فيحال بينه وبين ما يشتهي من لذات الآخرة ، فيا لها من حسرة ما أمرها وما أصعبها ، لكن ما يعرفها إلا من جربها ، وفي بعض الكتب القديمة : « يا من لا يأمن على نفسه طرفة عين ، ولا يتم له سرور يوم الحذر الحذر » .
السابع : التفكر في الدنيا وسرعة زوالها وقرب انقضائها ، فلا يرضى لنفسه أن يتزود منها إلى دار بقائه وخلوده أخس ما فيها وأقله نفعا إلا ساقط الهمة دنيء المروءة ميت القلب ؛ فإن حسرته تشتد إذا عاين حقيقة ما تزوده وتبين له عدم نفعه له ، فكيف إذا كان ترك تزود ما ينفعه إلى زاد يعذب به ويناله بسببه غاية الألم ، بل إذا تزود ما ينفعه وترك ما هو أنفع منه له كان ذلك حسرة عليه وغبنا .
الثامن : تعرضه إلى من القلوب بين أصبعيه وأزمة الأمور بیدیه وانتهاء كل شيء إليه على الدوام ، فلعله أن يصادف أوقات النفحات كما في الأثر المعروف : « إن لله في أيام دهره نفحات فتعرضوا لنفحاته واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم » ولعله في كثرة تعرضه أن يصادف ساعة من الساعات التي لا يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه .
التاسع : أن لا يغتر العبد باعتقاده أن مجرد العلم بما ذكرنا کاف في حصول المقصود ، بل لا بد أن يضيف إليه بذل الجهد في استعماله واستفراغ الوسع والطاقة فيه ، وملاك ذلك الخروج عن العوائد فإنها أعداء الكمال والفلاح ، فلا أفلح من استمر مع عوائده أبدا ، ويستعين على الخروج عن العوائد بالهرب عن مظان الفتنة والبعد عنها ما أمكنه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من سمع بالدجال فلينأ عنه »6(6) أخرجه أحمد (4/431-441) ، وأبو داود (4319) والحاكم (4/ 531) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما بلفظ (( من سمع بالدجال فلينأ عنه ، فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن ، فلا يزال به لما معه من الشبه حتى يتبعه )) وصححه الحاكم. ، فما استعين على التخلص من الشر بمثل البعد عن أسبابه ومظانه ، وها هنا لطيفة ، لا يخلص إليها إلا حاذق وهي : أن يظهر له الشيطان في مظان الشر بعض شيء من الخير ويدعوه إلى تحصيله ، فإذا قرب منه ألقاه في الشبكة ، والله أعلم)7(7) عدة الصابرين (باختصار) ص 45-42..
الهوامش
(1) مدارج السالكين 2/157.
(2) مدارج السالكين 2/310. ( باختصار ) .
(3) عدة الصابرين ص10.
(4) عدة الصابرين ص38 (باختصار وتصرف يسير ).
(5) عدة الصابرين ص39 .
(6) أخرجه أحمد (4/431-441) ، وأبو داود (4319) والحاكم (4/ 531) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما بلفظ (( من سمع بالدجال فلينأ عنه ، فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن ، فلا يزال به لما معه من الشبه حتى يتبعه )) وصححه الحاكم.
(7) عدة الصابرين (باختصار) ص 45-42.
اقرأ أيضا
التواصي بالصبر من صفات الناجين من الخسران
الصبر والتقوى من أخلاق الأنبياء