العلم موهبة ومحصلة لجهد وتعب. ولكن إذا لم يُحسن حامله توصيله للخلق كان تأثيره ضعيفا، وإن أحسن طرق الدعوة ووسائلها عظم الأثر الخيّر له. وفي شخصية الشيخ ” محمد بن عبد الوهاب” جوانب مُثرية للدعوة.

مقدمة

حظيت دعوة محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ بدراسات كثيرة، وبحوث متنوعة، سواء كانت تلك الدراسات والبحوث في سيرة وترجمة صاحب هذه الدعوة، أو بيان مؤلفاته وآثاره العلمية، أو عرض لمنهجه في تقرير العقيدة، ومنها ما يتحدث عن أثر هذه الدعوة المباركة داخل الجزيرة العربية أو خارجها، ونوعية هذه الآثار سياسية كانت أو علمية أو اجتماعية.. وغيرها.

ومع هذا الكم من الدراسات إلا أن هناك جوانب مهمة لم تأخذ حقها من الدراسة والتحليل، وفي هذه المقالة سأتعرض لأحد هذه الجوانب المهملة من حياة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهو جانب الدعوة، وبيان فقهه للدعوة، وأساليبها.

إن في كتب محمد بن عبد الوهاب عموماً ورسائله الشخصية (1قامت جامعة الإمام محمد بن سعود بجمع هذه الرسائل في مجلد مستقل، وذلك ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي تولت الجامعة ترتيبها وطبعها، أثناء انعقاد أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة 1400 هـ في الرياض) خصوصاً والتي يبعثها إلى البلدان والعلماء والأمراء؛ معالم مهمة يحتاج إليها الكثير من الدعاة إلى الله في هذا الزمان.

معالم في الدعوة الى الله

وضوح الهدف والغاية

يركز الشيخ محمد بن عبد الوهاب كثيراً على بيان وضوح هدفه وغايته من هذه الدعوة فهو يدعو إلى الله وحده لا شريك له، مخلصاً له الدين، ويحرص أيما حرص على اتباع الحق مهما كانت الأحوال.

يقول رحمه الله:

“ولست ـ ولله الحمد ـ أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظّمهم مثل ابن القيم، والذهبي، وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، التي أَوْصى بها أوّلَ أمته وآخرَهم، وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلها على الرأس والعين. (2الدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/ 32)

ويقول عن قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحَانَ اللَّهِ ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]

“التنبيه على الإخلاص، لأن كثيراً لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه”. (3كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد/ باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله)

إن هذه الحقيقة البديهية وهي أن يدعو الشخص إلى الله لا إلى نفسه لا بد من استحضارها في جميع أحوالنا، بالإخلاص. وكم نغفل عن هذه الحقيقة، فيدعو الشخص إلى ما هو حق وصدق في ذاته، ولكن القصد هو مصلحة جماعة أو فرد أو نحوهما مما هو من حظوظ النفس. وربما كان هذا القصد مشوباً بالإخلاص لله..!! وقد يغيب عن الكثير أن هذه الدعوة لله وحده لا شريك له، أياً كان هذا الشريك.

ونلمس كما هو ظاهر من خلال النص الأول من كلام الشيخ، حرصه على اتباع الحق والبحث عنه ونجده مرة أخرى يقول ـ مخاطباً أحد سائليه:

“وأنا أجيبك عن الكتاب جملة، فإن كان الصواب فيه فنبهني وأرجع (أي وسأرجع) إلى الحق.. فالواجب على المؤمن أن يدور مع الحق حيث دار». (4الدرر السنية 3/ 181)

إن التجرد في طلب الحق، واتباع الدليل والبرهان من أهم صفات الدعاة إلى الله السائرين على منهج سيد المرسلين محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وكم يحزن المسلم عندما يرى دعاة قد تحكّمت بهم قناعات وآراء بلا دليل أو برهان فلا يقبلون لها صرفاً ولا عدلاً.

وهكذا ندرك أن الشيخ قد صدق مع الله، وأخلص قصده لوجه الله، واتبع الحق حيث دار، ومن ثَم وفقه الله، وحظيت دعوته بالتمكين، ونالت القبول في كثير من البلاد والعباد.

