الدولة الحرة والحقيقة المرة

منذ عشرات السنين حاول الإسلاميون مرارا إقامة دولة حديثة حرة مستقلة على نهج الشريعة فهل سمح النظام الدولي بأي شيء من ذلك؟

هي حقيقة مرة.. ولكن أكثر الإسلاميين بمختلف اتجاهاتهم السياسية والجهادية والعلمية لا يريدون فهمها أو حتى تفهمها، وهذه الحقيقة تقول بأن أهل الإسلام العاملين المضطهدين.. لا يواجهون مجرد حكومات ظالمة محلية .. أو مؤامرات خبيثة لأطراف إقليمية.. بل يواجهون (حكومة عالمية) ذات وجهة صليبية صهيونية اسمها..( النظام الدولي).

وعلى مدى نصف قرن مضى، ومنذ بدء الصحوة الإسلامية، وفي كل محاولات اتجاهاتها بتجاربها السابقة واللاحقة؛ كان الغرض المبدئي للإسلاميين هو إقامة دولة إسلامية على نهج الشريعة، بحيث تكون (إسلامية الهوية) و(حرة القرار) و(مستقلة الإرادة) و(قوية البناء)، لكن الإسلاميين في كل مرة يفاجؤون بأنّ هذا (النظام الدولي)، وما يتبعه في ( المجتمع الدولي).. لا يسمح بقيام أو انضمام مثل تلك الدولة الحرة لما يسمى بـ (الأسرة الدولية).. ولا يقبل بعضويتها إلا بشرط عبوديتها وخضوعها التام لقواعد ذلك النظام، الذي تأسس على أسر شعوبنا وكسر إرادتها ونهب ثرواتها.. من خلال منظمات (الشرعية الدولية) .. بأنظمتها ومنظماتها القهرية الجبرية.

إذا سألت عن الأسباب والعلل، أجابك الوحي المنزل بالقول المفصل : ﴿مَّا یَوَدُّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَلَا ٱلۡمُشۡرِكِینَ أَن یُنَزَّلَ عَلَیۡكُم مِّنۡ خَیۡرٍ مِّن رَّبِّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِیمِ﴾ [البقرة ١٠٥]، فهم لا يقبلون الإسلام ولو كان مجرد دعوة.. فهل سيرضونه قوة ودولة..؟! .. لا ؛ بل : (حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)..!

الاستهداف المستمر للكيانات الإسلامية

ليس هناك أكذب ولا أفجر من أئمة الكفر المعاصرين المعادين للدين؛ في دعواهم أن المسلمين قوم إرهاب معتدين، فالطبيعة العدوانية لأرباب النظام الدولي الجبري منذ قام؛ لم تسمح ..والواضح أنها لن تسمح بقيام أو بقاء أي كيان إسلامي يقيمه المسلمون لأنفسهم وفي بلادهم على أسس الكرامة التي ارتضتها أمتهم ، وهي : ( إسلامية الهوية) و(حرية القرار) و(حقيقة الاستقلال) مع قيادة تجمع ذلك وتجمع عليه، فكل هذا يحظره هذا النظام الدولي بذاته، أو من خلال أدواته وآلياته؛ سواء عن طريق دولة موالية معلنة أو مبهمة ، في صورة ما يسمى ب ( الدولة العميقة) التي تمثل الجزء الخفي من النظام الفوضوي الدولي.

وراجعوا بالذاكرة كل محاولات الحركات الإسلامية التي تنوب عن الأمة في حقها في إقامة كيان سياسي حقيقي يقوم على(الحق) و( الحرية) و(العدل) و( الاستقلال) سواء عن طريق الانتخابات أو الثورات أو ما يقدمه المقاومون المنافحون عن أمتهم من بذل وتضحيات، ستجدون أنه بعد إسقاط كيان المسلمين العالمي ممثلا في الخلافة العثمانية، هناك اتفاق دولي (غير مكتوب).. ؛ يقضي بعدم السماح بعودة مقدماتها أو ممهداتها في صورة دولة حرة ذات كيان، في أي مكان كان.

