حكم الشرع في الاحتفاء بالآثار الفرعونية وأمثالها

الفتوى توضح الحكم الشرعي في الاحتفاء بالآثار الفرعونية وأمثالها…..وبيان مقاصد هذا الاحتفاء ومدى مصادمتها لمقاصد الشريعة…

تصويرُ النازلة وسؤالُها

بسم الله الرحمن الرحيم .. في مصر يقوم النظام الحاكم ومؤسساته المعنية بحملة تستهدف إحياء تراث الفراعنة بصورة أقوى مما مضى؛ فأقيم المتحف الفرعوني الكبير، وإقيمت الاحتفالات بهذه المناسبة، وانخرط كثير من رجال الدين من أمثال علي جمعة المفتي السابق وأسامة الأزهري وزير الأوقاف المصري الحالي، وكثير من الرموز الدينية، ومثل هذا يجري – وإن بدرجة أقلّ – في بلاد أخرى كالعراق واليمن والأردن وغيرها، ما يبدو لكثير من المتابعين أنّها محاولة لبعث جاهليات قديمة من تحت التراب، ونفخ الروح فيها، وشغل الخلق بتفاهاتها، وصرفهم عن الجادة، وإلهائهم عن مراقبة ما تتورط فيه الأنظمة من فساد، مع إسباغ هوية جاهلية على الأنظمة والشعوب؛ فما حكم الشرع في هذه الأفعال؟ وما مدى موافقتها أو مصادمتها للشريعة ومقاصدها؟ وما الواجب على المسلم حيال هذه التصرفات، وما واجب العلماء كذلك تجاه هذه الأفعال والتصرفات؟

التكييف الشرعيّ لواقع النازلة

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

فإنّ إحياء الآثار الفرعونية – وأمثالها من بقايا الجاهليات البائدة كالآشورية والبابلية وغيرهما – يشتمل على جملة كبيرة من المفاسد الشرعية الخطيرة، بيانها كالتالي:

عِبَر التاريخ: كيف تتحول التماثيل إلى آلهةٍ تُعبد من دون الله

  • يعدّ هذا الإحياء – وبخاصّة مع الاحتفال والاحتفاء – ذريعة للوقوع في الشرك ولو بعد حين؛ فإنّ الخلق يفتنون بالصور والرسوم مع ما يتصل بها من سير أصحابها، وقد وقع لقوم نوح شيء شبيه بذلك، حيث بنوا تماثيل لخمسة من الصالحين ثم بعد مرور مدة من الزمن عُبدت من دون الله، وقد نهاهم نبيّ الله نوح عليه السلام عن ذلك، فأصرّ أكابر مجرميهم على الاعتصام بهم صاحوا في الأتباع: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ ‌وَدًّا ‌وَلا ‌سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) الآية (نوح: ٢٣)، قال ابْنِ عَبَّاسٍ عنها، إنّها «أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ، أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ»11- رواه البخاري ك التفسير باب ودا ولا سواعا … برقم (4920).، ولا يشترط أن يكونوا صالحين ليعبدوهم؛ فقد عبدت بنو إسرائيل العجل الذهبي، تقليدًا لعبادة المصريين لحورس، وطلبوا من نبيهم عليه السلام أن يجعل لهم صنما يعكفون عليه: (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى ‌اجْعَلْ ‌لَنا ‌إِلهاً ‌كَما ‌لَهُمْ ‌آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (الأعراف: ١٣٨)؛ «عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ‌اجْعَلْ ‌لَنَا ‌ذَاتَ ‌أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: ١٣٨] وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمٌْ»22- رواه الترمذي في سننه برقم (2180) وأحمد في مسنده برقم (21897).، لأجل ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ما هو ذريعة تؤدي – ولو على المدى البعيد – إلى الشرك، وصور النهي كثيرة ومبثوثة في السنة المطهرة، مثل نهيه عن الصلاة إلى قبر أو اتخاذه عيدًا، وعن الصور المجسمة، وغير ذلك.

