مقامات الصبر وأعظم أنواعه، وأقسام الناس في الصبر وأفضل الصابرين، ونماذج للصبر، وآثار الصبر عاجلاً وآجلاً، والأمور المعينة على الصبر وما يضاد الصبر ..

أنواع الصبر على البلايا والمحن

سبق الحديث [عبادة الضَّراء وعُدَّة المسلم حين نزول البلاء (1)] عن بعض مفاهيم الصبر، وحقائقه، ومدى الحاجة إليه، وارتباطه بمقامات الدين كلها، وتقدمه على الأخلاق الفاضلة جميعها، فإنني أستكمل اليوم معاني ومفاهيم أخرى حول الصبر، وأبتدئ بأنواع الصبر على البلايا والمحن، وأعلى مراتب الصابرين المحتسبين.

قال العارفون: هناك مصائب تجري على العبد دون اختياره، كالمرض، وموت العزيز عليه، وأخذ اللصوص ماله، ونحو ذلك مما يُثاب المسلم على الصبر عليه، وإن كان وقع بغير اختياره، وإنما يُثاب على الصبر عليها، لا على ما يحدث من المصيبة، بتكفير خطاياه، أما الثواب فإنما يكون على الأعمال الاختيارية، وما يتولد عنها1(1) الفتاوى 10/ 124..

وأعلى من هذا النوع ما يصيب المرء باختياره، طاعةً لله، وامتثالاً لأمره، واحتسابًا لما يصيبه من مكروه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه، وطُلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان، وان لم يفعل أوذي وعوقب، فاختار الأذى والعقوبة على فراق دينه: إما الحبس، وإما الخروج من بلده، كما جرى للمهاجرين حيث اختاروا فراق الأوطان على فراق الدين، وكانوا يُعَذَبون ويُؤذون …

وهذا أشرف النوعين، وأهله أعظم درجةً، فإنهم إنما أُصيبوا وأُوذوا باختيارهم طاعةً لله فيثابون على نفس المصيبة، ويُكتب لهم بها عملٌ صالحٌ، كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة: 120] إلى أن يقول الشيخ، رحمه الله: فالذين يُؤذون على الإيمان، وطاعة الله ورسوله، ويحدث لهم بسبب ذلك حرج أو مرض، أو حبسٌ أو فراق وطن، وذهاب مالٍ وأهل، أو ضربٌ أو شتمٌ، أو نقص رياسة ومال، هم في ذلك على طريقة الأنبياء وأتباعهم كالمهاجرين الأولين2(2) الفتاوى 10/ 122، 124..

أحوال الناس في الصبر

وكذلك تتفاوت مراتب الناس على الصبر على المقدور، واختيار معالي الأمور، فمن الناس من يجزع للمقدور ليس منه مفر، ومنهم من يسلم لما ليس له فيه اختيار ويصبر عليه ويحتسب، وأصحاب القدح المعلى، والدرجات العلى، هم أولئك الذين يختارون بمحض إرادتهم الصبر على الأذية في سبيل نصرة الملة. وفي هذه المرتبة العلية عزاءٌ لمن ابتلي من أهل السنة، فصبر واحتسب، وحضٌّ لمن يضنون بالجهاد بأنفسهم في سبيل نصرة دينهم خشية أن يؤذوا ويُتَّهموا … شريطة ألا يعرضوا أنفسهم للبلاء لما يطيقون وألا يتمنوا لقاء العدو.

وثمة تقسيمٌ آخر للناس إذا ما حلَّت بهم المصائب الكونية القدرية، فهم ينقسمون حسب صبرهم وتقواهم إلى أربعة أقسام:

أحدها: أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة.

والثاني: الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر، مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها، ويتركون المحرمات، لكن إذا أُصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه أو اُبتلى بعدو يخيفه عظم جزعه، وظهر هلعه.

والقسم الثالث: قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى، مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام فيما يطلبون من أخذ الحرام، والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها، وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم، يصبرون مع ذلك على أنواع من الأذى، لا يصبر عليها أكثر الناس، لكن دون تقوى تميُّز لهم بين المأمور والمحظور.

وأما القسم الرابع: فهم شر الأقسام، لا ييقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا، بل هم كما قال تعالى: (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج:19 – 21]. وهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذلِّ الناس وأجزعهم إذا قُهروا، إن قهَرْتهم ذلوا لك ونافقوك، وحاَبَوك واسترحموك، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس، وأقساهم قلبًا، وأقلَّهم رحمةً وإحسانًا وعفوًا … مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون، وَمَن يشبههم في كثير من أُمورهم، وإن كان متظاهرًا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصنَّاعهم، فالاعتبار بالحقائق، فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)3(3) الفتاوى 10/ 673 – 674..

