في توالي وتلاحق الفتن على المسلمين اليوم، بلدا إثر آخر، وتبوء السفهاء والمنافقين والسفاحين لأزمة الأمور؛ يجب التروي والتضرع والاستنارة بمنارات جاء بها الإسلام للنجاة من الفتن.

مقدمة

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن السعيد لَمَن جُنّب الفتن ـ قالها ثلاثا. ولمن ابتُلي فصبر، فواهاً» (1أبو داود (4263) في الفتن باب النهي عن السعي في الفتنة، وقال الأرناؤوط: وإسناده صحیح، جامع الأصول 10/ 18). و”واها” تفيد التفجّع والتحسر على ما سوف يحل بالمسلمين.

حتما لمن أراد لنفسه النجاة من الفتن أن يسعى جاهدا في اتخاذ الأسباب الواقية منها والاهتداء بمنارات النجاة التي جاءت في كتاب الله، عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومواقف سلف الأمة الذين استناروا فيها بهذه المنارات المنجية؛ فنجّاهم الله بها وسلّمهم بها من غوائل الفتن.

والفرار من الفتن يعني دفعها قبل وقوعها، والسلامة منها بعد وقوعها، والتوبة منها بعد التلوث بها.

أسباب النجاة

أما أساب النجاة من غوائل الفتن فإنها ترجع إلى سببين كبيرين هما:

  • سد باب الشبهات: بالعلم واليقين والبصيرة في الدين ومعرفة الحق بدليله، والإعراض عن الشبهات.
  • سد باب الشهوات: بالصبر والمجاهدة، ولزوم الحق والانقياد له، ودفع كل ما يحول بين الحق وبين اتباعه.

منارات في الطريق

وتحت كل سبب من هذين السبيين عدة وسائل ومنارات تساعد في تحقيقه واكتماله، ومن هذه المنارات ما يلي:

منارة: اللجوء إلى الله ودعائه والاعتصام به

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالی :

“وأما الاعتصام به؛ فهو التوكل عليه، والامتناع به، والاحتماء به، وسؤاله أن يحمي العبد ويمنعه، ويعصمه ويدفع عنه، فإن ثمرة الاعتصام به هو الدفع عن العبد. والله يدافع عن الذين آمنوا؛ فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كلَ سبب يفضي به إلى العطب، ويحميه منه؛ فيدفع عنه الشبهات والشهوات، وكيد عدوه الظاهر والباطن، وشر نفسه، ويدفع عنه موجب أسباب الشر بعد انعقادها، بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه فتفقد في حقه أسباب العطب، فيدفع عنه موجباتها ومسبباتها، ويدفع عنه قدَرَه بقدَره، وإرادته بإرادته، ويعيذه به منه”. (2مدارج السالكين، 1/ 464)

والمتأمل للأدعية الواردة في الكتاب والسنة يرى فيها معاني التوحيد؛ سواء ما تتعلق بتوحيد الألوهية أو الربوبية، أو الأسماء والصفات، والتوسل إلى الله عز وجل بها. وكلما امتلأ القلب من توحيد الله عز وجل والإيمان به وصِدْق التوكل عليه واللجوء إليه كلما كان للأدعية ونطقها باللسان أثرها العظيم في عصمة الله عز وجل لعبده الداعي، ووقايته له من الفتن وشرورها. وبقدر ما يكون في القلب من توحيد الله عز وجل؛ يكون الأمن من المخاوف والشرور والفتن. والعكس من ذلك فيما لو تلوّث القلب بشوائب الشرك والنفاق؛ فإن المخاوف والشرور والفتن تحيط بصاحب هذا القلب، ويفقد بذلك الأمن والاطمئنان .

وقد جاء في السنة المطهرة الكثير من التوجيهات النبوية الكريمة لهذه الأمة في الاستعاذة من الفتن وشرورها سواء كان بأمره صلى الله عليه وسلم أو بفعله ودعائه؛ فعن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: حدثنا زید بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تعوَّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قلنا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن». (3مصنف ابن أبي شيبة 15 /30، وقال المباركفوري في تخريج (السنن الواردة في الفتن): إسناده صحيح)

وعن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلّمهم هذا الدعاء، كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات». (4البخاری (2/ 317  فتح). مسلم، کتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة (1/ 413))

منارة: العلم بالشرع والفقه في الدين

يتحدث شيخ الإسلام، رحمه الله تعالی، عن دور الجهل في وقوع الفتن فيقول:

“..لكن قد تخفى آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة، حتى لا يعرفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إما أن لا يعرفوا اللفظ، وإما أن يعرفوا اللفظ ولا يعرفوا معناه؛ فحينئذ يصيرون في جاهلية بسبب عدم نور النبوة، ومن هنا يقع الشرك وتفریق الدین کالفتن التي تُحدث السيف”. (5مجموع الفتاوی، 17/ 307)

إذن؛ لما كان الجهل بالشرع ومقاصده أحد الأسباب الكبيرة التي تؤدي إلى الفتن وغوائلها؛ فإن الفقه في الدين وتجريد اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هما الواقیان ـ بإذن الله تعالى ـ من شر الفتن قبل وقوعها، كما أنهما الدواءان والعلاجان للفتن بعد وقوعها، كل ذلك على افتراض الإخلاص ونبذ الهوى؛ لأن دور العلم هو كشف الشبهات وبيان الغي من الرشد والحق من الباطل.

والعلم الذي ينفع صاحبه ويقيه الله به غوائل الفتن ليس بكثرة الرواية والحفظ فحسب وإنما هو الفقه بالأدلة ومقاصد الشريعة ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين، والتريث في الحكم على الشيء حتى يتم تصوره من جميع جوانبه ..

قال ابن عيينة: قال عمرو بن العاص، رضي الله عنه: «ليس العاقل من يعرف الخير من الشر، ولكن هو الذي يعرف خير الشرين». (6سير أعلام النبلاء 3/ 74)

منارة: الرفق والحلم والأناة

إن من أخطر الأمور على المسلم أيام الفتن عجلته وتسرعه وترکه الرفق والأناة والتؤدة، فكم من الذين تورطوا في الفتن ـ أيا كان نوع هذه الفتن ـ قد أقرّوا بندمهم على تسرعهم وتعجلهم في أمر كان لهم فيه أناة، ولكن حين لا ينفع الندم في بعضها.

وقد ذم الله عز وجل العجلة في القرآن في أكثر من موطن، منها قوله تعالی: ﴿وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: 11] وقد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم أشج عبد القيس بقوله: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة». (7مسلم في الإيمان (18))

وإذا كان الحلم والأناة والرفق صفات محمودة في كل آن وحال؛ فإنها في أيام الفتن واضطراب الأحوال تكون محمودة بشكل أكبر والحاجة إليها تكون أشد.

فعن الزهري عن رجل من “بلي” قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فانتجاه دوني، فقلت: يا أبة أي شيء قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟ قال: «إذا هممت بأمر فعليك بالتؤدة حتى يأتيك الله بالمخرج من أمرك» (8المطالب العالية 3 /36 وقال البوصيري: رواته ثقات)

ومن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث الليث بن سعد عن موسى بن علي عن أبيه قال: قال المستورد القرشي عن عمرو بن العاص، رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس». فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلت ذاك إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك. (9صحیح مسلم کتاب الفتن . باب: تقوم الساعة والروم أكثر الناس (2898))

وفي تفسير عمرو بن العاص رضي الله عنه في كون الروم أكثر الناس عند قيام الساعة وذلك بتحليهم بصفات؛ منها أنهم “أحلم الناس عند فتنة”؛ دليل على أن (الرفق والحلم) أيام الفتن مما يجنّب به الناس الشرور وهلاك الأنفس والأموال والذي هو من شأن الفتن إذا اشتعلت، ونحن المسلمين أولی من النصارى بهذه الصفات؛ لأن في ديننا ما يحثنا عليها ويمدح المتصفين بها؛ كما أن في سيرة سلفنا الصالح ـ رحمهم الله تعالی ـ نماذج مضيئة للالتزام بهذه الصفات.

منارة: لزوم التقوى والعمل الصالح

 العمل الصالح ثمرة التقوى التي هي القيام بما أمر الله، عز وجل، وترْك ما نهى عنه بشرط الإخلاص لله تعالى والمتابعة في كل ذلك لما جاء به الرسول.

وقد بيَّن الله، عز وجل، في كتابه الكريم أثر التقوى في تيسير الأمور والخروج من الأزمات والمضايق فمن ذلك :

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنفال: 29] وقوله سبحانه: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق : 2-3].

ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: «..احفظ الله يحفظك. احفظ الله تجده تجاهك..» الحديث. (10الترمذي (2518))

ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «بادِروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا، ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا». (11مسلم كتاب الإيمان، 118)

ومن الآثار الواردة أيضا في فضل العمل الصالح والعبادة زمن الفتن ما رواه معقل بن يسار، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العبادة في الهرْج كهجرة إليّ». (12مسلم کتاب الفتن (2948)) وفي رواية عند الإمام أحمد، رحمه الله تعالى: «العمل في الهرْج والفتنة كالهجرة إليّ». (13مسند أحمد 5/ 25)

قال الحافظ ابن رجب، رحمه الله تعالى:

“وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتّبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دينٍ؛ فيكونُ حالهم شبيها بحال الجاهلية. فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة مَن هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنا به متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه”. (14عن كتاب إتحاف الجماعة للشيخ التويجري رحمه الله تعالی 1/ 93)

وكذلك لِما في العبادة من الدعاء والتضرع واللجوء إلى الله، عز وجل، والاعتصام به من شرور الفتن، وقد سبق الكلام عن أثر ذلك في المنارة الأولى.

خاتمة

هذه الدروس والمنارات في غاية الأهمية اليوم مع الفتن التي تتلاطم بالمسلمين وتحوط بالأمة؛ حتى لا تنحسر وقد هلكت فئام.. حتى يجليها رب العالمين.

………………………………..

الهوامش:

  1. أبو داود (4263) في الفتن باب النهي عن السعي في الفتنة، وقال الأرناؤوط: وإسناده صحیح، جامع الأصول 10/ 18.
  2. مدارج السالكين، 1/ 464.
  3. مصنف ابن أبي شيبة 15 /30، وقال المباركفوري في تخريج (السنن الواردة في الفتن): إسناده صحيح.
  4. البخاری (2/ 317 فتح). مسلم، کتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة (1/ 413).
  5. مجموع الفتاوی، 17/ 307 مجموع الفتاوی، 17/ 307
  6. سير أعلام النبلاء 3/ 74.
  7. مسلم في الإيمان (18).
  8. المطالب العالية 3 /36 وقال البوصيري: رواته ثقات.
  9. صحیح مسلم کتاب الفتن . باب: تقوم الساعة والروم أكثر الناس (2898).
  10. الترمذي (2518).
  11. مسلم كتاب الإيمان، 118.
  12. مسلم کتاب الفتن (2948).
  13. مسند أحمد 5/ 25.
  14. عن كتاب إتحاف الجماعة للشيخ التويجري رحمه الله تعالی.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة