المفتي موقّع عن رب العالمين، وهو منصب ذو خطورة في الدنيا لشيوع أثره، وفي الآخرة أمام رب العالمين. وثمة نصائح يجب على المفتي وضعها في الحسبان.

مقدمة

إن إفتاء الناس في دينهم أمانة عظيمة كان السلف الصالح يخافون منها أشد الخوف لأنهم يبلّغون عن الله عز وجل، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الدين، وما يتعلق به من عقائد وأحكام.

وعامة الناس يتعلقون بفتاوى أهل العلم، وينفِّذون أقوالهم على أنها حكم الله تعالى، فإذا أفتى المفتي بلا علم، أو كان على علمٍ بوجه الحق في المسائل، ثم كتم الحق أو أفتى بخلاف الحق مسايرةً لواقع الناس واتباعًا لأهوائهم، أو طمعًا في دنيا فانية، فالويل له من سؤال الله عز وجل له: بماذا أجبتم المرسلين؟ والويل له مما يتحمل من آثام الناس الذين جعلوه واسطة بينهم وبين الكتاب والسنة.

وقفات مع أهل الفتوى

نظرًا لعظم شأن الفتوى وخطورتها أنبه نفسي وإخواني من أهل العلم إلى الوقفات التالية:

هيبة الفتوى

لا يخفى علينا ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الخوف الشديد من إفتاء الناس، و”التوقيع” عن رب العالمين في كون الأمر المسئول عنه حلالًا أو حرامًا، وإذا كان خوف السلف شديدًا من الإفتاء، وهم على ما هم عليه من العلم الغزير والورع الشديد، فحريّ أن يكون مَن بعدهم أشدّ خوفًا وإشفاقًا منهم.

وفيما يلي أمثلة مضيئة من حال سلفنا الصالح الذين جمعوا بين العلم العظيم والخوف من الله عز وجل، ومع ذلك كانوا يكرهون الإفتاء ولا يجيبون على كل مسألة يُسألون عنها؛ لعل في قراءتنا لها أكبر عظة وعبرة.

عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما منهم أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتوى». (1«الفقيه والمتفقه» (2/ 349))

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون». (2انظر: «الفقيه والمتفقه» (2/ 198))

عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه «أنه جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني دُفعت إليك لا أعرف غيرك؟ فقال القاسم: «لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أُحسنه»، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا بن أخي الزَمْها، فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم فقال القاسم: والله لَأَنْ يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به». (3انظر: «جامع بيان العلم» (2/ 53))

وعن نافع: «أن رجلًا سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن مسألة فطأطأ رأسه ولم يجبه حتى ظن الناس أنه لم يسمع مسألته، فقال له: يرحمك الله! أما سمعت مسألتي؟ قال: بلى، ولكنكم كأنكم ترون أن الله تعالى ليس بسائلنا عما تسألونا عنه، اتركنا رحمك الله حتى نتفهم في مسألتك، فإن كان لها جواب عندنا وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا به». (4«صفة الصفوة» (1/ 56))

وكان مالك رحمه الله تعالى يقول: «من أجاب في مسألة، فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها». (5«ترتيب المدارك» (1/ 144))

ألا فلْنتق الله عز وجل، ونحسب للوقوف بين يدي الله حسابه، ولنعد للسؤال جوابًا.

وأخص بهذا الكلام أولئك الذين ظلموا أنفسهم، وتجرءوا على الفتوى، فصاروا يُصْدِرون أحكامًا في قضايا الأمة، ونوازلها، بغير علم أو بأنصاف علم، فامتلأت بآرائهم أعمدة الصحف وبرامج القنوات؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 الحذر من الميل مع أهواء الناس

إن من علامة عالم الملة المتجرد لله سبحانه ألا يميل مع أهواء الناس وما يشتهون، بل يراقب الله عز وجل، ويفتي بما يرضي الله سبحانه، وهو ما كان عليه الدليل الصحيح، دون النظر إلى أغراض الناس وما سيقولونه عن المفتي وشدته أو سماحته؛ لأنهم لن يغنوا عنه من الله شيئًا يوم القيامة.

الحذر من خداع المستفتي..!

على المفتي الذي يخاف يوم الحساب أن يتفطن لمكر وخداع بعض المستفتين، ومسائلهم، التي في بعضها تحيُّل على إسقاط واجب أو تحليل محرم؛ فلا يعينهم على ذلك، بل يجب أن يكون بصيرًا بأحوال الناس وخداعهم، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن المفتي:

“يحرم عليه إذا جاءته مسألة فيها تحيل على إسقاط واجب، أو تحليل محرم أو مكر، أو خداع أن يعين المستفتِي فيها، ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده.

بل ينبغي له أن يكون بصيرًا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرًا فطنًا فقيهًا بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهرٌ جميل، وباطنها مكرٌ وخداع وظلم؟.

وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق، وكم من حق يخرجه بتهجينه، وسوء تعبيره في صورة باطل؟ ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك، بل هذا أغلب أحوال الناس». (6«إعلام الموقعين» (4/ 229))

الاستفصال عند الإحتمال

على المفتي أن يفصل في جوابه على المسألة التي تحتمل عدة صور وأحوال؛ فقد ترِد مسألتان صورتهما واحدة وحكمهما مختلف حسب حال السائل وظروفه..

“فليس للمفتي أن يطلق الجواب في مسألة فيها تفصيل إلا إذا علم أن السائل إنما سأل عن أحد تلك الأنواع بل إذا كانت المسألة تحتاج إلى التفصيل استفصله”. (7المصدر السابق (4/ 187))

ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“إذا كان السؤال محتملًا لصور عديدة؛ فإن لم يعلم المفتي الصورة المسئول عنها لم يُجِبْ عن صورة واحدة منها، وإن علم الصور المسئول عنها فله أن يخصها بالجواب، ولكن يقيِّد لئلا يُتوهَم أن الجواب عن غيرها فيقول: إن كان الأمر كيت وكيت، أو كان المسئول عنه كذا وكذا، فالجواب كذا وكذا، وله أن يُفرد كل صورة بجواب فيفصّل الأقسام المحتملة، ويذكر حكم كل قسم”. (8«إعلام الموقعين» (4/255 – 256))

دعاء الله والتضرع اليه

على المفتي أن يتضرع إلى الله عز وجل ويسأله الهداية إلى الصواب وألا يعتدّ بكثرة علمه وذكائه وعقله وشهرته، وأن يكثر من الاستغفار وذكر الله عز وجل إذا اشتبهت عليه المسائل.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». (9مسلم في صلاة المسافرين (770) (1/ 534))

وكان شيخنا ـ يعني: ابن تيمية ـ كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: يا معلّم إبراهيم علمني، ويُكْثر الاستعانة بذلك، وكان “مكحول” يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم…”. (10«إعلام الموقعين» (4/ 256))

الإخلاص لرب العالمين

نذكّر أهل العلم بالإخلاص لله تعالى فيما يقولونه ويفتون الناس به؛ ذلك لأن موقعهم مَظِنَّة الفتنة ومزلة الأقدام.

ومن أخطر ما ينافي الإخلاص عند المتصدرين لإفتاء الناس ما يلي:

1) حب الظهور والشهرة بين الناس، وهذا بدوره يورث الإعجاب بالنفس، ولا يخفى ما في ذلك كله من إضعاف الإخلاص وكونه من أسباب حبوط العمل وتحمل الآثام.

2) التزيّن للناس بالعلم، وإظهار العلم بكل شيء من الشرع، والاستنكاف عن الاعتراف بعدم العلم بالمسألة عندما لا يظهر له جواب فيها.

3) التزلّف إلى الناس بإفتائهم ما يهوونه، والظهور أمامهم بمظهر العالم المرِن المواكب لعجلة التطور، ومسايرة الواقع والتيسير على الناس، وذلك باتباع الرخص الواهية والأقوال المرجوحة، بل الشاذة والمهجورة في أحيان أخرى.

4) وقد يدخل الشيطان على المفتي من باب إظهار علمه لأرباب السلطة واشتهاره في وسائل الإعلام بأنه المفتي المرِن الذي يراعي ظروف الواقع ومشاكله المعاصرة، وفي نفسه إرضاء السلطان ليكون ذلك سُلّمًا للوصول إلى غرض من أغراض الدنيا الفانية، سواء كان ذلك مالًا أو جاهًا أو منصبًا، أو غير ذلك مما ينافي الإخلاص والتجرد لله تعالى وابتغاء وجهه الكريم.

خاتمة

خطورة منصب الفتوى تتناول أثرا عظيما على عموم الأمة واتجاهاتها، كما يتحمل صاحبها حِملا بقدر تأثيرها يوم القيامة؛ فإما دلالةً على الخير وفتحا لأبوابه، ورفعة في الجنة لم يتوقعها صاحبها.. وإما هُويا في النار سبعين خريفا بما لم يحتسبْه صاحبه.

ومن الخير اعتبار هذه الدروس، وغيرها؛ طلبا للسلامة وأداء للأمانة.

………………………….

الهوامش:

  1. «الفقيه والمتفقه» (2/ 349).
  2. انظر: «الفقيه والمتفقه» (2/198).
  3. انظر: «جامع بيان العلم» (2/ 53).
  4. «صفة الصفوة» (1/ 56).
  5. «ترتيب المدارك» (1/ 144).
  6. «إعلام الموقعين» (4/ 229).
  7. المصدر السابق (4/ 187).
  8. «إعلام الموقعين» (4/ 255 – 256).
  9. مسلم في صلاة المسافرين (770) (1/ 534).
  10. «إعلام الموقعين» (4/ 256).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة