إن الفكر ليكَلّ والقلم يعجز عن الإحاطة بأخلاق وسلوكيات هؤلاء الصفوة من عباد الله عز وجل، سواء من جهة الكم أو الكيف؛ ولكن حسبنا أن نستعرض بعض هذه الأخلاق السامقة لتدلنا على بقيتها؛ لعل القلوب ترق والعزائم تستيقظ لتلحق بهذه الصفوة المباركة.

الارتباط بين العقيدة والأخلاق

لقد خصّ الله عزّ وجلّ أنبياءَه عليهم الصلاة والسلام بالكمال البشري في الأخلاق والسلوك ، فجاءوا قدوات لمن بعدهم ، يُهتدَى بأخلاقهم ، ويقتدى بسلوكهم ، كما كان الشأنُ في توحيدهم وإيمانهم ، ومعرفتهم بربهم ، ولا غرابة فيما وصلوا إليه من أخلاق عالية ، وصفات نبيلة ، فما هي إلا من اثار التصوّر الصحيح ، والإيمان العظيم ، فالارتباطُ بين المعتقَد والسلوك ارتباطٌ قوي ، وبينهما تناسَبٌ طردي ، تشهدُ له الأدلة والتجارب ، فكلّما صحَّ الاعتقاد وكان سليماً ، فإنّ الأخلاق تعلو وتنمو ، وتشرقُ ، والعكس بالعكس.

من أخلاق الأنبياء الكرام

خلق الصبر والتقوى

وهذان الخلقان العظيمان هما أساس الإمامة في الدين، وقد من الله عز وجل على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بحظ عظيم منهما فحازوا قصب السبق فيهما.

قال الله تعالی مسليا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأنعام: 34].

وقال تعالى عن بعض أنبيائه قولهم: ﴿… وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [إبراهيم: 12].

وقال سبحانه عن نبيه يوسف عليه الصلاة والسلام بعد تلك الابتلاءات المتنوعة والتي ثبته الله عز جل فيها وتجاوزها بنجاح أنه قال: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف : ۹۰] والآيات في وصف صبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتقواهم وخشيتهم من الله سبحانه كثيرة لا يتسع المقام لذكرها. ومما تجدر الإشارة إليه أن من أهم أغراض قصص الأنبياء في القرآن الكريم هو أخذ العبر من صبرهم وتضحيتهم ومعاناتهم في مواجهة الشرك وإرجاع الناس إلى عبادة الله عز وجل؛ وذلك حتى يقتدي بصبرهم من جاء بعدهم من الدعاة والمصلحين فيثبتوا ولا يضعفوا، ويستبشروا ولا ييأسوا. قال تعالى: ﴿وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120].

صبر أولي العزم من الرسل

والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يتفاوتون ويتفاضلون في الصبر؛ فصبر أولي العزم من الرسل هو أعظم الصبر لأنهم واجهوا من الأذى والصد ما لم يواجهه نبي قط. وقد جاء التنويه بذکر صبرهم في قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ…﴾ [الأحقاف : 35].

– فنوح عليه الصلاة والسلام صبر في دعوته لقومه صبرا عظيما دام ألف سنة إلا خمسين عاما كلها دعوة وجهاد وصبر على أذى قومه له وسخريتهم منه، واتهامهم له بالجنون تارة وبالسحر تارة وبالضلال تارة، وهو يقابل ذلك كله بالصبر والسماحة والحلم حتى انتهى بهم الأمر إلى تهديده بالقتل رجما قال تعالى: ﴿قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ [الشعراء: 116] .

– وهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام تعرض لمحن عظيمة فصبر لها صبر الموحد لربه الموقن بوعده؛ ذلك حين ألقي في النار، وحين أمر بذبح ابنه وفلذة كبده، وحين أمر بترك أهله بواد غير ذي زرع، وحين هاجر من موطنه وترك أباه وأقاربه.

– وهذا موسى عليه الصلاة والسلام وما واجه من الأذى والتهديد من فرعون وملئه، ثم ما واجه من الأذى والتعنت من قومه بني إسرائيل حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن موسى عليه الصلاة والسلام: «یرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر»1(1) البخاري في الأدب (6100)، ومسلم في الزكاة (1062)..