هكذا يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية، يرحمه الله، ويبين أحوال الناس في الصبر والتقوى، والمؤمن من وفقه الله، والمخذول من خذله الله.

من الأمور المضادة للصبر

1- الشكوى إلى المخلوق على وجه التسخط والاسترحام، وقد قيل: من شكا ربه إلى مخلوق مثله فقد شكا من يرحمه إلى من لا يرحمه، أما الشكوى لله، أو لمخلوق على وجه الاسترشاد والتوصل إلى زوال ضرره فلا يقدح في الصبر 4(4) عدة الصابرين، ابن القيم/ 417..

ومع ذلك فمن يشتكي ربه، وهو بخير فهو أمقت الخلق عند الله، روى الإمام أحمد بسنده أن كعب الأحبار قال: إن من حسن العمل سُبْحة الحديث، ومن شر العمل التحذيف، قيل لعبد الله (أحد الرواة): ما سبحة الحديث؟ قال: سبحان الله وبحمده في خلال الحديث، قيل: فما التحذيف؟ قال: يصبح الناس بخير، فيسألون فيزعمون أنهم بشرٍ 5(5) المصدر السابق/ 419..

2 – ومما ينافي الصبر: شق الثياب عند المصيبة، ولطم الوجه، والضرب بإحدى اليدين على الأخرى، وحلق الشعر، والدعاء بالويل، وكل ما نهى عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم، أما بكاء العين، وحزن القلب دون تسخط فتلك رحمة جعلها الله في قلوب العباد، ولا ينافي الصبر، قال تعالى عن يعقوب عليه السلام: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف: 84] قال قتادة: كظيمٌ على الحزن، فلم يقل إلا خيرًا6(6) المصدر السابق/ 419..

وقال صلى الله عليه وسلم: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، والله إنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» 7(7) رواه أحمد وسلم وأبو داود، صحيح الجامع 3/ 37 – 38..

3 – ومما يقدح في الصبر إظهار المصيبة والتحدث بها، وكتمانها رأس الصبر، وقد روي: (من البر كتمان المصائب والأمراض والصدقة)8(8) في إسناده صدوق كثير الأوهام. وقيل: لما نزل في إحدى عيني عطاء الماء مكث عشرين سنة لا يعلم به أهله حتى جاء ابنه يومًا من قبل عينيه فعلم أن الشيخ قد أصُيب.

وقال مغيرة: شكا الأحنف إلى عمه وجع ضرسه، فكرر ذلك عليه، فقال: ما تكرر عليَّ، لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة فما شكوتها إلى أحد9(9) المصدر السابق/ 421..

4 – ويضاد الصبر- كذلك- الهلع. وهو: الجزع عند ورود المصيبة، والمنع عند ذهابها، كما قال تعالى: (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج: 9 ا-21]. قال الجوهري: الهلع: أفحش الجزع10(10) المصدر السابق/ 421..

الصبر والمصابرة، والمرابطة والتقوى

وإذا سلمك الله من هذه الآفات المضادة للصبر، فاعلم أنك محتاجٌ على الدوام لمنازلة الأعداء، وفي مقدمتهم الشيطان الرجيم، وسلاحك في ذلك: الصبر والمصابرة، والمرابطة والتقوى، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].

يقول ابن القيم، رحمه الله: ولا يتم أمر هذا الجهاد إلا بهذه الأمور الأربعة، فلا يتم لنا الصبر إلا بمصابرة العدو، وهي مقاومته ومنازلته، فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمر آخر، وهو المرابطة، وهي لزوم ثغر القلب وحراسته لئلا يدخل منه العدو، ولزوم ثغر العين والأذن واللسان والبطن واليد والرجل، فهذه الثغور، منها يدخل العدو فيجوس خلال الديار، ويفسد ما قدر عليه، فالمرابطة لزوم الثغر فلا يخلي مكانه، فيصادف العدو الثغر خاليًا فيدخل منه … وإذا كان خيرة الخلق، بعد الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم حين أخلَوا المكان الذي أُمروا بلزومه يوم أحد دخل منه العدو، فكان ما كان، فلا تسأل عن غيرهم، واعلم أن جماع هذه الثلاثة وعمودها الذي تقوم به وهو: تقوى الله تعالى، فلا ينفع الصبر ولا المصابرة ولا المرابطة إلا بالتقوى، ولا تقوم به التقوى إلا على ساق الصبر11(11) الداء والدواء/ 179، 180..

