دين الإسلام هو دين اليسر ورفع الحرج والمشقة، وكل أحكامه وتشريعاته مصلحة وخير ورحمة للعباد، وكلها جاءت لتكون حياة الناس ميسرة وسعيدة في الدنيا والآخرة إن هم أخذوا بها.

موازين الناس في التيسير والوسطية

تتسم هذه الموازين إما بصفة الجهل، أو صفة الهوى والظلم ؛ هاتان الصفتان اللتان هما من صفات الإنسان المعرض عن الاهتداء بنور الله عز وجل ، ووحيه المبرء من الجهل والهوى؛ قال الله عز وجل عن الإنسان. (كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 72]، ولا وسيلة له للتخلص من الظلم والجهل إلا بالعلم بوحي الله عز وجل والانقياد له. وكلما بعد الإنسان عن هذا الوحي المبارك اختلت موازينه وحكمه على الأشياء؛ ومن ذلك نظرته وفهمه لمسألة التيسير والتشديد والوسطية .

دعاة التيسير المعاصرين ثلاث فئات

الفئة الأولى: المنافقون والزنادقة

وهي الأشد انحرافا، وهم المنافقون والزنادقة الذين يركبون موجة التيسير ليصلوا بها إلى أغراضهم العلمانية والليبرالية في تغريب المجتمع، ونشر الفساد والرذيلة، ولذا تراهم يركزون على الأخذ بالقول المرجوح مثلا في حجاب المرأة، والقول المهجور في سماع الغناء والمعازف، وغيرها من الأقوال الضعيفة الشاذة بحجة التيسير، ليس حبا للشرع وأدلته وقواعده الشرعية، وإنما هي خطوة لتنفيذ مخططاتهم التي يتبنوها بعد ذلك، ولذا تراهم يمكرون ويضعون لبعض المفتين أسئلة في قالب مزخرف، يستلون منه الإجابة التي يريدونها من المفتي، ولذا يجب على المفتين من علماء الأمة التفطن لهذا المكر والتحايل وإلا زاغوا وأزاغوا.

الفئة الثانية: العصرانيين أو العقلانيين

وهي أقل انحرافا من سابقتها ، ولكن أهلها يخدمون الفئة السابقة سواء علموا أو جهلوا، وأصحاب هذه الفئة هم الذين يسمون بالعصرانيين أو العقلانيين، وهؤلاء ليس عندهم كره للإسلام، لكنهم على انحراف في منهجهم العقلاني الداعي إلى مسايرة الواقع، والانصياع للضغوط، والتيسير على النفس والناس، ولو على حساب الأصول والأدلة الشرعية وصار هذا الموقف منهجا وسمة عامة لهم.

الفئة الثالثة: دعاة التيسير على الناس

وأصحاب هذه الفئة يغلب عليهم اهتمامهم بالعلوم الشرعية ويحملون هم الدعوة ونشر العلم وتعليمه، ولهم مواقف مخالفة في المنهج للفئتين السابقتين، لكنهم أتوا من رغبتهم في التيسير على الناس، وتخفيف الضغوط عليهم، فتوسعوا كثيرا في هذا الأمر، حتى آل الأمر ببعضهم إلى ترك بعض الأدلة الصحيحة والأخذ بأدلة مرجوحة أو أقوال مهجورة. وتأتي خطورة هذه الفئة بما تقوم به الفئة الأولى والثانية من توظيف الأقوال لهؤلاء في أغراضهم الخبيثة وخططهم الماكرة، خاصة أن هذه الفئة يعد أصحابها من أهل العلم والسنة، ولهم حضور وقول عند الناس.

ويجمع الفئات الثلاث على اختلاف توجهاتهم التوسع في مسألة التيسير بحجة التيسير والتسهيل على الناس، ولا سيما في واقعنا المعاصر الذي اشتدت فيه الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والنفسية.

أهم منطلقاتهم ومآخذهم في التيسير

وبناء على هذه الاعتبارات جاءت منطلقاتهم محكومة بهذه المتغيرات، وأصبحت النظرة لمفهوم التيسير حسب ما تراه عقولهم تيسيرا، واستخدموا في ذلك موازین تنقصها الضوابط الشرعية، ومن أهم منطلقاتهم ومآخذهم في التيسير ما يلي:

أولا: الأخذ بالأيسر من أقوال العلماء

ولا يخفى ما في هذا من جرأة عظيمة على مخالفة الأدلة الشرعية الراجحة ؛ وذلك بتأويلات مختلفة أدت إلى الأخذ بالشاذ من أقوال العلماء، أو المرجوح منها، وحصل بذلك ضعف تعظيم النصوص في القلوب؛ يقول الشيخ جعفر شيخ إدريس: (… يقول أحدهم لنفسه: ما دام الدين يسرا فإنني سأختار ما أراه أسهل علي وعلى الناس، ثم يبدأ بالنظر في الأقوال بهذا المعيار فيقول – مثلا -: قول الحنفية هذا صعب، لكن قول الحنابلة أصعب، أما قوله المالكية فسهل، وأسهل منه قول الشافعية، وأسهل من هذا كله قول العالم الفلاني الذي خالفهم جميعا، فأنا آخذ به! إن المنهج الصحيح هو أن يقول الإنسان لنفسه، ما دام دين الله كله يسر فسأختار ما أراه بأدلته أقرب إلى الشرع؛ لأن القرب إلى الشرع هو الأقرب لتحقيق الغاية بأدنی مشقة)1(1) مجلة البيان العدد 235..

هل التيسير الأخذ بالأيسر من أقوال العلماء عند الاختلاف؟

ويقول الشاطبي – رحمه الله تعالى – في معرض رده على القائلين بأن من التيسير الأخذ بالأيسر من أقوال العلماء عند الاختلاف: (وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية، حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنی مراعاة الخلاف، فإن له نظرا آخر، بل في غير ذلك، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع، فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها؟ فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة؛ حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا ، وما ليس بحجة حجة.

قال الخطابي: وليس الاختلاف حجة، وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين. هذا مختصر ما قال. والقائل بهذا راجع إلى أنه يتبع ما يشتهيه ، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه، ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال، وعدم التحجير على رأي واحد، ويحتج في ذلك بما روي عن القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره. ويقول: إن الاختلاف رحمة، وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور، أو الموافق للدليل، أو الراجح عند أهل النظر، والذي عليه أكثر المسلمين ، ويقول له : لقد حجرت واسعا، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك. وهذا القول خطأ كله، وجهل بما وضعت له الشريعة .. والتوفيق بيد الله . وقد مر من الدليل على خلاف ما قالوه ما فيه الكفاية والحمد الله)2(2) الموافقات 2/102- 104 باختصار ..

ويزيد الأمر وضوحا الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – في رده على أصحاب هذه المدرسة فيقول: (وقولهم: (إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها) ليس بصحيح. وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابا أو سنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟ وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ، لم تنكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلدا. وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم. والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها – إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به – الاجتهاد لتعارض الأدلة، أو لخفاء الأدلة فيها)3(3) مدارج السالكين 3/ 288..

أنواع الرخص: المشروع منها وغير المشروع

ويقول في موطن آخر وهو يذكر أنواع الرخص: المشروع منها وغير المشروع: (الرخصة نوعان: أحدهما: الرخصة المعلومة من الشرع نصا ؛كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورة، وإن قيل لها عزيمة باعتبار الأمر والوجوب فهي رخصة باعتبار الإذن والتوسعة؛ كفطر المريض والمسافر، وقصر الصلاة في السفر، وصلاة المريض إذا شق عليه القيام قاعدا، وفطر الحامل والمرضع خوفا على ولديهما، ونكاح الأمة خوفا من العنت، ونحو ذلك فليس في تعاطي هذه الرخص ما یوهن رغبته. ولا يرد إلى غثاثة، ولا ينقص طلبه وإرادته البتة؛ فإن منها ما هو واجب؛ كأكل الميتة عند الضرورة ومنها ما هو راجح المصلحة ، كفطر الصائم المريض، وقصر المسافر وفطره، ومنها ما مصلحته للمترخص وغيره، ففيه مصلحتان: قاصرة ومتعدية؛ كفطر الحامل والمرضع ، ففعل هذه الرخص أرجح وأفضل من تركها .