– وهذا عيسى عليه الصلاة والسلام، جاءه من الأذى والتهم الباطلة من بني إسرائيل حتى تآمروا على قتله وصلبه ، فصبر على ذلك كله. ولكن الله عز وجل رفعه إليه.

– وهذا خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم تعرض للأذي العظيم والاضطهاد الشديد في نفسه وفي أصحابه رضي الله عنهم؛ فقال عنه المشركون إنه ساحر وكاهن وشاعر ومجنون، وحوصر مع أصحابه وقرابته في شعب أبي طالب حتى أكلوا الجيف، وخرج إلى الطائف فرده أهلها ردا عنيفا ورموه بالحجارة حتى دميت قدماه الشریفتان، ولم يستطع دخول مكة – ذلك البلد الذي يأمن فيه الطير والوحش – لم يستطع دخولها إلا في جوار مطعم بن عدي، ثم تآمر المشركون على قتله فخرج مهاجرا إلى المدينة وهناك بدأ الجهاد. وما يكاد يخرج من غزوة إلا ويدخل في أخرى، وأصابه في بعضها القرح والآلام، وقتل من أصحابه الكثير بين يديه، واستمر على هذه الحياة الجهادية والتي كلها صبر ومصابرة حتى توفاه الله عز وجل وقد أقر عينه بفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا، فكمل الله به الدين، وأتم به النعمة، فصلى الله وسلم عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين.

وبعد هذا الاستعراض السريع لصبر بعض الأنبياء يحسن التفصيل في نموذج أو نموذجين من صبرهم عليهم الصلاة والسلام:

– فصل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في جوانب الصبر في حياة يوسف عليه الصلاة والسلام والابتلاءات التي مر بها وأنه ما وصل إلى تلك الحياة الكريمة في آخر حياته إلا بالتقوى والصبر كما قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: ۹۰]. ولكن شيخ الإسلام رحمه الله تعالی نوه في بداية حدیثه على أن هذا الصبر العظيم من يوسف عليه الصلاة والسلام لا يعني أنه فاق أولي العزم من الرسل في الصبر والتقوى. فها هو يقول رحمه الله تعالى: (وأما قصة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلوات الله عليهم فتلك أعظم، والواقع فيها من الجانبين؛ فما فعلته الأنبياء من الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ودينه وإظهار آیاته وأمره ونهيه ووعده ووعیده ومجاهدة المكذبين لهم والصبر على أذاهم هو أعظم عند الله، ولهذا كانوا أفضل من يوسف صلوات الله عليهم أجمعين، وما صبروا عليه وعنه أعظم من الذي صبر يوسف عليه وعنه، وعبادتهم لله وطاعتهم وتقواهم وصبرهم وبما فعلوه أعظم من طاعة يوسف وعبادته وتقواه، أولئك أولو العزم الذين خصهم الله بالذكر في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۖ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [الأحزاب: 7]، وقوله: ﴿شَرَعَ  لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ…﴾ [الشورى: 13]. وهم يوم القيامة الذين تطلب منهم الأمم الشفاعة، وبهم أمر خاتم الرسل أن يقتدي في الصبر بهم)2(2) مجموع الفتاوی (31/17-32)..

يوسف عليه السلام نموذج للصبر على الابتلاءات

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه. فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا کسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية، فصبر اختیار ورضى، ومحاربة للنفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة. فإنه كان شابا، وداعية الشباب إليها قوية. وعزبا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته. وغريبا، والغريب لا يستحيي في بلد غربته مما يستحيي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله. ومملوكا، والمملوك أيضا ليس له وازعه کوازع الحر، والمرأة جميلة وذات منصب وهي سيدته، وقد غاب الرقيب . وهي الداعية له إلى نفسها والحريصة على ذلك أشد الحرص، ومع ذلك توعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار. ومع هذه الدواعي كلها صبر اختیارا وإيثارا لما عند الله. وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من کسبه)3(3) مدارج السالكين (2/156)..