أعوذ الله من الشيطان الرجيم (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [لقمان: 17].

الأمور المعينة للمسلم على الصبر

1 – إن أول ما يعين على الصبر معرفة العبد بطبيعة هذه الحياة، بمفاجآتها ونكدها وأكدارها، فهي ليست بدار قرار، ومن ركن إليها وظن فيها السعادة والسلامة من الآفات فقد أخطأ الفهم، والمولى يقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4] ويقول: (وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].

فسعادتك فيها، حينًا، طيفٌ عابر، ومصابك فيها حتم لازم، وهل سلم الصفوة من البلاء فتسلم أنت وأنا ونحن المساكين؟ ولكن عزاء المؤمنين (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط)12(12) رواه الترمذي وحسنه. صحيح الجامع 2/ 216..

واستشعار المصاب لهذه الحقيقة يخفف عنه ألم المصيبة، ويدعو إلى الصبر واحتساب الأجر عند ربه.

2 – ليس ذلك فحسب، بل إن مما يدعو المسلم للصبر طمعه في ثواب الله، ومعرفته ما أعد الله للصابرين، ويكفيه أن يتأمل قوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) . أو أن يستيقن معية الله له حين يصبر، والحق تبارك وتعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) . قال أهل التفسير: وهذه معيَّة خاصة تقتضي محبته ومعونته، ونصره وقربه، وهذه منقبة عظيمة للصابرين، فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعيَّة من الله لكفى بها فضلاً وشرفًا 13(13) تفسير السعدي 1/ 177..

وإن الله تعالى وعد على الصبر النصر والظفر، وهي الكلمة الحسنى التي وعد الله بها بني إسرائيل بما صبروا: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف: 137]. إلى غير ذلك من معاني الصبر وآثاره التي وردت في القرآن أو صحيح السنة، وهي تكشف عن عواقب الصبر وآثاره في الدنيا والآخرة.

3 – ألا يغيب عن ذهن المبتلى بمصيبةٍ إنها قد تكون خيرًا عجَّله الله له ليتذكر أنْعُمَ الله عليه فيشكره عليها من جانب، وليصبر ويحتسب على هذه المصيبة فيأجره الله عليها، ويرفع درجاته من جانب آخر، وكم تحوَّلت المحن- في حياة الصابرين- إلى منحٍ ما زالوا يشكرون الله عليها. وقد تكون للعبد المنزلة لا يبلغها بعمله، فيبتليه الله بمصيبة فيرفعه الله بصبره عليها إلى هذه الدرجة العالية .. أفلا يسلي ذلك الصابرين؟ وقد يظلم نفسه، ويحملها من الأوزار ما يثقل كاهلها، فإذا ما ابتلاه ربه بمصيبة فصبر عليها واحتسب، كانت رفعة لدرجاته، ومكفرة لسيئاته، وفي صحيح مسلم: قال عليه الصلاة والسلام: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن، حتى الهم يُهمه إلا كُفِّر به من سيئاته»14(14) مختصر صحيح مسلم للمنذري ح 1798، ورواه البخاري وغيره، انظر (جامع الأصول 9/ 579). وعند الترمذي: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة)15(15) جامع الأصول 9/ 584، وانظر عدة الصابرين ص 126..

وتأمل هذا الحديث: عن شداد بن أوس، رضي الله عنه، مرفوعًا: (أن الله عز وجل يقول: إذا ابتليت عبدًا من عبادي- مؤمنًا- فحمدني وصبر على ما ابتليته به فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب للحفظة: إني قيَّدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له من الأجر ما كنتم تجرون له قبل ذلك وهو صحيح)16(16) رواه أحمد وغيره وهو صحيح (الصبر، أبو عبد الرحمن المصري/ 24)..

4 – ومما يعينك على الصبر، النظر في مصائب الآخرين، والتسرية عن النفس بحال المبتلين من الأولين والآخرين. ففي النفس جزع يخفف منه معرفة آلام الآخرين، وفيها غفلةٌ يوقظها ذكر من هو أعظم منه بليَّة، وكم هو صالح للاعتبار ومخفف للمصاب أن نتذكر مصيبة عروة بن الزبير، يرحمه الله، حين ذهب إلى الوليد بن عبد الملك فأصابت رجلَه الأكَلَةُ، فلم يكن بد من قطعها، ثم فقد ابنه محمدًا في الرحلة نفسها حين ركلته بغلةٌ في إصطبلها فكان مما قال: (اللهم كان لي بنون سبعة وأخذت واحدًا وأبقيت لي ستة، وكان لي أطرافٌ أربعة فأخذت طرفًا وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيتَ، ولئن أخذت لقد أبقيت)17(17) السير للذهبي 4/ 430، 431..