النوع الثاني: رخص التأويلات، واختلاف المذاهب. فهذه تتبعها حرام ينقص الرغبة ، ويوهن الطلب، ويرجع بالمترخص إلى غثاثة الرخص، فإن من ترخص بقول أهل مكة بالصرف4(4) يقصد قول ابن عباس رضي الله عنه ومن تبعه من المكيين في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا ومنعوه نسیئة فقط، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ربا إلا في النسيئة).، وأهل العراق في الأشربة5(5) يقصد قول العراقيين في النبيذ، وأكثر علماء البصريين في أن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لا العين. بداية المجتهد لابن رشد 1/471.، وأهل المدينة في الأطعمة، وأصحاب الحيل في المعاملات ، وقول ابن عباس رضي الله عنه في المتعة، وإباحة لحوم الحمر الأهلية، وقول من أباح آلات اللهو والمعازف من اليراع والطنبور والعود والطبل والمزمار، وقول من أباح الغناء.. و أمثال ذلك من رخص المذاهب وأقوال العلماء. فهذا الذي تنقص بترخصه رغبته ، ويوهن طلبه، ويلقيه في غثاثة الرخص. فهذا لون والأول لون)6(6) مدارج السالكين 2/ 57 و 58 باختصار..

فتنة مسايرة الواقع ومواكبة العصر

وبعد، فرحم الله هذين الإمامين الجليلين؛ فكأنهما يعيشان في عصرنا ، وما جد فيه من الأهواء والفتن، وما خرج فيه من القوم الذين هم من بني جلدتنا، والذين ينادون بمسايرة الواقع ومواكبة العصر، والأخذ بأي قول لأهل العلم ولو كان مهجورا شاذا، أو مرجوحا و تيسيرا على الناس، ودفعا للحرج عنهم زعموا! وبعض هؤلاء ينطلق من الجهل بمقاصد الشريعة وأدلة الأحكام ومناطاتها، وبعضهم يذهب إلى أبعد من ذلك لغرض يخفيه في نفسه ویبديه لمن هو على شاكلته، ألا وهو البعد الاجتماعي والفكري للقضايا المثارة ، وليس مقصوده الخلاف الفقهي الصرف، حيث نرى اليوم من يثيرون مسائل تتعلق بالمرأة، وما نقل فيها من خلاف بين أهل العلم، والدافع لذلك أبعد من مجرد الخلاف الفقهي، بل هو ستار يخفي وراءه اللهث وراء الغرب ومحاكاته، وسرعان ما يتجاوزون المسائل التي هي محل الخلاف إلى ما لا خلاف في تحريمه ومنعه.

وإذا تأملنا هؤلاء وأمثالهم وجدنا بضاعتهم مزجاة في علوم الشريعة ؛ أصولها وقواعدها، وإنما همهم أن يتصيدوا من أقوال الفقهاء ما يناسب أهواءهم، ويوظفوه في تحقيق رغبتهم ومخططاتهم.

ثانيا: التهوين من قاعدة سد الذرائع وعدم الوزن بها في الحكم على المستجدات.

ويقولون: إن المطلوب هو الحكم على القضية المطلوب الحكم فيها فقط، دون النظر إلى مآلاتها والتعسير على الناس بذلك. ولا يخفى ما في هذا الموقف المُلغي لقاعدة سد الذرائع من مفاسد عظيمة تقع على أديان الناس ونفوسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم والعجب ممن لا يراعيها في نظره للأحكام وما يفتي به الناس في أمور دينهم، مع أن كثيرا من التشريعات الإسلامية في الكتاب والسنة كان قائما على هذه القاعدة؛ لأن المحرمات في الإسلام منها ما هو محرم لذاته، ومنها ما هو محرم لغيره. والمحرم لغيره إنما حرم لا لأنه في ذاته حرام، وإنما لما سيؤدي إلى الوقوع في المحرم لذاته، والأمثلة في ذلك كثيرة، وقد ذكر الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – تسعة وتسعين مثالا من الكتاب والسنة لهذه القاعدة في كتابه المشهور: أعلام الموقعين، قدم لها بقوله: (لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غايتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها . فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل.

