ما حدث في بلاد الحرمين هو وجود خطاب ديني يحمل قدرًا كبيرًا من السطحية والغلوّ مع الأسف، مما فتح مجالا واسعًا للطعن فيه من قبل النخب المتعلمنة…

“دورة الغيبوبة” ومسار الترفيه بين السخط والأمل

ما يحدث في بلاد الحرمين منذ سنوات من علمنة ممنهجة، وترفيه هابط ممنهج يتجلّى الآن بما يسمى “ساوندستورم” أو “مدل بيست”، مع وجود شريحة مجتمعية علمانية درس بعضها في الغرب أو صار له هوى علماني غربي يعتقد فيه أن بلاده ومجتمعه لن يتقدّم إلا إذا خلع عنه هيمنة الدين على المجال العام وطبّق العلمانية في الدولة والمجال العام.. هذا الذي يحدث مؤسف جدّا ومثير للأسى.

التبعية التاريخية: مجتمعات “دورة الغيبوبة” العلمانية نموذجًا

مشكلة المجتمع في بلاد الحرمين أنه كان مجتمعًا مغلقًا، إذا ما قسناه مثلا بمجتمعات مسلمة أخرى كمجتمعات المدن المصرية ومدن سواحل الشام والمغارب التي دخلت إليها الحداثة مبكّرا، فدخلت في “دورة الغيبوبة” العلمانية التي يعيشها المجتمع في بلاد الحرمين الآن قبله بقرن على الأقل، وخرجت فيها نخب ترى أن طريقنا يجب أن يكون بتبنّي العلمانية وأن زمن هيمنة الدين على المجال العام قد ولّى وأننا يجب أن نسلك طريق الغربيين كي ننهض.. إلخ..

تطور النخب: من الخطاب الصريح إلى عباءة الدين وإعادة التأويل

لقد صارت هذه النخب مثار سخرية اليوم، ومن بقي على ممارسة خطابها البائس السطحي هو اليوم أراجوزات الإعلام وأرباع المثقّفين من مقاهي اليسار البائس.. أما بقية الشرائح العلمانية فقد انخرطت في مجالات خطاب مختلفة، يتلفّع معظمها بعباءة الدين وإعادة تأويله وتقديم مشاريع ذات مسحة دينية وباطن علماني؛ لقوة الخصم الإسلامي حجاجيّا وشعبيّا، وإنْ كان ذلك قد تراجع بعد ثورات الربيع العربي وعادت العلمانية لتكشف عن وجهها القبيح مع تغييب النخب الإسلامية قسريّا من قبل أدوات أمريكا في المنطقة.

جذور القبول: سطحية الخطاب الديني والبطش السلطوي

ما حدث في بلاد الحرمين هو وجود خطاب ديني يحمل قدرًا كبيرًا من السطحية والغلوّ مع الأسف، مما فتح مجالا واسعًا للطعن فيه من قبل النخب المتعلمنة، فأمكن أن تقتنع شرائح معينة في المجتمع – مع البطش السلطوي والضخّ الإعلامي والهندسة التعليمية الحكومية – بذلك الخطاب البائس القديم: أنّ زمن هيمنة الدين قد ولّى، وأن “التقدّم” الغربي هو بوصلتنا وفي صلبه تبنّي العلمانية في الدولة والمجال العام.

كبح الصوت المعارض: اعتقال الدعاة وتفريغ الساحة

وحين ظهر في جزيرة العرب جيل من الدعاة استطاع مواجهة هذا التيار ولجمه بلغة معاصرة مع اطلاع على الإنتاج الفكري الغربي وتفكيكه؛ كانت إحدى أهم الخطوات التي على الحكومة السعودية اتخاذها لاستمرار مسيرة العلمنة الممنهجة اعتقال ذلك الجيل من الدعاة وكفّه قسريّا عن أي نشاط فكري أو تربوي مؤثّر في الشباب، لتخلو الساحة لِما ترونه الآن من مظاهر العلمنة والفجور السخيف.

جيل الغيبوبة: ضياع الهوية وسباحة في صنابير الفجور

وأقول “سخيف” لأنه من المؤسف حقّا أن ترى جيلا من الشباب أكبر همّه أن يقلّد آخر صرعات الرقص والغناء والموضة الغربية، وأن يتدافع كالمجنون على دور السينما والحفلات، لأنّه ببساطة لم يرَ شيئًا من ذلك في الماضي، ومع تشوّه صورة الدين والدعاة في حسّه وغياب أي خطاب فكري تربوي ناضج مواكب لمستجدات العصر عن عقله؛ يصبح فريسة جاهزة لدورة الغيبوبة العلمانية الإباحية التي تجتاح الشباب الآن في بلاد الحرمين.

دروس الماضي: عودة الأمة وتقويض المعمار العلماني

وأنا أشفق على هذا الجيل، أشفق عليه لا رفعًا للإثم عنه، ولكن لمعرفتي بالعوامل المختلفة الضاغطة التي شكّلته على هذه الهيئة، وفتحت له بأموال المسلمين صنابير الفجور ليسبح بمائها القذر.. أشفق عليه وأدعوه في الوقت نفسه إلى الاعتبار بأجيال كثيرة سبقته بعقود في مواطن أخرى في هذا المسار، ثم عرفت زيف الجاهلية وقذارتها بعد أن خالجتها دهرًا، في مصر والشام وتونس والجزائر والمغرب وغيرها من البلدان التي احتكّت مبكّرًا بمنتجات الحداثة الغربية الثقافية والترفيهية، ثم انبجست منها ينابيع العودة إلى الدين وتقويض المعمار الحداثي العلماني حتى أخمدت صراخ العلمانية وهيلمانها أكثر من مرّة بلا دولة ولا سلطة.

نداء للجيل: الحياة التافهة والتحرر الحقيقي

أرجو أن يفهم ذلك الجيل الشاب في بلاد الحرمين أنّ مشاهده وهو يتراقص ويرتدي آخر صرعات الموضة ويحضر حفلة فلان ويشارك في العرض العلّاني وتقام له حفلات تنكرية بذوق أمريكي ويلهث خلف هذه المساخر.. أنّ مشاهده تلك مع كل ما يقدَّم له من “ترفيه” تافه رخيص منزوع القيمة؛ هي مشاهد مثيرة للشفقة والسخرية في آن في حسّ من جرّب هذا كلّه وأكثر منه، وأنّ الحياة على هذه الشاكلة هي حياة تافهة بلا قيمة، وأنّ التحرّر الحقيقي لا يكون بالانفلات من القيم والأعراف واللهاث خلف عناصر الترفيه والثقافة الغربية، بل بالعثور على الذات الفطرية والذات الجماعية ومعرفة نبضها الحقيقي وتبنّي رسالة جادّة في الحياة، رسالة لا تكبت الحياة نعم، ولكنها لا تحوّلها إلى مسرح راقص ليل نهار!

يقين الصحوة الجديدة وسقوط معبد الترفيه

وأنا على يقين أن جيلًا يتشكّل الآن على عين الله سبحانه في جزيرة العرب، يدرك أنّ هذا المرقص الكبير الذي بناه الطغاة لن يدوم، وأن معبد الترفيه سينهار، وأنّ “صحوةً” ما – أكثر وعيًا ونضوجًا وتجاوزًا لأخطاء الماضي – ستنهض لتُغيّر وجه المجتمع إلى ما يحب الله ويرضى.

المصدر

صفحة الأستاذ شريف محمد جابر، عل منصة ميتا.

اقرأ أيضا

ماذا يجري في بلاد الحرمين؟(1)…ابن سلمان وجناياته على الدين

آل سعود والتعدي على شريعة الله .. مختارات من “المسلمون والحضارة الغربية” (7)

الغزو الإباحي والسلوكي وإثارة الشهوات لإفساد الأعراض والأخلاق

التعليقات غير متاحة