إن حسن التوحيد وعدم جواز الشرك من أثبت الثوابت وأركز المرتكزات في الفطر والعقول، ومن ثم استحال جواز الشرك فيهما ما دامت السماء سماءً والأرض أرضًا، فحسن التوحيد وقبح الشرك حقيقة ثابتة راسخة، ولو لم ترسل الرسل وتنزل الكتب، فالعقل قاطع بوجوب عبادة الفاطر الخالق، المربي المنعم.

بيان معنى الفطرة

الفطرة في اللغة فعلها ثلاثي وهو فطر، والحالة منه الفطرة كالجلسة، وهي بمعنى الخلقة. قال ابن فارس عن أصل هذه الكلمة: (أصل صحيح يدل على فتح شيء وإبرازه، ومنه الفطرة: وهي الخلقة). وأتى بالفتح قبل الإبراز؛ لأنه سبب من أسبابه.

وقال ابن منظور: الفطرة تعني: (الابتداء والاختراع).

والأمر ظاهر في أنه لا خلاف بين هذه المعاني الثلاثة: الخلقة، والابتداء، والاختراع.

وقد عرف العلماء الراسخون الفطرة الواردة في القرآن والسنة بالإسلام فلعله من لوازم المعنى، فإن الفطرة هي: (الخلقة التي خلق الله العباد عليها وجعلهم مفطورين على محبة الخير وإيثاره وكراهية الشر ودفعه، وفطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله والتقرب إليه).

فمعنى الفطرة تؤول إلى الإسلام وعليه إجماع السلف، فلا شك إذا كان معنى الفطرة هو الإسلام أنه مخالف للشرك، فالشرك مخالف للفطرة كما ستأتي أدلته على ذلك.

حقيقة الفطرة: القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام

ولكن إذا كان الأصل في الإنسان أنهم فطروا على الإيمان هل يعني ذلك أن الإنسان إذا ترك بدون أي توجيه أنه يهتدي للإسلام؟.

أجاب شيخ الإسلام عن هذا السؤال بقوله: (وليس المراد أن الإنسان حين يخرج من بطن أمه يعلم هذا الدين موحدًا لله، فإن الله تعالى يقول: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)، وإنما المراد: أن فطرته مقتضية وموجبة لدين الإسلام، ولمعرفة الخالق، والإقرار به، ومحبته، ومقتضيات هذه الفطرة وموجباتها تحصل شيئًا بعد شيء، وذلك بحسب كمال الفطرة وسلامتها من الموانع).

وسئل مرة أخرى عن هذه الآيات والأحاديث فأجاب: (الصواب: أنها فطرة الله التي فطر الناس عليها يوم قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)؛ وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة، فإن حقيقة (الإسلام) أن يستسلم لله، لا لغيره وهي معنى (لا إله إلا الله)، ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل، فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، ولكن سلامة القلب، وقبوله وإرادته للحق ـ الذي هو الإسلام ـ بحيث لو ترك بغير مغير لما كان إلا مسلمًا، وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع هي: فطرة الله التي فطر الناس عليها).

فالمقصود بكون الفطرة دالة على الإيمان والتوحيد وعدم الشرك: هو سلامة القلب واستقامته على التوحيد وبراءته من الشرك بكافة صوره وألوانه، بحيث لو ترك صاحبه بلا مغير لصبغته ـ حتى تعقله ـ لما كان إلا موحدًا لربه بالألوهية، ومنخلعًا من تأله ما سواه.

معنى العقل

العقل: مفرد جمعه عقول، يطلق في اللغة العربية على عدة معان، منها:

1 – الحجر والنهى، ضد الحمق.

2 – الدية، وعقل القتيل بعقله: وداه.

3 – القيد الذي تقيد به البعير لئلا يند.

4 – الحكمة.

5 – حسن التصرف.

6 – الملجأ، يقال: عقل القوم وأعقل: إذا لجأ وقلص عند انتصاف النهار.

7 – الحصن.

ومهما يكن من الإطلاقات لهذا اللفظ فإن أصلها واحد، وهو حبسة في الشيء أو ما يقارب الحبسة، أو الإمساك والاستمساك.

والعقل في الاصطلاح: له إطلاقان:

1 – القوة الفطرية: أو الاستعداد الغريزي، والملكة الناضجة التي أودعها الله تعالى في الإنسان وخلقه عليها متهيئًا بسببها لقبول العلم، وهذا هو محل التكليف ومناط الأمر والنهي، وبه يكون التمييز والتدبير.