فإذا حرم الرب تعالى شيئا، وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها ويمنع منها: تحقيقا لتحريمه، وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه. ولو أباح الوسائل والشرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم، وإغراء للنفوس به . وحكمته تعالى، وعلمه یأبی ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبی ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء، ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعُد متناقضا، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده .

وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه. فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهی عنها. والذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء)7(7) إعلام الموقعين ۳/ ۱۷۹..

وينبه الشاطبي – رحمه الله تعالى – إلى ضرورة اعتبار المآلات في فتوی المجتهد، فيقول: (النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا – كانت الأفعال موافقة أو مخالفة – وذلك أن المجتهد لا يجتهد على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل)8(8) الموافقات 1/140 ط. دراز..

ويعلق الأستاذ الريسوني على ذلك النقل فيقول: (أي أن المجتهد حين يجتهد ويحكم ويفتي، عليه أن يقر مآلات الأفعال التي هي محل حكمه وإفتائه، وأن يقدر عواقب حكمه وفتواه، وألا يعتبر أن مهمته تنحصر في (إعطاء الحكم الشرعي)، بل مهمته أن يحكم في الفعل وهو يستحضر مآله أو مآلاته، وأن يصدر الحكم وهو ناظر إلى أثره أو آثاره، … فإذا لم يفعل فهو إما قاصر عن درجة الاجتهاد أو مقصر فيها .

وهذا فرع عن كون: (الأحكام بمقاصدها). فعلى المجتهد الذي أقيم متکلما باسم الشرع أن يكون حريصا أمينا علي بلوغ الأحكام مقاصدها، وعلى إفضاء التكاليف الشرعية إلى أحسن مآلاتها)9(9) نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي من ۳۵۳..

ثالثا: التوسع في فتح الذرائع في ما يسمونه بالحيل الشرعية

ومن موازينهم في التيسير، وفي مقابل إهمالهم لقاعدة سد الذرائع فإننا نجدهم يتوسعون في فتح الذرائع في ما يسمونه بالحيل الشرعية، وما هي بشرعية ولا منضبطة بالشرع، وإنما حقيقتها الخداع والتحايل لإسقاط بعض الأحكام الشرعية، وتأصيل ذلك بشبه عقلية، وآراء فاسدة، وتبريرا لضعف الناس عن القيام ببعض الواجبات وارتكابهم لبعض المحرمات. وقد أطال الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – الرد على أهل الحيل في كتابيه القيمين “إعلام الموقعين” و “إغاثة اللهفان” بما لا مزيد عليه. فكان مما قاله عن مكايد الشيطان لأهل الحيل: (ومن مكايده التي كاد بها الإسلام وأهله الحيل والمكر، والخداع الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه، ومضادته في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه ، فإن الرأي رأيان:

– رأي يوافق النصوص، وتشهد له بالصحة والاعتبار، وهو الذي اعتبره السلف، وعملوا به.

– ورأي يخالف النصوص، وتشهد له بالإبطال والإهدار، فهو الذي ذموه وأنكروه.

وكذلك الحيل نوعان:

– نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهی عنه ، والتخلص من الحرام، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي، فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه.

– ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالما، والظالم مظلوما، والحق باطلا، والباطل حقا، فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمه ، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض.

قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم .

وقال الميموني: قلت لأبي عبد الله: من حلف على يمين، ثم احتال لإبطالها، فهل تجوز تلك الحيلة؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز.

وغرض الإمام أحمد بهذا: الفرق بين سلوك الطريق المشروعة التي شرعت لحصول مقصود الشارع، وبين الطريق التي تسلك لإبطال مقصوده .

