يختلف میزان الله عز وجل المستقيم للعقل والعقلاء عن موازين البشر المادية المعوجة، كما هو الحال في ذلك الاختلاف في ميزان التكريم والإهانة ، ومیزان الدنيا والآخرة ؛ ذلك لأن الميزان الإلهي قائم على العبودية لله وحده لا شريك له، وعلى الإيمان بالغيب، والتسليم لخبر الله عز وجل وأمره وشرعه، والإيمان باليوم الآخر، بينما لا اعتبار لهذه المقومات في الموازين المادية، وإنما الاعتبار فيها للمادة والمحسوس وقصر النظر على هذه الحياة الدنيا وزينتها ؛ قال الله عز وجل: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 7].

ذكر بعض الصور لموازين الجاهلية للعقل والعقلاء

 أولا: ازدراء الأنبياء وأتباعهم ووصفهم بالسفه والجنون والضلال وتحجر العقل

قال الله عز وجل عن هود عليه السلام مع قومه: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [الأعراف: 66]، وقالوا عنه أيضا: (إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) [هود: 54]. وأخبر الله سبحانه عن موقف المشركين من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ) [الدخان : 14]، وقال سبحانه عن المنافقين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) [البقرة: 13]، وأخبر الله سبحانه أن هذه سنة الجاهلية مع كل الأنبياء والمصلحين ؛ قال سبحانه: (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) [الذاریات: 52، 53].

وقال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)[غافر : 83].

وفي هذه المواقف وأمثالها تبرز لنا بعض موازين الجاهلية للعقلاء والعقل ؛ حيث ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أهل العلم والعقل والحكمة، مع أنهم أهل السفه والضلال، ويرمون العقلاء والحكماء من المؤمنين بالسفه والجنون والجمود والتحجر. ويتكرر هذا الميزان الجاهلي في كل زمان، ويتلوث به بعض جهلة المسلمين؛ حيث يتهمون المتمسك بدينه المتورع في قوله وفعله بخفة العقل والبلاهة والوسوسة .

يعلق سید قطب رحمه الله تعالى على قول قوم نوح عليه السلام: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فيقول: «وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال، بل هكذا يبلغ التبجح الوقح بعدما يبلغ المسخ في الفطر!.. هكذا تنقلب الموازين، وتبطل الضوابط، ويحكم الهوى؛ ما دام أن الميزان ليس هو میزان الله الذي لا ينحرف ولا يميل.

وماذا تقول الجاهلية اليوم عن المهتدين بهدي الله؟ إنها تسميهم الضالين، وتعد من يهتدي منهم ويرجع بالرضا والقبول!.. أجل من يهتدي إلى المستنقع الكريه، وإلى الوحل الذي تتمرغ الجاهلية فيه!

وماذا تقول الجاهلية اليوم للفتاة التي لا تكشف عن لحمها؟ وماذا تقول للفتى الذي يستقذر اللحم الرخيص؟ إنها تسمي ترفعهما هذا ونظافتهما وتطهرهما: رجعية وتخلفا وجمودا وريفية! وتحاول الجاهلية بكل ما تملكه من وسائل التوجيه والإعلام أن تغرق ترفعهما ونظافتهما في الوحل الذي تتمرغ فيه في المستنقع الكريه!

وماذا تقول الجاهلية لمن ترتفع اهتماماته عن جنون مباريات الكرة ؛ وجنون الأفلام والسينما والتلفزيون وما إليه؛ وجنون الرقص والحفلات الفارغة والملاهي؟ إنها تقول عنه: إنه «جامد»، ومغلق على نفسه. إن الجاهلية هي الجاهلية .. فلا تتغير إلا الأشكال والظروف!»1(1) في ظلال القرآن 3/1309..

ومما يحسن ذكره ههنا ما تنبأ به الرسول صلى الله عليه وسلم من اختلال في الموازين، وانعكاس في المفاهيم ؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات؛ يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة»2(2) ابن ماجه (4036)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1887)..

كما يحسن أيضا هنا ذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمانة، وفيه ذكر الخلل الذي يصيب بعض الناس في موازينهم؛ حتى أنهم يصفون الرجل بالعقل والحكمة وليس في قلبه إيمان ولا أمانة: روى البخاري في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حدیثین، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر؛ حدثنا: «أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة»، وحدثنا عن رفعها قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل؛ كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرا وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، فيقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان». ولقد أتى علي زمان ولا أبالي أیکم بایعت؛ لئن كان مسلما رده على الإسلام، وإن كان نصرانيا رده على ساعيه. فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا3(3) البخاري (6559)، مسلم (206)..

