لما كان الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق كل ذلك لا يقوم ولا يستقيم إلا بالصبر ؛ جاء التأكيد على صفة التواصي بالصبر وأنها من صفات الناجين من الخسران ، ولم يكن من صفاتهم أنهم صابرون فحسب ؛ بل زادوا على ذلك بأن كانوا يتواصون بالصبر ويحض بعضهم بعضا عليه.

بعض المسائل المتعلقة بالصبر

ولأهمية الصبر والتواصي به ، وارتباطه الوثيق بالإيمان والعمل الصالح وحاجة التواصي بالحق إليه ، ولكونه أصلا عظيما من أصول النجاة لا تتحقق إلا به ؛ رأيت التوسع في بعض المسائل المتعلقة به والتي لا بد منها في الحديث عن الصبر والتواصي به ، ومن هذه المسائل ما ذكرناه في المقالين السابقين [التواصي بالصبر من صفات الناجين من الخسران] ، [بعض المسائل المتعلقة بالصبر] وما نكمله بتوفيق الله عز وجل في هذا المقال.

المسألة العاشرة: احتياج العبد للصبر في جميع أحواله

العبد محتاج إلى الصبر في جميع أحواله ولا يستغني عنه إلى الممات؛ لأنه إما يكون في أمر يجب عليه امتثاله أو نهي يجب عليه اجتنابه ، أو مصيبة تجري عليه ، أو نعمة يجب شكر المنعم عليها وعدم البطر والكبر والاغترار بها ، ولما كان العبد لا يستغني عن الصبر في جميع أحواله جاء الأمر به والتواصي به بعد التواصي بالحق ، لأنه لا قيام بالحق إلا به ، ولأنه لا نجاة من الخسران في الدنيا والآخرة إلا به ، وإذا كان الناس بعامة لا يستغنون عن الصبر فإن الدعاة منهم والمجاهدين الذين هم أكثر عرضة للمصائب والمحن والابتلاءات أحوج من غيرهم إلى التواصي بالصبر على الحق الذي يحملونه ويدعون الناس إليه ؛ لأنه زادهم في طريق الدعوة والجهاد المليء بالعقبات والمشاق والتضحيات ، ويذكر سيد قطب رحمه الله تعالى بعض هذه العوائق والعقبات التي يجب على الدعاة والمجاهدين أن يوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها فيقول: (الصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة ؛ إنه طريق طويل شاق حافل بالعقبات والإيذاء والابتلاء ، إنه الصبر على أشياء كثيرة ، الصبر على شهوات النفس ورغباتها وأطماعها ومطامحها وضعفها ونقصها وعجلتها وملالها من قريب ، والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم وانحراف طباعهم وأثرتهم وغرورهم ، والتوائهم واستعجالهم للثمار ، والصبر على تنفش الباطل ووقاحة الطغيان ، وانتفاش الشر ، وغلبة الشهوة وتصعير الغرور والخيلاء، والصبر على قلة الناصر وضعف المعين ، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق ، والصبر على مرارة الجهاد ، هذا كله وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة من الألم والغيظ والحنق والضيق ، وضعف الثقة أحيانا في الخير ، وقلة الرجاء أحيانا في الفطرة البشرية ، والملل واليأس أحيانا والقنوط ، والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والغلبة والانتصار، واستقبال الرخاء في تواضع وشکر ، وبدون خيلاء، والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله واستسلام لقدره ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع)1(1) طريق الدعوة في ظلال القرآن ص198..

التواصي بالصبر يقرر درجة وراء درجة الصبر

ويتحدث في سورة العصر عن التواصي بالصبر وضرورته للدعاة فيقول: « والتواصي بالصبر كذلك ضرورة ، فالقيام على الإيمان والعمل الصالح وحراسة الحق والعدل من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة ، ولا بد من الصبر على جهاد النفس وجهاد الغير ، والصبر على الأذى والمشقة والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر ، والصبر على طول الطريق وبطء المراحل ، وانطماس المعالم وبُعد النهاية ، والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف ووحدة المتجه وتساند الجميع ، وتزودهم بالحب والعزم والإصرار ، إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا يعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها ، ولا تبرز إلا من خلالها وإلا فهو الخسران والضياع (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر] فالصبر هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة ، والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته ؛ درجة تماسك الجماعة المؤمنة وتواصيها على معاني الصبر وتعاونها على تكاليف الإيمان ، فهي أعضاء متجاوبة الحس ، تشعر جميعا شعورا واحدا بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه ، فيوصي بعضها بعضا فلا تتخاذل ، ويقوي بعضها بعضا فلا تنهزم ، وهـذا أمـر غـيـر الصـبر الفردي)2(2) طريق الدعوة في ظلال القرآن ص208..

التوجيه الرباني بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة المتعنتين

ويقول في موطن آخر عند قوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ) [الأحقاف:35] : (توجيـه يقـال لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي احتمل وعانى من قومه ما عانى ، وهو الذي نشأ يتيماً وجرد مـن الـولي والحامي ومن كل أسباب الأرض واحدا بعد واحـد ، الأب ، والأم ، والجـد ، والعـم ، والزوج الوفيـة الحنـون ، وخلص لله ولدعوته مجردا من كل شاغل ، كما هو مجرد من كل سند وظهير من الخلق ، وهو الذي لقي من أقاربه المشركين أشد مما لاقى من الأبعدين ، وهو الذي خرج مرة ومرة ومرة يستنصر القبائل والأفراد فرد في كـل مـرة بـلا نـصـرة ، وفي بعض المرات باستهزاء السفهاء ورجمهم له بالحجارة حتى تدمى قدماه الطاهرتان ، فما يزيد على أن يتوجه إلى ربه بذلك الابتهال الخاشع النبيل .

وبعد ذلك كله يحتاج إلى توجيه ربه : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ) ، ألا إنه لطريق شاق طريـق هـذه الدعوة ، وطريق مرير حتى لتحتاج نفس كنفس محمد صلى الله عليه وسلم في تجردها وانقطاعها للدعوة ، وفي ثباتها وصلابتها ، وفي صفائها وشفافيتها ، تحتاج إلى التوجيه الرباني بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة المتعنتين)3(3) في ظلال القرآن 6/3276..

المسألة الحادية عشرة: ومن التواصي بالصبر تسلية المصابين

ومن التواصي بالصبر تسلية المصابين ، وتعزية من مات له ميت، وتخفيف مصابه ، وتذكيره بآيات الصبر واحتساب الأجر من الله عز وجل ؛ كل ذلك داخل في التواصي بالصبر ، وقد جاءت السنة بالوصية بالمرضى وزيارتهم والدعاء لهم وتذكيرهم بفضل الصبر وما أعد الله للصابرين كما جاءت بالحث على تعزية المصابين في أهليهم وتوصيتهم بالصبر ورجاء الثواب عند الله عز وجل ، كل ذلك يدخل في التواصي بالصبر المذكور في السورة .

وفيما يلي ذكر بعض هذه الآثار التي تحث على زيارة المرضى وتعزية أهل المصائب:

١- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « حق المسلم علی المسلم خمس: رد السلام ، وعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وإجابة الدعوة ، وتشميت العاطس»4(4) البخاري (1240)، مسلم (2162)..

۲- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: « اللهم رب الناس ، أذهب البأس ، اشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما»5(5) البخاري (5743)، مسلم (2191) ..

٣- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده و كان إذا دخل على من يعوده قال: «لا بأس طهور إن شاء الله»6(6) البخاري (5656)..

4- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها ، إلا أجره الله تعالى في مصیبته وأخلف له خيرا منها» قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت کما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم»7(7) مسلم (918)..

5- عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أن صبيا لها – أو ابنا – في الموت فقال الرسول : «ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمی ، فمرها فلتصبر ولتحتسب»8(8) مسلم (923) ..

6- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة»9(9) البخاري (6424)..

المسألة الثانية عشرة: التواصي بالصبر يكون لأهل النعم كما يكون لأهل المصائب

التواصي بالصبر لا يكون لأهل المصائب فقط، وإنما أهل النعم والغنى وأهل الخير هم أحوج من غيرهم إلى الوصية بالصبر وشکر النعم حتى لا يبطروا و يطغوا ؛ فالله عز وجل يقول : (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35] وكثير من الناس يصبر على الشدائد والمصائب وفتنة الضراء ، ولكن القليل منهم من يصبر على فتنة السراء والخير والرخاء والسبب في ذلك – والله أعلم – أن المصاب بأمر يكرهه يعلم ويحس بأنه مصاب ، وكذلك الناس من حوله يحسون بمصابه فيواسونه ويوصونه بالصبر ، وهو كذلك يستنفر قواه الكامنة من الإيمان واللجوء إلى الله عز وجل والصبر وشجاعة القلب في مواجهة المصيبة ، أما أهل الرخاء والسراء فلا يشعرون بأنهم مبتلون ومفتنون ، والناس من حولهم لا يحسون كذلك ؛ فلذا تمضي فيهم الفتنة وهم في حالة من الاسترخاء وعدم الاستعداد لمقاومتها وبذلك يكثر المتساقطون في فتنة السراء، لذا فالتواصي بالصبر ينبغي أن يكون معهم كما هو الحال في التواصي مع أهل المصائب ، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (وكل ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين : أحدهما يوافق هواه ومراده ، والآخر مخالفه .

وهو محتاج إلى الصبر في كل منهما ؛ أما النوع الموافق لغرضه فكالصحة والسلامة والجاه والمال وأنواع الملاذ المباحة ، وهو أحوج شيء إلى الصبر فيها من وجوه:

أحدها : أن لا يركن إليها ولا يغتر بها ولا تحمله على البطر والأشر والفرح المذموم الذي لا يحب الله أهله.

الثاني : أن لا ينهمك في نيلها ويبالغ في استقصائها فإنها تنقلب إلى أضدادها ، فمن بالغ في الأكل والشرب والجماع انقلب ذلك إلى ضده وحرم الأكل والشرب والجماع .

الثالث : أن يصبر على أداء حق الله فيها ولا يضيعه فيسلبها .

الرابع : أن يصبر عن صرفها في الحرام ، فلا يمكن نفسه من كل ما تريده منها فإنها توقعه في الحرام ، فإن احترز كل الاحتراز أوقعته في المكروه، ولا يصبر على السراء إلا الصديقون ؛ قال بعض السلف : “البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر ، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون” وقال عبد الرحمن بن عوف : “ابتلينا بالضراء فصبرنا و ابتلينا بالسراء فلم نصبر” ، ولذلك حذر الله عباده من فتنة المال والأزواج والأولاد ، فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) [المنافقون : 9] وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن : 14] وإنما كان الصبر على السراء شديدا لأنه مقرون بالقدرة، والجائع عند غيبة الطعام أقدر منه على الصبر عند حضوره، وكذلك الشبق عند غيبة المرأة أصبر منه عند حضورها)10(10) عدة الصابرين ص46..

الهوامش

(1) طريق الدعوة في ظلال القرآن ص198.

(2) طريق الدعوة في ظلال القرآن ص208.

(3) في ظلال القرآن 6/3276.

(4) البخاري (1240)، مسلم (2162).

(5) البخاري (5743)، مسلم (2191) .

(6) البخاري (5656).

(7) مسلم (918).

(8) مسلم (923) .

(9) البخاري (6424).

(10) عدة الصابرين ص46.

اقرأ أيضا

التواصي بالصبر من صفات الناجين من الخسران

مفهوم الصبر وضرورته للداعية

بعض المسائل المتعلقة بالصبر

التعليقات غير متاحة