الحكمة ومراعاة أحوال الناس

وفق الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب لاستعمال الحكمة في دعوته، فنجده مراعياً أحوال الناس، ومنازلهم، ومدى قربهم من الحق أو عكسه، ومن ثم يتنوع أسلوبه في الدعوة حسب حال المدعو ومكانته. فعندما يخاطب أمير العُيينة عثمان بن معمر ـ والذي ناصر الدعوة في أول أمرها ـ يخاطبه بأسلوب فيه ترغيب وتحبيب فيقول: «إني أرجو إن قمت بنصر لا إله إلا الله أن يظهرك الله تعالى، وتملك نجداً وأعرابها». (5عنوان المجد في تاريخ نجد 1/ 38)

ويخاطب شيخه “عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف” الأحسائي بأسلوب تظهر فيه المحبة وصدق المودة فيقول له:

«فإني أحبك، وقد دعوت لك في صلاتي، وما أحسنك لو تكون في آخر هذا الزمان فاروقاً لدين الله تعالى كعمر رضي الله عنه». (6الدرر السنية 1/ 35)

أما عن أعداء هذه الدعوة السلفية ممن شرِقَ بها، فأظهروا العداوة والصد عن دين الله، فنجد أن الشيخ يخاطبهم وبما يناسب حالهم بأسلوب فيه شدة وغلظة، بعد أن استعمل معهم أسلوب اللين والملاطفة؛ يقول الشيخ مخاطباً أحد مراسليه عند الحديث عن خصومه:

“هذا ابن إسماعيل والمويس وابن عبيد جاءتنا خطوطهم في إنكار دين الإسلام، وكاتبناهم، ونقلنا لهم العبارات، وخاطبناهم بالتي هي أحسن وما زادهم ذلك إلا نفوراً». (7مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (الرسائل الشخصية) 5/ 300)

ويقول عن عبد الحق المويس بالذات:

«استدعيته أولاً بالملاطفة، وصبرت منه على أشياء عظيمة». (8المرجع السابق 5/ 141)

فلما ظهرت عداوتهم، ولم ينفع معهم الأسلوب اللين، استعمل الشيخ معهم الشدة والحزم، فها هو يقول عن أحد خصومه الألداء وهو ابن سحيم:

“لولا أن الناس إلى الآن ما عرفوا دين الرسول، وأنهم يستنكرون الأمر الذي لم يألفوه، لكان شأنٌ آخر، بل والله الذي لا إله إلا هو لو يعرف الناس الأمر على وجهه، لأفتيت بحل دم ابن سحيم وأمثاله، ووجوب قتالهم، كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم، لا أجد في نفسي حرجاً من ذلك». (9المرجع السابق 5/ 315)

ويخاطب ابن سحيم قائلاً له:

“ولكن أنت رجل جاهل مشرك مبغض لدين الله، وتُلبّس على الجهال». (10المرجع السابق 5/ 233)

لقد كان الشيخ رحمه الله حاد المزاج (11المرجع السابق 5/ 134) وقد صرف حدته في مكانها الصحيح، فجعلها في الانتصار لدين الله، والغيرة على محارم الله، والعداوة والبراءة من الشرك وأهله.

فقه النفوس

ويظهر فقه الشيخ محمد بن عبد الوهاب لنفوس المخاطبين والمدعوين، ويدرك ما قد يعتري النفس البشرية ـ أحياناً ـ من استعلاء، واستكبار عن قبول حقٍ جاء من شخص لا تميل إليه تلك النفس، فيخاطب تلك النفوس ويوجهها إلى التضرع إلى الله وسؤاله الهداية فيما اختُلف فيه من الحق، ومرة يخاطبها بالرجوع إلى كتب أهل العلم دون الرجوع إليه، ومرة ثالثة يرشدها إلى تدبر آيات القرآن الكريم.

يقول رحمه الله مخاطباً أحد مراسليه:

“وإن أردت النظر في أعلام الموقعين فعليك بالمناظرة في أثنائه بين مقلد وصاحب حجة، وإن لقي ذهنك أن ابن القيم مبتدع (12المرجع السابق 5/ 315)

وأن الآيات التي استدل بها ليست هذا معناها، فاضرع إلى الله، واسأله أن يهديك لما اختلفوا فيه من الحق، وتجرد ناظراً ومناظراً”. (13هذا الكلام على سبيل التنزل مع المخاطب)

ويقول في موضع آخر:

“وبالجملة فالذي أُنكره: الاعتقاد في غير الله مما لا يجوز لغيره، فإن كنتُ قلته من عندي فارم به، أو من كتاب لقيتُه ليس عليه عمل فارم به كذلك، أو نقلته عن أهل مذهبي فارم به، وإن كنت قلته عن أمر الله ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعما أجمع عليه العلماء في كل مذهب فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُعرض عنه لأجل أهل زمانه أو أهل بلده». (14الدرر السنية 1/ 36)

ويقول أيضاً:

“إني أذكر لمن خالفني أن الواجب على الناس اتباع ما وصى به النبي، صلى الله عليه وسلم، أمته، وأقول لهم: الكتب عندكم، انظروا فيها، ولا تأخذ من كلامي شيئاً، لكن إذا عرفتم كلام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي في كتبكم فاتبعوه، ولو خالفه أكثر الناس”. (15الدرر السنية 1/ 52-53)

ويقول:

“وإن صعُب عليك مخالفة الكبْر، أو لم يقبل ذهنك هذا الكلام فأحضِر بقلبك إن كتاب الله أحسن الكتب، وأعظمها بياناً وشفاء لداء الجهل، وأعظمها فرقاً بين الحق والباطل، والله سبحانه قد عرف تفرّق عباده واختلافهم قبل أن يخلقهم، وقد ذكر في كتابه: ﴿ومَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وهُدًى ورَحْمَةً﴾ وأحضِر قلبك هذه الأصول وما يشابهها في ذهنك، واعرضها على قلبك فإنه إن شاء الله يؤمن بها على سبيل الإجمال». (16الدرر السنية 1/ 59)

أرأيت إلى هذا التجرد في تبليغ ما هو حق، وكمال النصح والإشفاق على المدعوين، وانظر إلى إهماله ذاته من أجل دين الله ونصرته، إضافة إلى سَبْره لأحوال النفوس وإدراك حقائقها وصفاتها.

الاهتمام بما ينفع الدعوة

يلاحظ من خلال رسائله الشخصية أن الشيخ مهتم بما قد يراه نافعاً ومجدياً لمصلحة الدعوة فمن ذلك إثارة النخوة في نفس المخاطب، فهو يحاول إقناع مخاطبه بقوله:

“إن لك عقلاً، وإن لك عرضاً تَشِح به، وإن الظن فيك إن بان لك الحق أنك ما تبيعه بالزهايد (17الدرر السنية 1/ 38 ـ 39) ويستثير همم أهل شقراء ضد خصوم الدعوة …بقوله: «والله العظيم إن النساء في بيوتهن يأنفن لكم، فضلاً عن صماصيم بني زيد ». (18روضة الأفكار 11/ 107)

حسن الحجة بحسب المخاطَب

تميز الشيخ بقوة حجته وعلى حسب حال المخاطَب، كما يظهر فقه الشيخ لأساليب المناظرة والإقناع للخصم. فمن ذلك قوله رحمه الله:

“أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي والشافعي والحنبلي كلاً أخاصمهم بكتب المتأخرين من علماء مذهب الذين يعتمد عليهم». (19مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (الرسائل الشخصية) 5/ 292 وانظر بحث ” الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب ” للدكتور عبد الله العثيمين ضمن بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب)

وكم وقع ويقع في هذا الوقت من صد عن دين الله وافتتان عن معرفته والتزام الصراط المستقيم، وذلك بسبب ضعف حجة أهل الحق، وهزالهم العلمي.

ويقول أيضاً معقباً على رسالة بعثها أحدهم إليه:

“قولك في الدليل على إثبات نبوة محمد، صلى الله عليه وسلم، ودليله الكتاب والسنة، ثم ذكرتَ الآيات، كلام من لم يفهم المسألة، لأن المنكر للنبوة أو الشاك فيها إذا استدللت عليه بالكتاب والسنة، يقول: كيف تستدل بشيء عليّ ما أتى به إلا هو، والصواب في المسألة أن تستدل عليه بالتحدي بأقصر سورة من القرآن، أو شهادة علماء أهل الكتاب». (20الدرر السنية 1/ 56)

خاتمة

وأخيراً، فإني أؤكد أن في الرسائل الشخصية لهذا الإمام، الكثير من المعالم المهمة والوقفات الجيدة.

فقد جعل تعالى في هذه الأمة أعلاما وأئمة يهدون بالحق وبه يعدلون؛ جعل تعالى فيهم من الأسوة وموضع القدوة ما يكون هاديا لغيرهم، ومحفزا للخير وباعثا عليه.

……………………………………..

  1. قامت جامعة الإمام محمد بن سعود بجمع هذه الرسائل في مجلد مستقل، وذلك ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي تولت الجامعة ترتيبها وطبعها، أثناء انعقاد أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة 1400 هـ في الرياض.
  2. الدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/ 32.
  3. كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد/ باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
  4. الدرر السنية 3/ 181.
  5. عنوان المجد في تاريخ نجد 1/ 38.
  6. الدرر السنية 1/ 35.
  7. مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (الرسائل الشخصية) 5/ 300.
  8. المرجع السابق 5/ 141.
  9. المرجع السابق 5/ 315.
  10. المرجع السابق 5/ 233.
  11. المرجع السابق 5/ 134.
  12. المرجع السابق 5/ 315.
  13. هذا الكلام على سبيل التنزل مع المخاطب.
  14. الدرر السنية 1/ 36.
  15. الدرر السنية 1/ 52-53.
  16. الدرر السنية 1/ 59.
  17. الدرر السنية 1/ 38 ـ 39.
  18. روضة الأفكار 11/ 107.
  19. مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (الرسائل الشخصية) 5/292 وانظر بحث ” الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب ” للدكتور عبد الله العثيمين ضمن بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
  20. الدرر السنية 1/ 56.

المصدر:

  • عبد العزيز آل عبد اللطيف، مجلة البيان جمادى الأولى – 1411هـ، ديسمبر ـ 1990م، (السنة: 5).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة