لازال المسلمون الواعون في الأرض كلها يعنون بدراسة آثار الشيخ ومؤلفاته، وآثار أولاده وأحفاده وأتباعه، فيجدون فيها من تجريد التوحيد وحماية حماه من الطرق والذرائع الموصلة إلى الشرك، وتوضيح شرك الأفعال، وشرك الألفاظ، وشرك الإرادة، وشرك العبادة، وشرك الحاكمية، مالا يجدون في غيرها.

علماء مجددون

جرت كلمة الله النافذة بأن تكون رسالة الإسلام هي الرسالة الخالدة والخاتمة، فلا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ولأن هذه الأمة سبق لها في القدر البقاء إلى قيام الساعة، ولأن نبيها خاتم الأنبياء والمرسلين، اقتضت حكمة الله تعالى أن يبعث لهذه الأمة مجددين من العلماء الربانيين يجددون لها دينها، ويعيدونها إلى سنة نبيها صلى الله عليه وسلم كلما فرقتهم الانحرافات والأهواء وابتعدت بهم البدع والضلالات عن الحجة البيضاء، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها1(1) [رواه أبوداود (4291) وصححه الألباني]..

فكان من المجددين الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، مجدد المئة الأولى بلا منازع، المتوفي سنة 101ه والذي وصل ما انقطع من سيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.

الإمام محمد بن عبدالوهاب

وكان من هؤلاء المجددين في العصر الحديث الإمام محمد بن عبدالوهاب، مجدد رأس المئة الثانية عشرة للهجرة، والمثول سنة 1206 ه.

وهو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن مشرف التميمي.

ولد في مدينة العيينة، سنة 1115ه. تفقه على يد أبيه الشيخ عبد الوهاب بن سليمان – وكان فقيها كبيرا وعالما قديرا، وكان قاضيا في بلدة العيينة- وقد حفظ الإمام القرآن قبل بلوغ العاشرة من عمره، وكان حاد الفهم وقاد الذهن دكي القلب سريع الحفظ، ولا بلغ توجه إلى مكة لأداء فريضة الحج، ثم توجه إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فاجتمع بعلمائها، وأقام فيها مدة، وأخذ من عالمين كبيرين مشهورين

في المدينة ذلك الوقت، وهما: الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي، وأخذ أيضا عن الشيخ الكبير محمد حياة السندي.

ورحل في طلب العلم إلى البصرة، واشتهر من مشايخه هناك الشيخ محمد المجموعي، ثم رحل إلى الأحساء، ثم إلى حريملاء بعد أن استقر أبوه فيها، وقد درس كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الشيخ الإمام ابن القيم رحمهما الله حتى استوعبهما وأتقنهما ووجد فيهما الفهم الصحيح لنصوص الكتاب والسنة.

بدأ الشيخ دعوته في حريملاء ثم في العيينة ثم في الدرعية مخاطبا فيها جمهور الناس كما يخاطب رؤوسهم داعيا إلى نبذ البدع، وتحكيم الشرع، وإقامة الكتاب والسنة، حتى حقق الله له ما أراد، وأقام کيانا سياسيا على أساس من تعاليم الإسلام، بدأ في التوسع شيئا فشيئا، حتى استتم بلاد نجد كلها، ثم الحجاز، إلى أن اصطدمت جيوش الدعوة الغطة بقوات محمد على المجهزة بأحدث الوسائل العصرية، فأخرت سير الدعوة ولكنها لم تستطع أن تحول بين أنوارها وبين المسلمين.

توفي الشيخ بالدرعية، ودفن في مقبرة الطريف، بعد أن عمل في الدعوة أكثر من خمسين سنة، بذل فيها قصارى جهده ..

ثناء العلماء عليه

أكثر العلماء السلفيون والمؤرخون المحققون من الثناء على الشيخ، والتنويه بدعوته القائمة على دعائم الكتاب والسنة، ومن هؤلاء العلماء:

الشيخ العلامة: محمد بن علي الشوكاني، مؤلف “نيل الأوطار”، رثى الشيخ وأثنى عليه في قصيدة جاء فيها:

لقد مات طود العلم قطب رحى العلا     ومركز أدوار الفحول الأفاضل

ماتت علوم الدين طرا بموته            وغيب وجه الق تحت الجنادل

إلى أن قال:

(محمد) ذو المجد الذي عز دركه      وجل مقامنا عن لحوق المطاول

إلى عابد الوهاب يعزى وإنه          سلالة إنجاب زكي الخصائل

عليه من الرحمن أعظم رحمة        تبل ثراء بالضحى والأصائل

إلى أن قال:

أفق يا معيب الشيخ ماذا تعيبه      لقد عبت حقا وارتحلت بباطل

أفيقوا أفيقوا إنه ليس داعيا         إلى دين آباء له وقبائل

دعا لكتاب الله والسنة التي        أتانا بها طه النبي خير قائل2(2) [من كتاب: محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه، ص(84-83)] .

علامة العراق، السيد محمود شكري الألوسي، قال في آخر تاريخه لنجد:

(..وكان شديد التعصب للسنة، كثير الإنكار على من خالف الحق من العلماء.

والحاصل: أنه كان من العلماء الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وكان يعلم الناس الصلاة وأحكامها، وسائر أركان الدين، ويأمر بالجماعات.

وقد جد في تعليم الناس، وحثهم على الطاعة وأمرهم بتعلم أصول الإسلام، وشرائطه، وسائر أحكام الدين، وأمر جميع أهل البلاد بالمذاكرة في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح، وبين العشائين، بمعرفة الله، ومعرفة دين الإسلام، ومعرفة أركانه، ومعرفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونسبه ومبعثه وهجرته.

وأول ما دعا إليه كلمة التوحيد، وسائر العبادات التي لا تنبغي إلا الله، كالدعاء، والذبح، والنذر، والخوف، والرجاء، والخشية، والرغبة، والتوكل، والإنابة، وغير ذلك)3(3) [تاريخ نجد ص(114)]..

السيد محمد رشيد رضا، قال:

(الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

لم يحلل قرن من القرون التي تكثر فيها البدع من علماء ربانيين، يجددون لهذه الأمة أمر دينها بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، و تأويل الجاهلين، كما ورد في الأحاديث. ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي، من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وترك البدع والمعاصي وإقامة شعائر الإسلام المتروكة وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة)4(4) [قاله في التعريف بكتاب صيانة الإنسان، ص(6-7)]..

الزركلي، قال في” الأعلام”.

(محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي: زعيم النهضة الدينية الإصلاحية الحديثة في جزيرة العرب… ناهجا منهج السلف الصالح، وداعيا إلى التوحيد الخالص ونبذ البدع، وتحطيم ما علق بالإسلام من الأوهام.

وكانت دعوته، الشعلة الأولى لليقظة الحديثة في العالم الإسلامي كله، تأثر بها رجال الإصلاح، في الهند، ومصر، والعراق، والشام، وغيرها)5(5) [انظر الأعلام (6/257)]..

الشيخ علي الطنطاوي، قال في كتابه: “محمد بن عبد الوهاب”.

(وكان العلماء قلة، والحكام عتاة ظلمة، والناس فوضى يغزو بعضهم بعضا، ويعدو قويهم على ضعیفهم، في تلك البيئة نشأ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فرأى شمس الإسلام إلى أفول، ورأی ظلمة الكفر إلى امتداد وشمول.

وأراد الله له الخير، فقدر له أن يكون أحد الذين أخبر الرسول أنهم يعملون ليجددوا لهذه الأمة دينها، بل لقد كان أحق بهذا الوصف من كل من وصف به في تاريخنا.

فقد حقق الله على يديه عودة نجد إلى التوحيد الصحيح، والدين الحق والألفة بعد الاختلاف، والوحدة بعد الانقسام.

ولا أقول: إن الرجل كامل، فالكمال لله، ولا أقول إنه معصوم فالعصمة للأنبياء، ولا أقول: إنه عار عن العيوب والأخطاء.

ولكن أقول: إن هذه اليقظة التي عمت نجدا، ثم امتدت حتى جاوزته إلى أطراف الجزيرة، ثم إلى ما حولها، ثم امتدت حتى وصلت إلى آخر بلاد الإسلام، ليست إلا حسنة من حسناته عند الله إن شاء الله)6(6) [من كتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب، ص(66) وما بعدها]..

وأثنى عليه غيرهم كثير، من علماء الجزيرة وفارس ومصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، فقد بلغت دعوة الشيخ أقاصي بلاد الإسلام برغم ما لاقته من حرب ضروس داخل الجزيرة، ولكن أبى الله إلا أن تنتشر هذه الدعوة المباركة في الآفاق لما حملته من دعوة الناس إلى التوحيد الخالص الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).

أما العلماء الذين أثنوا على الشيخ وهم من مدرسته فلا يحصون كثرة، وفي مقدمتهم أحفاد الشيخ، والعلامة السعدي، ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن حميد، والشيخ ابن عثيمين وشيخنا عبد الله البسام -رحمهم الله جميا-، وقد درست عليه كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب.