الصبر …طريق الرسالات وطريق الدعوات

وفي ختام الكلام عن هذا الخلق العظيم من خلق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنقل مقتطفات مما كتبه سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذا الجانب العظيم بعد معاناة وتجارب واجهها وقاساها في دعوته وابتلاءاته المريرة؛ يقول رحمه الله تعالى: (والدعوة إلى الصبر والتوجيه إليه صاحبت كل دعوة وتكررت لكل رسول ولكل مؤمن يتبع الرسول، وهي ضرورية لثقل العبء ومشقة الطريق، ولحفظ هذه النفوس متماسكة راضية موصولة بالهدف البعيد منطلقة كذلك إلى الأفق البعيد. والصبر حتى يحكم الله في الوقت المقدر ما يريد: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ… ﴾ [القلم: 48] .. إن مشقة الدعوة الحقيقية هي مشقة الصبر لحكم الله حتى يأتي موعده في الوقت الذي يريده بحكمته. وفي الطريق مشقات التكذيب والتعذيب، ومشقات الالتواء والعناد، ومشقات انتفاش الباطل وانتفاخه، ومشقات افتتان الناس بالباطل المزهو المنتصر فيما تراه العيون، ثم مشقات إمساك النفس عن هذا كله، راضية مستقرة مطمئنة إلى وعد الله الحق، لا ترتاب ولا تتردد في قطع الطريق مهما تكن مشقات الطريق .. وهو جهد ضخم مرهق يحتاج إلى عزم وصبر ومدد من الله وتوفيق: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلً﴾ [المعارج: 5] والصبر الجميل هو الصبر المطمئن الذي لا يصاحبه السخط ولا القلق ولا الشك في صدق الوعد. صبر الواثق من العاقبة، الراضي بقدر الله، الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء الموصول بالله، المحتسب كل شيء عنده مما يقع به .. وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة؛ فهي دعوة الله، وهي دعوة إلى الله، ليس له هو منها شيء، وليس له وراءها من غاية؛ فكل ما يلقاه فيها فهو في سبيل الله، وكل ما يقع في شأنها هو من أمر الله . فالصبر الجميل إذن ينبعث متناسقا مع هذه الحقيقة ومع الشعور بها في أعماق الضمير.. والله صاحب الدعوة التي يقف لها المكذبون، وصاحب الوعد الذي يستعجلون به ويكذبون. يقدر الأحداث ويقدر مواقيتها كما يشاء وفق حكمته وتدبيره للكون كله ….

ثم لتقول للبشرية في النهاية: هذا هو الطريق .. هذا هو الطريق إلى الاستعلاء وإلى الإرتفاع. هذا هو الطريق إلى الله. فالصبر هو طريق الرسالات وطريق الدعوات .. الدعوة إلى الصبر.. الصبر على التكذيب، والصبر على الأذى، والصبر على نفخة الباطل وانتشائه بالغلبة والسلطان في فترة من الزمان، والصبر على طباع الناس وأخلاقهم وتصرفاتهم من هنا وهناك، والصبر على النفس وميولها وقلقها وتطلعها ورغبتها في النصر القريب وما يتعلق به من رغائب وآمال، والصبر على أشياء كثيرة في الطريق قد تجيء من جانب الأصدقاء قبل أن تجيء من جانب الأعداء .. ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ…﴾ [الروم: 60]. مهما يطل الأمد ومهما تتعقد الأمور ومهما تتقلب الأسباب)4(4) طريق الدعوة في ظلال القرآن (ص 203-209)..

الهوامش

(1) البخاري في الأدب (6100)، ومسلم في الزكاة (1062).

(2) مجموع الفتاوی (31/17-32).

(3) مدارج السالكين (2/156).

(4) طريق الدعوة في ظلال القرآن (ص 203-209).

اقرأ أيضا

النصح والرحمة بالناس من أخلاق الأنبياء

التعرف على حياة الأنبياء ومنهجهم في الدعوة

مفهوم الصبر وضرورته للداعية

منارات النجاة من الفتن .. بين التقوى والأناة

 

التعليقات غير متاحة