أدلة تحريم النوع الثاني من الحيل

فهذا هو الفرق بين النوعين ، وكلامنا الآن في النوع الثاني ، قال شيخنا: فالدليل على تحريم هذا النوع وإبطاله من وجوه:

الوجه الأول: قوله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 8-9] وقال تعالى: (إِنَّ الُمْنَافِقِينَ يَخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهٌمْ) [النساء: 142] ، وقال فى أهل العهد: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) [الأنفال: 62] ، فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء المخادعين مخدوعون، وهم لا يشعرون أن الله تعالى خادع من خدعه، وأنه يكفي المخدوع شر من خدعه.

والمخادعة هي: هي الاحتيال والمراوغة بإظهار الخير مع إبطان خلافه، ليحصل مقصود المخادع. وهذا موافق لاشتقاق اللفظ فى اللغة. فإنهم يقولون: طريق خيدع، إذا كان مخالفاً للقصد لا يشعر به ولا يفطن له، ويقال للسراب الخيدع، لأنه يغر من يراه، وضب خدَعِ، أى مراوغ. كما قالوا: أخدع من ضب، ومنه: “الحرب خدعة” وسوق خادعة، أي متلونة، وأصله: الإخفاء والستر. ومنه سميت الخزانة مخدعاً.

فلما كان القائل: “آمنت” مظهراً لهذه الكلمة، غير مريد حقيقتها المرعية المطلوبة شرعاً، بل مريد لحكمها وثمرتها فقط مخادعاً، كان المتكلم بلفظ “بعت” و “اشتريت” و “طلقت” و “نكحت” و”خالعت” و “آجرت”، و “ساقيت” و “أوصيت” غير مريد لحقائقها الشرعية المطلوبة منها شرعاً، بل مريد لأمور أخرى غير ما شرعت له، أو ضد ما شرعت له مخادعاً. ذاك مخادع فى أصل الإيمان، وهذا مخادع فى أعماله وشرائعه.

قال شيخنا: وهذا ضرب من النفاق في آيات الله تعالى وحدوده، كما أن الأول نفاق في أصل الدين.

يؤيد ذلك: ما رواه سعيد بن منصور عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما “أنه جاءه رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا، أيحلها له رجل؟ فقال: من يخادع الله يخدعه”.

وعن أنس بن مالك: “أنه سئل عن العينة، يعنى بيع الحريرة؟ فقال: إن الله تعالى لا يُخدع، هذا ما حرم الله تعالى ورسوله”. رواه أبو جعفر محمد بن سليمان الحافظ المعروف بمُطَين فى كتاب البيوع له.

وعن ابن عباس: “أنه سئل عن العِينة – يعني بيع الحريرة – فقال: إن الله لا يُخدع، هذا مما حرم الله تعالى ورسوله” رواه الحافظ أبو محمد النخشي.

فسمى الصحابة من أظهر عقد التبايع ومقصود به الربا خداعاً لله، وهم المرجوع إليهم في هذا الشأن والمعوّل عليهم في فهم القرآن. وقد تقدم عن عثمان، وعبد الله بن عمر، وغيرهما أنهما قالا في المطلقة ثلاثا: لا يحلها إلا نكاح رغبة، لا نكاح دِلسة……إلى أن قال رحمه الله:

الوجه السابع: أن بنى إسرائيل كانوا أكلوا الربا وأموال الناس بالباطل كما قصه الله تعالى في كتابه، وذلك أعظم من أكل الصيد الحرام في يوم بعينه، ولذلك كان الربا والظلم حراماً في شريعتنا والصيد يوم السبت غير محرم فيها ثم أن أكلة الربا وأموال الناس بالباطل لم يعاقبوا بالمسخ كما عوقب به مستحلو الحرام بالحيلة وإن كانوا عوقبوا بجنس آخر كعقوبات أمثالهم من العصاة. فيشبه، والله أعلم أن هؤلاء لما كانوا أعظم جرماً إذ هم بمنزلة المنافقين ولا يعترفون بالذنب، بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم، فإن من أكل الربا والصيد الحرام عالما بأنه حرام فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم، وهو إيمان بالله تعالى وآياته. ويترتب على ذلك من خشية الله تعالى ورجاء مغفرته وإمكان التوبة ما قد يفضي به إلى خير ورحمة. ومن أكله مستحلاً له بنوع احتيال تأول فيه، فهو مصر على الحرام، وقد اقترن به اعتقاده الفاسد في حل الحرام، وذلك قد يفضي به إلى شر طويل.

وقد جاء ذكر المسخ في عدة أحاديث قد تقدم بعضها في هذا الكتاب كقوله في حديث أبي مالك الأشعري، الذى رواه البخاري في صحيحه: “وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يوْمِ الْقِيَامَةِ”.

وقوله في حديث أنس: “لَيَبِيتَنَّ رِجَالٌ عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَعَزْفٍ، فَيُصْبِحُونَ عَلَى أرَائِكِهمْ مَمْسُوخِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ”.

وفي حديث أبي أمامة أيضا: “يَبِيتُ قَوْمٌ مِنْ هذِهِ الامَّةِ عَلَى طعْمٍ وَشرْبٍ وَلَهْوٍ فَيٍُصْبِحُونَ وَقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ”.

وفي حديث عمران بن حصين: “يَكُونَ فى أُمَّتِي قَذْفٌ وَمَسْخٌ وَخَسْفٌ”)10(10) إغاثة اللهفان 1/ 338 – 343 باختصار..

التناقض بين الحيل وبين سد الذرائع

ثم بين التناقض بين الحيل وبين سد الذرائع فقال: (وبالجملة، فالمحرمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها، مطلوبة الإعدام، كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام.

والقربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها.

ففتح باب الذرائع في النوع الأول كسد باب الذرائع في النوع الثاني، وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة، فبين باب الحيل وباب سد الذرائع أعظم تناقض.

وكيف يظن بهذه الشريعة العظيمة الكاملة التي جاءت بدفع المفاسد وسد أبوابها وطرقها أن تجوز فتح باب الحيل، وطرق المكر على إسقاط واجباتها، واستباحة محرماتها. والتذرع إلى حصول المفاسد التي قصدت دفعها.

وإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به ذلك المحرم، أو بأن لا يقصد به، وإنما يقصد به المباح نفسه، لكن قد يكون ذريعة إلى المحرم، يحرمه الشارع بحسب الإمكان، ما لم يعارض ذلك مصلحة راجحة تقتضي حله، فالتذرع إلى المحرمات بالاحتيال عليها أولى أن يكون حراماً، وأولى بالإبطال والإهدار إذا عرف قصد فاعله، وأولى أن لا يعان فاعله عليه، وأن يعامل بنقيض قصده، وأن يبطل عليه كيده ومكره.

وهذا بحمد الله تعالى بين لمن له فقه وفهم في الشرع ومقاصده.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع يسد الطريق إلى ذلك المحرم بكل ممكن، والمحتال يتوسل إليه بكل ممكن)11(11) إغاثة اللهفان 1/509-510..

الهوامش

(1) مجلة البيان العدد 235.

(2) الموافقات 2/102- 104 باختصار .

(3) مدارج السالكين 3/ 288.

(4) يقصد قول ابن عباس رضي الله عنه ومن تبعه من المكيين في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا ومنعوه نسیئة فقط، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ربا إلا في النسيئة).

(5) يقصد قول العراقيين في النبيذ، وأكثر علماء البصريين في أن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لا العين. بداية المجتهد لابن رشد 1/471.

(6) مدارج السالكين 2/ 57 و 58 باختصار.

(7) إعلام الموقعين ۳/ ۱۷۹.

(8) الموافقات 1/140 ط. دراز.

(9) نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي من ۳۵۳.

(10) إغاثة اللهفان 1/ 338 – 343 باختصار.

(11) إغاثة اللهفان 1/509-510.

اقرأ أيضا

الوسطية والتيسير والتشديد في الميزان الإلهي

فتنة مسايرة الواقع (3-4)

ضعف التأصيل وتأصيل الضعف

ميزان العقل والعقلاء في الجاهلية

 

التعليقات غير متاحة