ماذا قال المستشرقون عن دعوة الإمام؟

بل إن الشهادة بأن الشيخ دعا إلى الإسلام الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تجاوزت علماء الأمة ودعاتها إلى المستشرقين، والذين تحدث بعضهم بإنصاف وواقعية عن دعوة الشيخ، والحق ما شهدت به الأعداء، ونورد هنا بعض آرائهم في دعوة الشيخ علي سبيل الذكر لا الحصر:

1- قال برنادلوس وهو عالم فرنسي من المستشرقين، في كتاب: “العرب في التاريخ” ما يلي:

(وباسم الإسلام الخالي من الشوائب الذي ساد في القرن الأول نادى محمد بن عبد الوهاب بالابتعاد عن جميع ما أضيف للعقيدة والعبادات من زيادات، باعتبارها بدع خرافية غريبة عن الإسلام الصحيح)7(7) [من كتاب: محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه، ص (114)]..

2- قال شيخ المستشرقين: جولد سيهر وهو مستشرق نمساوي، في كتابه: “العقيدة والشريعة”، ما يلي:

(وإذا أردنا البحث في علاقة الإسلام السني بالحركة الوهابية تجد أنه مما يسترعي انتباهنا خاصة من وجهة النظر الخاصة بالتاريخ الديني الحقيقة التالية: يجب على من ينصب نفسه للحكم عن الحوادث الإسلامية أن يعتبر الوهابيين أنصارا للديانة الإسلامية على الصورة التي وضعها النبي والصحابة، فغاية الوهابية في إعادة الإسلام كما كان)8(8) [من كتاب: دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب سلفية لا وهابية، ص(43)]..

3 – جاء في دائرة المعارف البريطانية، وهي تتكلم عن الوهابية، ما يلي:

(الوهابية: اسم لحركة التطهير في الإسلام. والوهابيون: يتبعون تعاليم الرسول وحده، ويهملون كل ما سواها، وأعداء الوهابية هم أعداء الإسلام الصحيح)9(9) [بواسطة كتاب: الدعوة الإصلاحية في بلاد نجد على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب وأعلامها من بعده، ص : (99)]..

من منهجية دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب

قال محمد بن عبد الوهاب: (لست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق)10(10) [مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب – القسم الخامس (الرسائل الشخصية) ص(252)] ..

كانت دعوة الأمام دعوة ربانية متجردة، ولذلك لم تحطمها الضربات الشرسة التي وجهت إليها، ولا زالت تؤثر في وجدان الجماهير الإسلامية على الرغم من عداء كثير ممن يجهلونها أو يتجاهلون حقيقتها.

ولازال المسلمون الواعون في الأرض كلها يعنون بدراسة آثار الشيخ ومؤلفاته، وآثار أولاده وأحفاده وأتباعه، فيجدون فيها من تجريد التوحيد وحماية حماه من الطرق والذرائع الموصلة إلى الشرك، وتوضيح شرك الأفعال، وشرك الألفاظ، وشرك الإرادة، وشرك العبادة، وشرك الحاكمية، مالا يجدون في غيرها.

ليس لأن الشيخ جاء بجديد من عنده، ولكن لأن الدعوة التجديدية تعني بکشف الجوانب التي تتسع فيها شقة الإنحراف، وتحيي ما اندرس من معالم الدين، وتعالج مشاكل الناس الواقعية على ضوء الكتاب والسنة.

رحم الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وألحقه بالذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

الهوامش

(1) [رواه أبوداود (4291) وصححه الألباني].

(2) [من كتاب: محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه، ص(84-83)] .

(3) [تاريخ نجد ص(114)].

(4) [قاله في التعريف بكتاب صيانة الإنسان، ص(6-7)].

(5) [انظر الأعلام (6/257)].

(6) [من كتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب، ص(66) وما بعدها].

(7) [من كتاب: محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه، ص (114)].

(8) [من كتاب: دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب سلفية لا وهابية، ص(43)].

(9) [بواسطة كتاب: الدعوة الإصلاحية في بلاد نجد على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب وأعلامها من بعده، ص : (99)].

(10) [مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب – القسم الخامس (الرسائل الشخصية) ص(252)] .

اقرأ أيضا

الشيخ عبد العزيز البدري.. ذو الأربعين عاما

من أعلام الأمة المعاصرين .. الشيخ أحمد محمد شاكر

واجه الصهاينة والشيوعيين ودعاة تحرير المرأة .. الشيخ حسنين مخلوف

من بقايا العلماء الأولين .. الشيخ عبد العزيز بن باز

 

التعليقات غير متاحة