ألا ما أروع الكلمة التي وردت عن بعض السلف: (لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة مفاليس) 18(18) عدة الصابرين/ 145..

5 – ومما يعين على الصبر وتخفيف المصاب صدق اللجأ إلى الله، والتضرع بين يديه، فهو المعين وكاشف البلاء (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) [الأنبياء: 83- 84].

أيوب عليه السلام عبرة للصابرين وذكرى للعابدين

وهل علمت شيئًا من بلاء أيوب عليه السلام الذي قيل: إن الله يحج به يوم القيامة أهل البلاء؟

عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن رسول الله وعلى الله عليه وسلم قال: «إن نبي الله أيوب عليه السلام كان في بلائه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان إليه، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم، والله لقد أذنب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله، فيكشف ما به، فلما راحا عليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيوب، فقال عليه السلام: لا أدري ما تقول: غير أن الله عز وجل يعلم أني كنتُ أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق .. إلخ القصة19(19) روى القصة أبو يعلى والبحار وقال الهيثمي: رجال البزار رجال الصحيح (مجمع الزوائد 8/ 208) قال ابن حجر، أصح ما ورد في قصته، (الفتح 6/ 421) وإن كان ابن كثير استغرب رفع الحديث (التفسير 5/ 356) فقد ذكر أبو عبد الرحمن الأثري جملة من العلماء وصححوها ومنهم ابن كثير (الصبر/ 31). وفيها شفاه الله، ورد إليه ما كان سلبه منه، بعد أن امتحن صبره، وجعله عبرة للصابرين (وذكرى للعابدين)، والمعنى كما قال ابن كثير: أي جعلناه قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله في البلاء20(20) تفسير ابن كثير 5/ 357..

6 – ومما يعينك كذلك على الصبر- ولاسيما عن مقارفة الحرام- أن تعلم أن لذة الحرام ساعة، ثم تعقبها الندامة إلى قيام الساعة، وأن الكرام تعز أنفسها عن الورود على موائد اللئام:

إذا كثُر الذبابُ على طعامٍ

رفعتُ يدي ونفسي تشتهيهِ

وتجتَنبُ الأسود ورود ماءٍ

إذا كان الكلاب يَلِغْنَ فيهِ 21(21) عدة الصابرين/ 85..

الهوامش

(1) الفتاوى 10/ 124.

(2) الفتاوى 10/ 122، 124.

(3) الفتاوى 10/ 673 – 674.

(4) عدة الصابرين، ابن القيم/ 417.

(5) المصدر السابق/ 419.

(6) المصدر السابق/ 419.

(7) رواه أحمد وسلم وأبو داود، صحيح الجامع 3/ 37 – 38.

(8) في إسناده صدوق كثير الأوهام.

(9) المصدر السابق/ 421.

(10) المصدر السابق/ 421.

(11) الداء والدواء/ 179، 180.

(12) رواه الترمذي وحسنه. صحيح الجامع 2/ 216.

(13) تفسير السعدي 1/ 177.

(14) مختصر صحيح مسلم للمنذري ح 1798، ورواه البخاري وغيره، انظر (جامع الأصول 9/ 579).

(15) جامع الأصول 9/ 584، وانظر عدة الصابرين ص 126.

(16) رواه أحمد وغيره وهو صحيح (الصبر، أبو عبد الرحمن المصري/ 24).

(17) السير للذهبي 4/ 430، 431.

(18) عدة الصابرين/ 145.

(19) روى القصة أبو يعلى والبحار وقال الهيثمي: رجال البزار رجال الصحيح (مجمع الزوائد 8/ 208) قال ابن حجر، أصح ما ورد في قصته، (الفتح 6/ 421) وإن كان ابن كثير استغرب رفع الحديث (التفسير 5/ 356) فقد ذكر أبو عبد الرحمن الأثري جملة من العلماء وصححوها ومنهم ابن كثير (الصبر/ 31).

(20) تفسير ابن كثير 5/ 357.

(21) عدة الصابرين/ 85.

المصدر

كتاب: “شعاع من المحراب” ، د. سليمان بن حمد العودة (3/164-177).

اقرأ أيضا

عبادة الضَّراء وعُدَّة المسلم حين نزول البلاء (1)

الحث على الصبر وفضله في الكتاب والسنة

جهاد النفس في الصبر على الدعوة وبيان الحق وأذى الخلق

وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (6) بين الصبر والإنكار

 

التعليقات غير متاحة