واستعرضوا بالذاكرة التجارب الإسلامية، خلال العقود القليلة الماضية؛ مثل جهاد الأفغان الأول، الذي انتهى بقيام دولة أفغانستان الإسلامية؛ ثم سقوطها .. وبعده قيام إمارة الطالبان؛ ثم إسقاطها ..وتجربة دولة الشيشان؛ ثم سحقها، وكذلك مشروع الدولة الإسلامية في البوسنة التي تم إجهاضها ؛ ووصول الإسلاميين إلى السلطة في الجزائر .. ثم إلى أين صاروا ..؟ ووصول المحاكم الإسلامية إلى الحكم في الصومال .. ثم إلى ماذا انتهوا ؟ وفوز حركة حماس بالانتخابات، وكيف تحولت إلى (حكومة مقالة).. ثم حوصرت من الدول المجاورة ..؟

فلما قامت الثورات، فلا تحدثني عن إسقاط الحكومات أو الكيانات التي نشدت مع شعوبها الخروج من ضيق الاستبداد إلى سعة العيش الحر والقرار المستقل..

وراقبوا أيضا.. تلك التحالفات السياسية والعسكرية الدولية.. الثلاثينية والستينية والسبعينية.. التي أقيمت ضد بعض (الحركات) أو التوجهات الإسلامية.. التي أرادت الحق، سواء أصابته أو أخطاته.. حيث أرهبوا شعوبها بدعوى محاربة إرهابها .. في تهم لم تنج من الوصف بها حتى رموز وفعاليات الثورات العربية الشعبية (السلمية).. التي لم يعادوها سوى لصفتها وصبغتها الإسلامية.

ومهما حاولت كيانات أو توجهات إخفاء الوجهة الإسلامية بأقنعة علمانية_ مثل ما هو حادث في تركيا وتونس وغيرهما _ فقد ظلت في بؤرة الاستهداف، كما حصل في محاولة الانقلاب المدعوم أمريكيا على حزب العدالة التركي.. والانقلاب المدبر فرنسيا ضد حزب النهضة التونسي.. الذي لم يكن له في السلطة من مسؤول سوى رئيس البرلمان (المعزول) ..!

وما مخططات توريط إمارة الطالبان في محاولاتها اليوم للإعلان عن العودة بعد انتصارها ؛ إلا مثالا جديدا من مسلسل العداء والاعتداء ، فهي لم تكن استثناء في ذاك العداء عندما قامت.. ولا عندما عادت .. ليس لتشددها المزعوم.. ولكن لوجهتها الحرة ..ونزعتها المستقلة.. وهويتها الإسلامية ..ومحاولتها الأخذ بأسباب القوة، مع التحامها بقاعدتها الشعبية.

يقتلوننا ثم يتساءلون “لماذا يكرهوننا؟”

لا نذكر تلك الحقائق تيئيسا أو قنوطا أو حطا من جهود واجتهادات العاملين ، ولكن لضرورة استحضار هذا البعد الديني والحضاري في الصراع الدولي المزمن ضد المسلمين، فما يحدث على مدار السنين؛ ليس إلا حلقات جديدة في مسلسل واحد .. يؤكد حقيقة عدونا الحاقد الجاحد، الذي يتذاكي فيتباكى أغبياؤه قائلين : ( لماذا يكرهوننا) ؟! مع استمرارهم في استهدافنا واستضعافنا واستنزافنا.. بل قتلنا وقتالنا .. كل ذلك وهم يرموننا وحدنا بالإرهاب..

.. وصدق ربنا وربهم ، وهو يصف حالنا وحالهم ، فيقول ؛ جل من قائل : ﴿وَلَا یَزَالُونَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ یَرُدُّوكُمۡ عَن دِینِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَـٰعُوا۟ۚ وَمَن یَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَیَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ﴾ [البقرة ٢١٧]

أخيرا، يجب التأكيد – رغم كل شيء – على أن الله عز وجل قد حكم بأن كيد الكافرين والمنافقين زاهق ومغلوب وأن نصر الله لأوليائه مقطوع به، إذا أخذ المسلمون بأسباب النصر وغيروا ما بأنفسهم،﴿ … وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِۦ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ﴾ [يوسف ٢١].

اقرأ أيضاً:

 

التعليقات غير متاحة