2 – يراد به العلوم الضرورية والمسلمات العقلية التي يستفيدها الإنسان بتلك القوة الفطرية، وهذا هو العقل المستفاد، وإليه الإشارة في القرآن الكريم في كل موضع ذم الله تعالى فيه الكفار بعدم العقل. كقوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ).

إثبات كون الشرك مخالفًا للفطرة

لقد خلق الله ـ جل في علاه ـ عباده حنفاء مسلمين موحدين لرب العالمين بالألوهية، ومتبرئين من الشرك والتأله لما سواه، وجعل ذلك لوازم فطرهم، بحيث لو تركوا ودواعيها لما كانوا إلا عارفين بالله، وبتوحيده وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى القائم عليها والمنبثق منها: وحدانية تألهه، وبذلك شهدت فطرة الموحدين وعقولهم؛ بأن الله أهل أن يعبد، ولو لم يرسل بذلك رسولاً ولم ينزل به كتاباً، وعليه أصبحت الفطرة بينة التوحيد وشاهده في أنفس الموحدين. فلا جرم أن الفطر يقتضي: عبادة الفاطر، وأن من كان مفطورًا مخلوقًا فحري به أن يتفرغ لعبادة فاطره وخالقه لا سيما إذا كان أمره بيده ومنتهاه إليه، قال سبحانه: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

ومن هنا استحال جواز الشرك في الفطر السليمة والعقول المستقيمة ولو لم يرد بذلك خبر، كيف وقد أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب لتقرير ما استودع سبحانه في فطر خلقه من حسن التوحيد وحل الطيبات، ومن قبح الشرك وحرمة الخبائث.

وبهذا تكون الفطرة حجة مستقلة في بطلان الشرك، فهي أسبق من كافة الحجج الواهية وسائر المعاذير الساقطة التي يتشبث بها المشركون.

قال ابن القيم: (قوله تعالى حاكيًا عن صاحب يس أنه قال لقومه محتجًا عليهم بما تقر به فطرهم وعقولهم: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فتأمل هذا الخطاب كيف تجد تحته أشرف معنى وأجله، وهو أن كونه سبحانه فاطرًا لعباده يقتضي عبادتهم له، وأن من كان مفطورًا مخلوقًا فحقيق به أن يعبد فاطره وخالقه، ولا سيما إذا كان مرده إليه، ومبدؤه منه، ومصيره إليه، وهذا يوجب عليه التفرغ لعبادته، ثم احتج عليهم بما تقر به عقولهم وفطرهم من قبح عبادة غيره، وأنها أقبح شيء في العقل وأنكره، فقال: (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، أفلا تراه كيف لم يحتج عليهم بمجرد الأمل بل احتج عليهم بالعقل الصحيح ومقتضى الفطرة).

وقال في موضع آخر: (وقال تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لقومه: (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

أي فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره … فإن إدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر جوازه، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح … ).

فالشرك مخالف للفطرة لا محالة، والذي يزيد هذا البيان وضوحًا ما يلي:

1 – لجوء الإنسان وفزعه إلى خالقه سبحانه، سواء كان هذا الإنسان موحدًا أو مشركًا عند الشدة والحاجة.

فإن بني آدم جميعًا يشعرون بحاجتهم وفقرهم، وهذا الشعور أمر ضروري فطري، إذ الفقر وصف ذاتي لهم، فإذا ألمت بالإنسان ـ حتى المشرك ـ مصيبة قد تؤدي به إلى الهلاك فزع إلى خالقه والتجأ إليه وحده واستغنى به ولم يستغن عنه، وشعور هذا الإنسان بحاجته وفقره إلى ربه تابع لشعوره بوجوده وإقراره، فإنه لا يتصور أن يشعر الإنسان بحاجته وفقره إلى خالقه إلا إذا شعر بوجوده، وإذا كان شعوره بحاجته وفقره إلى ربه أمرًا ضرورياً لا يمكنه دفعه، فشعوره بالإقرار به أولى أن يكون ضروريًا.

قال الله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

وقال تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا).

وقال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ).