 ثانيا: الغرور بالعقل ووضعه في الميزان الذي لم يضعه الله عز وجل فيه

وقد أدى هذا الميزان بأصحابه إلى أن جعلوه ندا للوحي، بل مقدما عليه ؛ وأبطلوا به كثيرا من المغیبات والمعجزات لتعارضها مع العقل – زعموا – وقد برز هذا الميزان الجاهلي عند أهل الكلام والفلسفة من الزنادقة والمبتدعة في هذه الأمة، وامتدت آثاره إلى زماننا اليوم؛ حيث يتبناه اليوم من يسمون بأصحاب المدرسة العقلية أو بالعصرانيين والتنويريين. وقد دخل عليهم هذا الخلل من ظنهم وتوهمهم بوجود التعارض بين العقل والنقل، وحينئذ يقدم عندهم العقل، ويلتمس تأويل للنص، وهذا وهم باطل وظن فاسد؛ إذ لا تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح أبدا، وإذا ظهر شيء من التعارض فإما أن يكون النقل ليس بثابت ولا صحيح، أو أن يكون العقل فاسدا غیر صريح، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

فإذا تعارض نص لفظ وارد            والعقل حتى ليس يلتقيان

     فالعقل إما فاسد ويظنه                 الرائي صحيحا وهو ذو بطلان

أو أن ذاك النص ليس بثابت            ما قاله المعصوم بالبرهان

 ونصوصه ليس تعارض بعضها         بعضا فسل عنها عليم زمان

وإذا ظننت تعارضا فيها فذا              من آفة الأفهام والأذهان4(4) النونية لابن القيم 2/95 .

ولأصحاب المدرسة العقلية أسماء مرادفة، من أشهرها تسميتهم لأنفسهم بالتنويريين تارة، وبالعصرانيين تارة أخرى. وهذه الأسماء وما شابهها من المصطلحات الغامضة المضللة ؛ فإن القائمين عليها ينطلقون من موازین جاهلية؛ إذ كيف يوصف المقدس للعقل والمقدم له على النقل – بل هو الحاكم عندهم على النقل؛ يرفض ويقبل ما شاء، وخاصة فيما يتعلق بالغيبيات – كيف يوصف هؤلاء بأنهم عقلاء وحكماء مع أنهم في ميزان الله عز وجل هم السفهاء والحمقى؟! ولبيان ذلك نذكر هنا مصطلح (التنوير) الذي يتبجح به القوم؛ أصله ومنشأه، وماذا يعنون به؟

مصطلح (التنوير): أصله ومنشأه، وماذا يعنون به؟

نشأ مصطلح (التنویر) نشأة غربية أوروبية؛ وذلك عندما ثار من يسمون أنفسهم بالإصلاحيين والتنويريين على الكنيسة، ورفضوا خرافاتها وأن تكون وسيطا بين الإله والبشر، ورفضوا عقائدها المعروفة وكتابها المقدس، واستخدموا فكر التنوير والعقل المادي، وتوجهوا به لنقد المسيحية والكنيسة ومؤسسات الحكم الطبقية في الغرب في ذلك الوقت.

هذه ملابسات ما يسمى بالعقلانية أو التنوير !! وهذا يمكن فهمه في إطار هذه الملابسات التي أنشاته. أما أن يأتي من بني جلدتنا ممن ينتسب إلى الإسلام الحق الذي لم تخالطه أهواء البشر ولا تحريفات البشر، بل هو من عند الله – العليم الحكيم الخبير – ويطبق هذا المصطلح على شريعتنا الإسلامية النظيفة، المبرأة من الجهل والتحريف والهوى، التي تحترم العقل وتضع له حدوده، وتبين وظيفته ، فهذا من الظلم البين، والجهل المسيطر على عقول أهله، والهزيمة النفسية المحبطة.

يقول الأستاذ بندر العريدي: «أما دعاوى التنوير التي تقوم على التجرؤ على القطعيات والثوابت الشرعية، ومواطن الإجماع النظري أو العملي المسلم به في تاريخ المسلمين، وتعمد إلى تحريف دلالات نصوص الوحي لتوافق أهواء أصحابها، وتدعو إلى التخلي عن الذات والإنسلاخ من الهوية والقبول المطلق للثقافة الغربية وقيمها ومنطلقاتها، واستنساخ مسيرتها كاملة دون تمحيص وانتقاء، والاكتفاء بمرحلة الانبهار والتصفيق لها وتقليدها، واستيراد قيمها مع منتجاتها، وجعلها (أي القيم الغربية) میزانا للقبول والرفض للمواريث الإسلامية .

أقول: إن تنويرا هذا منهجه هو في الحقيقة تضليل عن هدايات الوحي المنقذ للبشرية من ظلمات الكفر والجهل والعمى بما يصلح للحياة، وجهل بتباين الظروف والبيئات، واختلاف المنطلقات بين المجتمعات الإسلامية والغربية، وتعام عن الفرق بين الوحي المعصوم (الإسلام) – الذي شجع العلم وفضل العلماء وحث على التفكير – وبين (النصرانية) المحرفة التي كان رجال الكنيسة فيها معادين للعلم وخانقين لصوت العقل، كما أن هذا التضليل سيجعل من مجتمعاتنا محلا للنفايات الحضارية، ويكون سببا في العطالة العقلية النقدية للوافد الغربي، وبالتالي شل الإمكانية، وتعطيل الدافعية، وتخدير محاولات السعي للشراكة الحضارية معه.

ملامح من منهج أدعياء التنوير وأساليبهم في ترويج أفكارهم

1- عندما رأى أدعياء التنوير أن نصوص الوحي المعصوم (الكتاب والسنة) – والتي يعظمها المجتمع – تتعارض مع كثير من منطلقاتهم ورؤاهم تباينت مواقفهم في التعامل معها : فمنهم من دعا إلى التجديد في صياغة الدين صياغة يستدعيها موقفهم القيمي، وإعادة قراءة نصوص الشرع قراءة جديدة تتوافق مع رؤاهم، وتلبسها لبوسا شرعيا يكسبها رواجا وقبولا في المجتمع، ونادى بضرورة فك احتكار فهم علماء الشريعة لدلالات الوحي – حسب زعمه – وبالتالي تصبح حمی مستباحا يخوض فيها كل أحد مهما قل حظه من العلم الشرعي، وفقد أدوات البحث والاستنباط وأصول الاستدلال، وفقه تنزيل الأحكام في الشريعة، بل ربما خاض فيها من لا يجيد قراءة قصار السور ، ولا يحسن الوضوء. ومنهم من فزع إلى التراث الإسلامي بحثا عن آراء شاذة وأقوال غريبة توافق رأيه وتصبغه صبغة تراثية . ومنهم من دعا إلى دراسة الوحي بصفته نصا تراثيا بمنهج عقلاني، يتمثل فيما وصل إليه الفكر المعاصر من أدوات نقدية، متحررا من الشعور التقديسي للنص من جهة، ومن الضوابط التي صاغها العلماء المسلمون بصفتها منهجا لدراسة النصوص الشرعية ومعرفة مرادات الله – سبحانه – فيها من جهة أخرى .

أما الغلاة من أصحاب هذا الاتجاه في العالم العربي فقد وصل بهم الحال إلى رفض نصوص الوحي والتشكيك بصحتها، بل وبصحة الدين كله ، واعتباره إنتاجا خياليا تركته لنا الثقافة العربية، كما يقول صادق العظم.

2- نقدهم اللاذع للتيار السلفي ومناداتهم لأصحابه ب (الماضويين) و ( التقليديين)، ووصمهم بأوصاف التخلف والرجعية والجمود والتقلید، في الوقت الذي يزعمون أنفسهم أنهم دعاة التنوير، ويصفون مناهجهم بالتقدمية والإبداع، ومواكبة العصر والتطورية، والعجب أنهم وقعوا فيما عابوا به أصحاب التيار السلفي؛ فدورهم – أي أدعياء التنوير – يقتصر في الغالب على ترجمة أفكار أساتذتهم الغربيين القدامى والمحدثين، واستعراض مقولاتهم وأطروحاتهم؛ بمعنى أنهم لا يولدون الأفكار ولا يبتكرونها، بل هم يستخلصونها من الغير، ثم يحاولون فيما بعد فرضها على واقع عربي لم يتمكنوا من کسب ثقته، أما الماضي الذي يعيبون على غيرهم الرجوع إليه، فهو ماضي باعتبار زمن نزول الوحي على رسول الله وتلقي الناس له، ولكن هذا الوحي متجرد عن حدود ذاك الماضي ومكانه ؛ لأنه من عند الله الذي أمد خلقه به لحاضرهم ومستقبلهم إلى أن تقوم الساعة؛ إذ جعل محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ؛ لتبقى هدايته هي الدين المرضي عند الله تعالى إلى يوم القيامة.

وفي المقابل نجد أنهم – أدعياء التنوير – وقعوا أسرى للماضي الأوروبي الذي مضى عليه أربعة قرون، وتجاوزه الواقع الأوروبي بمراحل، وأصابتهم حالة من الاستلاب للآخر الغربي الذي أصبح مرجعية سلطوية تحظى من القداسة والإيمان بما تحظى به نصوص الوحي عند المؤمنين به.

3- لكي يكسبوا مزيدا من التلميع لأفكارهم والتشويه لمنهج (التيار السلفي) يقوم بعض أدعياء التنوير بتقسيم الفكر عند المسلمين إلى قسمين:

الأول: فکر عصراني عقلاني منفتح على الفكر المعاصر، متفاعل مع صوره المحدثة .

الثاني : فکر سلفي منغلق على ذاته، منكفئ على الماضي.

ولا شك أن هذه قسمة ضیزی وحكم جائر، وجهل واضح بحقيقة الفكر السلفي؛ فالحق أن التفاعل لدى الفكرين العمراني والسلفي، والاختلاف هو في نوعية الانفتاح وأسلوب التفاعل؛ فالفكر العصراني تشكلت شخصيته من خلال مؤثرات الفكر المعاصر الغربي، ثم عاد ليتفاعل معه تفاعل استمداد منه وتقليد له كي يصوغ حياة أمته وفق رؤى ذلك الفكر الذي فيه تشكل ومنه استمد. أما الفكر السلفي: فقد تشكلت شخصيته من خلال تلك المقومات التي استمدها من تعاليم الوحي: القرآن والسنة .

4- يستغل أصحاب هذا الاتجاه المنسوب للتنوير الأحداث والظروف  لترويج رؤاهم، ومن ذلك: انتهازهم لحوادث التفجير والتكفير التي حصلت في بعض بلدان المسلمين؛ فقد وجدوها فرصة سانحة لاستعداء الدولة والمجتمع على مخالفيهم من التيار السلفي، ومن ثم التفرغ لطرح مشاريعهم وتنفيذ أجندتهم التي كانوا يتربصون زمنا طويلا ويتحينون الفرصة المناسبة للعمل عليها5(5) انظر: مقال (التنوير بين الحقيقة والتزييف) بندر العريدي، نقلا عن موقع الإسلام اليوم..

ويقول الدكتور محمد يحيى: «إن میراث التنوير الأوروبي هو العلمانية الغربية في شتى صورها، بل وفي أكثر صورها شراسة وعداء للدين، والعلمانية المنتشرة في البلاد العربية تنقل هذا الجزء الأخير من الميراث، لكنها تستره مرحليا بدعاوي جذابة حول الحرية والديمقراطية والعلم والمعرفة، ولا تعمل في دنيا الواقع بأي من هذه الدعاوي.

إن الحل هو الإصرار على أن الإسلام دين التنوير بمعنی نور الإيمان والوحي في وجه ظلام الكفر والوثنية، وهو دين العقل المقارن الموحد المفكر، لا العقل الملحد الناقل بلا نقد لخرافات الأقدمين بعد إلباسها ثوب (التنوير) زورا»6(6) مجلة البيان، العدد (140)، ص108..

وهكذا تختل الموازين؛ حيث ينظر هؤلاء القوم إلى كل من تنكر لنصوص الكتاب والسنة والشريعة وحكم عقول البشر وأهواءهم على أنه العاقل والحكيم والمتنور، أما عقول المتدينين، الملتزمين بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، فهي عندهم عقول متحجرة أسطورية غيبية جامدة .

 ثالثا: إلغاء العقل والانسياق وراء الخرافة والشعوذة

وفي مقابل العقلانيين المغرورين بالعقل ووزنهم له بغير الميزان الذي وزنه الله به يأتي في الطرف المقابل، أولئك الذين ألغوا عقولهم ونزلوا بها عن المكان اللائق بها، فأسلموا عقولهم للخرافة والشعوذات، وجعلوا عقولهم تابعة منقادة لعقول غيرهم دون وعي ولا بصيرة ؛ كما هو الحال عند أهل الخرافة وغلاة المتصوفة.

قال الله عن أمثال هؤلاء: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [البقرة : 170، 171].

الهوامش

(1) في ظلال القرآن 3/1309.

(2) ابن ماجه (4036)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1887).

(3) البخاري (6559)، مسلم (206).

(4) النونية لابن القيم 2/95 .

(5) انظر: مقال (التنوير بين الحقيقة والتزييف) بندر العريدي، نقلا عن موقع الإسلام اليوم.

(6) مجلة البيان، العدد (140)، ص108.

اقرأ أيضا

العدل والتوازن في الموقف من العقل

مجال العقل البشري وحاجة البشر إلى الرسالة

مجالات تسليم العقل للنصوص

الخطاب القرآني .. والدليل العقلى

 

التعليقات غير متاحة