 الانهزام الحضاري: رفع شأن من خفضه الوحي

  • يُعَدُّ هذا الإحياء اعتدادًا بما حطَّ الوحي من شأنه، ورفعًا لما خفض الإسلام من ذكره، وتعظيمًا لما حقّره القرآن وازدراه وشنّ عليه الغارة، ففرعون – على سبيل المثال – مذموم في كتاب الله، ومتوعَّد بالنار هو وجنوده، وقد تواترت في القرآن الكريم الآيات التي تعدد شروره ووقائع ظلمه، وتحكي تجاوزاته التي بلغت حدّ التأله على العباد؛ فكيف يتمّ تعظيم الفراعنة ورفع شأنهم وهم لم يكونوا سوى طغاة ظلمة مجرمين، استعبدوا قومهم في بناء صروح ومعابد ازدحمت بالأصنام، وحملوا على ظهورهم الصخور العملاقة؛ لا لشيء إلا لبناء أهرامات تكون مقابر لهم، وقد عاب القرآن كل ما شيدته الجاهليات – على ما فيه من فخامة وأبّهة – لكونه كان مظهرًا للاستكبار في الأرض: (أَتَبْنُونَ ‌بِكُلِّ ‌رِيعٍ ‌آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (الشعراء: 128-130)، (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) (الشعراء: 146-149) (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ * إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ * ‌وَفِرْعَوْنَ ‌ذِي ‌الْأَوْتادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) (الفجر: 6-13)؛ فكيف يدمدم كتاب الله على الطغاة ويأتي مسلمون يؤمنون بكتاب الله فيضادّون مقاصد القرآن ويسيرون في طريق مضادٍّ يرفعون فيه من خفضه الله، وقد جاء في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ ‌عُبِّيَّةَ ‌الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ»33- رواه أبو داود في سننه برقم (5116) والترمذي في سننه برقم (3955) وأحمد في مسنده برقم (8735) .. حسنه في صحيح الجامع برقم (1788).، و«عن سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرَّ بِالحِجْرِ قَالَ: «‌لَا ‌تَدْخُلُوا ‌مَسَاكِنَ ‌الَّذِينَ ‌ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ» ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ44- متفق عليه صحيح البخاري برقم (3380) وصحيح مسلم برقم (2980).؛ فإذا كان رسول الله قد نهى عن التفاخر بهم، وأمر ألا ندخل مساكنهم إلا باكين لئلا يصيبنا ما أصابهم؛ فإنّ ما يفعله المسلمون اليوم مخالف للقرآن والسنة والعقيدة والشريعة.

الموالاة المحرمة: بين انتساب الأمة وانتماء الجاهلية

  • هذا التعظيم لآثار أقوام عدّهم كتاب الله من جملة الطغاة المجرمين والكفرة الملحدين هو في حقيقته ولاء لأعداء الله، وانتماء وانتساب إليهم، يزاحم ويضاد الولاء لله ورسوله والانتساب لدين الله وشرعه، وهذا محرم قطعًا، قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ‌يُوادُّونَ ‌مَنْ ‌حَادَّ ‌اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (المجادلة: 22)، فليس من الطبيعيّ ولا من المنطقيّ أن تكون بين الذين يؤمنون بالله ورسوله والذين يحادَون الله ورسوله مودّة؟! إنّ المؤمن لا يوادّ الذي حادّ الله، قديما كان أم حديثًا، ومما لا شك فيه أن هذا الإحياء وهذا التعظيم فيه مودّة ومحبة وانتماء وانتساب، وقد قطع الإسلام ذلك كلّه، وجعل الوشيجة التي يوالى ويعادى عليها هي وشيجة الإيمان.

الطغاة يتوارثون: إقامة الطواغيت لصد الناس عن الدين

  • معلوم أنّ هذه الأنظمة المجرمة الآثمة المارقة المنافقة التي تحكم بلاد المسلمين بدون أدنى شرعية تبذل وسعها في حرف المسلمين عن دينهم، وفي سبيل ذلك تستعين بكلّ ما يوطّيء الشعوب لهذه الغاية؛ فهم لأجل هذه الغاية يبعثون من تحت التراب جاهليّات قد جيّفت، وينفضون عنها التراب، ويريدونها أن تصير بمرور الوقت معقد الولاء والبراء ومناط الانتماء والانتساب، وعلى مدى التاريخ كان الطغاة المجرمون يخرقون للناس طواغيت؛ ليصدّوا بها الناس عن دين الله عزّ وجلّ، وطغاة اليوم لا يختلفون عن طغاة الأمس.

الآثار.. عبرة للمعتبرين لا أوثان للمعظمين

  • كلّ هذا لا علاقة له بالضرب في الأرض لالتماس العبرة والعظة، فهذا شيء آخر مختلف، قال تعالى: (قُلْ ‌سِيرُوا ‌فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام: 11).

الحكم الشرعي في النازلة

بناء على ما سبق من التوصيف الواقعيّ والتكييف الشرعيّ، ولما سبق بيانه من المخالفات الشرعية، ولما سبق سوقه من الآيات؛ فإنّه يفتى بالآتي:

تحريم المشاركة ووجوب الإنكار

  • هذا الذي قام به النظام المصريّ وأقرّه عليه رجال دين مدخولون عمل محرّم شرعًا، يمارسه نظام لا شرعية له، ولا يقيم في الناس كتاب الله، فيحرم على أفراد الشعب المشاركة فيه أو التفاعل معه إلا بالإنكار والحسبة، وببيان الحقّ الذي يجب أن يعلمه الكافّة، والحكم ذاته ينسحب على كلّ من يعمل مثل هذا العمل في بلده.

الفخر بالإسلام لا بالجاهلية

  • يجب على أفراد الشعب المصريّ اعتزال هذا العبث الجاهليّ، وعدم المشاركة فيه، كما يجب أن يكون موضع التفاخر والاعتزاز هو التاريخ الإسلاميّ لا الجاهليّ؛ فمصر من بلاد الإسلام التي تحقق على يدها أمجاد عظيمة للإسلام والمسلمين؛ فمن فوق أرضها انطلقت الفتوح غربًا حتى لامست مياه الأطلسيّ، ومنها انطلقت الجيوش التي واجهت الصليبيين وكسرتهم في حطّين، وواجهت المغول وكسرتهم في عين جالوت، وأنقذت بذلك الأمة من خطر الفناء.

واجب العلماء: كشف الشبهات وفضح أبواق النظام

  • يجب على علماء الأمة أن يبينوا للناس أنّ إحياء الجاهليّات سعي في طمس معالم الإسلام وهوية المسلمين، وأن يبذلوا وسعهم في حراسة الهوية الإسلامية وحمايتها والذبّ عنها، وأن يأخذوا على أيدي العملاء المنتسبين كذبًا للعلم والعلماء وهم في الحقيقة أبواق للنظام.

 حكم النظام: بين الكفر البواح ووجوب الإعداد للإزالة

  • إنّ هذه الأنظمة التي تحكم بلاد المسلمين قد بالغت في عداوتها لدين الله، وفي محاربتها لله ورسوله، وفي مشاققتها لكتاب الله وسنة رسوله، وهي بهذه المبالغة تضيف مسوغات للخروج عليها؛ إضافة للمسوغات – بله الموجبات – العديدة التي يفرضها ظهور الكفر البواح، ومظاهرة الكافرين على المسلمين، ونبذ شريعة الله ومحاربة الداعين إليها، فيجب على الأمة السعي في إزالتها، وعند عدم القدرة على ذلك يجب السعي للإعداد .. هذا .. والله تعالى أعلم.

الهوامش

1- رواه البخاري ك التفسير باب ودا ولا سواعا … برقم (4920).

2- رواه الترمذي في سننه برقم (2180) وأحمد في مسنده برقم (21897).

3- رواه أبو داود في سننه برقم (5116) والترمذي في سننه برقم (3955) وأحمد في مسنده برقم (8735) .. حسنه في صحيح الجامع برقم (1788).

4- متفق عليه صحيح البخاري برقم (3380) وصحيح مسلم برقم (2980).

المصدر

هيئة الإفتاء في نوازل الأمة العامة، هيئة علمائية عالمية تحت التأسيس، فتوى رقم (6).

اقرأ أيضا

براءة المؤمنين .. من تكريم آل فرعون ..!

الإسـلام هويـة تجمـع الأمـة

خسارة الأمة نتيجة غياب الهوية

التعليقات غير متاحة