فرجوع الإنسان وإنابته إلى ربه عند الشدائد دليل على أنه يقر بفطرته بخالقه وربه سبحانه، وأنه لا يرضى بالشرك، وهكذا كل إنسان إذا رجع إلى نفسه أدنى رجوع عرف افتقاره إلى الباري سبحانه في تكوينه في رحم أمه وحفظه له، وعرف كذلك افتقاره إليه في بقائه وتقلبه في أحواله كلها وتبقى هذه المعرفة في نفسه حجة قوية لأن الحاجة استلزمتها، فتكون أوضح من الأدلة الكلية مثل افتقار كل حادث إلى محدث.

2 – التصريح بأن الفطرة مقتضية للإقرار بالخالق وتوحيده وحبه، ومخالفة الشرك وقبحه في الأدلة السمعية، وقد سبق معنا الأدلة الدالة على هذا القول.

3 – ورود التكليف بتوحيد العبادة أولاً، كأن هذا تذكير لما فطروا عليه من ذبح الشرك. فإنه لم يكن الإقرار بالله جل وعلا وبربوبيته فطريًا، والشرك مخالفاً للفطرة لساغ لمعارضي الرسل عند دعوتهم لهم بقول الله تعالى: (فَاعْبُدُونِ) أن يقولوا: نحن لم نعرفه أصلاً فكيف يأمرنا؟ فلما لم يحدث ذلك دل على أن الفطرة مخالفة للشرك (في الربوبية)، وأن المعرفة كانت مستقرة في فطرهم. فإن الأمر بتوحيده في عبادته فرع الإقرار به وبربوبيته فيكون بعده.

4 – إلزام المشركين بتوحيد الربوبية ليقروا بتوحيد الألوهية.

ووجه الدلالة: إنه لو لم يكن المشركون مقرين بربوبية الله وبقبح الشرك على مقتضى فطرتهم لما ألزمهم بالإقرار بألوهيته.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (فدل على أنه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين به … ).

فهذه كلها أدلة صحيحة على أن الخلق مفطورون بالإقرار بالله سبحانه والشرك مخالف لهذه الفطرة الصحيحة.

الشرك مخالف للعقل

إن الله ـ جل في علاه ـ قد منَّ على عباده بمنة جليلة ونعمة عظيمة، بها يسمون على كافة المخلوقات إن عملوا بواجبها، وبها يردون إلى أسفل سافلين إن خرجوا عن موجبها، ونقضوا مقتضاها، ألا وهي نعمة العقل. وأراد المنان بمنِّ نعمة العقل على الإنسان الضعيف تقويته على إدراك الآثار الربانية والمطالب الإلهية، ومن ثم جعل حجة مستقلة عليه في بطلان الشرك، وكذا جعل مستندًا من مستندات السمع، وبها قامت حجة الله على خلقه.

قال الإمام ابن القيم: (فإن الله سبحانه ركب العقول في عباده ليعرفوا بها:

صدقه وصدق رسله، ويعرفوه بها، ويعرفوا كماله وصفاته، وعظمته وجلاله، وربوبيته وتوحيده، وأنه الإله الحق وما سواه باطل، فهذا هو الذي أعطاهم العقل لأجله بالذات والقصد الأول، وهداهم به إلى مصالح معاشهم التي تكون عوناً لهم على ما خلقوا لأجله، وأعطوا العقول له، فأعظم ثمرة العقل: معرفته لخالقه وفاطره، ومعرفة صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله، وصدق رسله، والخضوع والذل والتعبد له).

ومن ثم كان العقل كافياً في معرفة الله وتوحيده، وكذا بطلان الشرك وقبحه ولو لم يرد بذلك شرع، فالإيمان بالله وحده والابتعاد عن الشرك وكل ما يعبد من دون الله مستقر في الفطر والعقول، بل هو أرسخ وأثبت مرتكزاتهما، وبهذا كان العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك ولو لم يأت بحرمته شرع.

فإن النقل والعقل خرجا من مشكاة واحدة، وجاء النقل ليخاطب العباد بمرتكزات العقل ويقيم موجبه، ويفصّل مجمله، ويبين ما عجز عن إدراكه، ولم يأت قط بمحالاته، ولا بضد تصوراته وموازينه.

وإليك براهين ما سبق من الكتاب والسنة، بفهم فحول أهل العلم، ونظار أهل السنة:

قال القرطبي في قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً): (أجمع العلماء على أن: هذه الآية من المحكم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ، وكذلك هي في جميع الكتب؛ ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب).

وقال ابن القيم: (قال تعالى: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، ولم يقل: إلهكم، والرب: هو السيد والمالك والمنعم والمربي والمصلح، والله تعالى هو الرب بهذه الاعتبارات كلها، فلا شيء أوجب في العقول والفطر من عبادة من هذا شأنه وحده لا شريك له).

والمراد بالوجوب هنا: استحالة قبول العقول المجبولة ـ من قبل فاطرها ـ الشرك به سبحانه ولو لم يرد بذلك شرع، ومن ثم كان العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك.

وقال ـ رحمه الله ـ في قوله تعالى: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي): (أخرج الحجة عليهم في معرض المخاطبة لنفسه تأليفًا لهم، ونبه على أن عبادة العبد لمن فطره أمر واجب في العقول، مستهجن تركها، قبيح الإخلال بها، فإن خلقه لعبده أصل إنعامه عليه، ونعمه كلها بَعْدُ تابعة لإيجاده وخلقه، وقد جبل الله العقول والفطر على شكر المنعم، ومحبة المحسن، ولا يلتفت إلى ما يقوله نفاة التحسين والتقبيح في ذلك فإنه من أفسد الأقوال وأبطلها في العقول والفطر والشرائع).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكثير من هؤلاء ـ أي الذين يظنون أن العقل غير مستقل بإدراك التوحيد ـ يعتقدون أن في ذلك ما لا يجوز أن يعلم بالعقل كالمعاد وحسن التوحيد والعدل وقبح الشرك والظلم والكذب، والقرآن يبين الأدلة العقلية الدالة على ذلك، وينكر على من لم يستدل بها؛ ويبين أنه بالعقل يعرف بالمعاد، وحسن عبادته وحده، وحسن شكره، وقبح الشرك وكفر نعمه، كما قد بسطت الكلام على ذلك في مواضع).

وقال ـ رحمه الله ـ في قوله تعالى: (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) ـ إلى قوله تعالى ـ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) أي وخلق ما تنحتون، فكيف يجوز أن تعبدوا ما تضعون بأيديكم وتدعون رب العالمين؟ فلولا أن حسن التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر معلوم بالعقل لم يخاطبهم بهذا؛ إذ كانوا لم يفعلوا شيئًا يذمون عليه).

وقال ابن القيم في تفسير هذه الآية: (فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه ـ الشرك ـ تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر جوازه، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح).

وقال ـ رحمه الله ـ في قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ): (أي لو كان في السموات والأرض آلهة تعبد غير الله لفسدتا وبطلتا، ولم يقل (أرباب) بل قال: (آلهة) ـ والإله هو المعبود والمألوه ـ وهذا يدل على أنه من الممتنع المستحيل عقلاً أن يشرع الله عبادة غيره أبدًا، وأنه لو كان معه معبود سواه لفسدت السموات والأرض، فقبح عبادة غير الله قد استقر في الفطر والعقول وإن لم يرد بالنهي عنه شرع، بل العقل يدل على أنه أقبح القبيح على الإطلاق، ومن المحال أن يشرعه الله قط، … ).

فحسن التوحيد وعدم جواز الشرك من أثبت الثوابت وأركز المرتكزات في الفطر والعقول، ومن ثم استحال جواز الشرك فيهما ما دامت السماء سماءً والأرض أرضًا، فحسن التوحيد وقبح الشرك حقيقة ثابتة راسخة، ولو لم ترسل الرسل وتنزل الكتب، فالعقل قاطع بوجوب عبادة الفاطر الخالق، المربي المنعم، المالك لجلب النفع، ولدفع الضر، وكذا يقطع بحرمة عبادة كل مخلوق مربوب محدث والشرك معه.

وقد هيأ الله العقول للقيام بالبراهين الباهرة والحجج الدامغة والأدلة الدالة على تلك الحقيقة التي كانت سببًا لانبثاق كافة الحقائق؛ وبهذا كانت الفطر والعقول من أقوى مستندات النبيين والمرسلين على الملحدين والمشركين، وبذلك أصبح العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك، ولو لم يرد بحرمته شرع، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم في هذا الصدد: (وهذا ـ أي فطر الذرية على التوحيد ـ يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا).

المصدر

كتاب: “الشرك في القديم والحديث” أبو بكر محمد زكريا، ص10403-10417.

اقرأ أيضا

هل يمكن أن يستغني العقل عن الوحي

مجال العقل البشري وحاجة البشر إلى الرسالة

مجالات تسليم العقل للنصوص

التعليقات غير متاحة