بین میزان الله للحرية والتقدم والتحضر وبين موازين الجاهلية بونا عظيما، ومضادة كاملة ؛ ذلك ؛ لأن موازين البشر الجاهلية، قائمة على الأهواء والشهوات والمناهج الجائرة المعروفة بالنقص والهوى والجهل، فلا جرم جاءت موازينهم مضطربة، ظالمة منحرفة، جلبت للبشرية كل عناء وشقاء.

من موازين الجاهلية للحرية والتقدم والتحضر

الحرية هي الانفلات والانعتاق من كل قيد

1- تنظر الجاهلية القديمة والمعاصرة إلى الحرية والتقدم على أنها الانعتاق من أي قيد يقيد الإنسان في تفكيره أو قوله أو فعله ، ومن ذلك : قيود الشرع المطهر، وحدود الله عز وجل .

ففي الجاهلية القديمة نجد ما قصه الله علينا في كتابه الكريم عن قوم شعيب عليه الصلاة والسلام، وما قالوا له حينما دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك ما هم عليه من ظلم الناس بقطع الطريق عليهم، ونقصهم في المكيال والميزان ؛ قال الله عز وجل: (وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ * قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود: 84 – 87].

ففي هذه الآيات الكريمات نجد أن قوم شعيب استنكروا على شعیب تدخل دينه في شؤونهم التي يرون أنهم أحرار في فعلها، فقالوا: ما لك ولحريتنا الاعتقادية؟ وما دخل دینك وعبادتك في اقتصادنا وتصرفنا في أموالنا؟ فنحن أحرار نفعل فيها ما نشاء .

هذا هو میزان الحرية في الجاهلية القديمة، وهي هي نفسها موازین الجاهلية المعاصرة اليوم، حذو القذة بالقذة ، ويصفونها بالتقدم والتحضر ، بينما يصفون ما يضادها من الدين والأخلاق بالتخلف والرجعية والماضوية.

ما للإسلام وحرياتنا؟!

يقول سيد قطب – رحمه الله تعالى – معلقا على مقولة قوم شعيب الجائرة: «إن بيننا اليوم – ممن يقولون: إنهم مسلمون! – من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية .

وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم؛ يتساءلون أولا في استنكار: وما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟ ما للإسلام والعري في الشواطئ؟ ما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟ ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟ ما للإسلام وتناول كأس من الخمر لإصلاح المزاج؟ ما للإسلام وهذا الذي يفعله «المتحضرون»؟!.. فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين: (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا).

وهم يتساءلون ثانيا، بل ينكرون بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد. فما للدين والمعاملات الربوية؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟ لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده. وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات الغربية – النظرية الأخلاقية مثلا – ويعدونها تخليطا من أيام زمان!

فلا يذهبن بنا الترفع كثيرا على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى ، ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة ، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله، والسلوك الشخصي في الحياة ، والمعاملات المادية في السوق؛ تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود !»1(1) في ظلال القرآن 4/1920 ..

ميزان تحرير المرأة في الجاهلية

والكلام عن الحرية في موازين الجاهلية يقودنا إلى الحديث عما يسمونه (بتحرير المرأة) ؛ هذا المصطلح الخبيث الذي يرفعه اليوم المتبعون للشهوات ، ويريدون أن يميلوا بالناس ميلا عظيما، فماذا يقصدون بتحرير المرأة؟ وما هو میزان تحريرها عندهم؟

إنهم يقصدون بتحريرها هنا ذلك المفهوم الجاهلي الدنس الذي يرمي إلى أن تنفلت المرأة من عبادة ربها ، ومن كل فضيلة وعفة وحياء؛ لتصبح مستعبدة رقيقة لشهوات الشياطين، وبيوت الأزياء وصيحات الموضات التي تخلع عن المرأة أجمل شيء ركبه الله فيها؛ وهو حياؤها وعفتها، فهل هذا هو تحرير المرأة؟ أو هو إذلالها واستعبادها واسترقاقها؟

إن التحرر الحقيقي للمرأة ولغيرها لا يكون إلا في هذا الدين الذي جاء لتحرير الإنسان من العبودية للأشخاص والأصنام والأهواء إلى العبودية لله الواحد القهار والتي فيها وحدها العزة والكرامة والحرية والتحرير.

يتحدث سید قطب – رحمه الله تعالى – واصفا بعض ما تتعرض له المرأة المعاصرة من الذلة والعبودية والاسترقاق فيقول: «هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضا، وتكلفهم أحيانا ما لا يطيقون من النفقة ، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم. ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها.. أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء.. والأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء المضحكة! وأنواع الزينة والتجمل والتصفيف.. إلى آخر هذا الاسترقاق المذل … من الذي يصنعه؟ ومن الذي يقف وراءه؟ تقف وراءه بيوت الأزياء، وتقف وراءه شركات الإنتاج ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك…»2(2) في ظلال القرآن 3/1219 ..

من أولى بوصف الجمود والرجعية؟!

والغريب العجيب أن هؤلاء المفتونين الذين يصبغون على المتمسکین بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم صبغة الرجعية والجمود – وما أكرمها من رجعية حيث يفتخر المسلم أن يكون الله له ربا، ويعتز بكونه له عبدا، مسلما لشريعته – هم في حقيقة الأمر مرتکسون في رجعية وثنية مقيتة كما سبق في حكاية سلفهم من قوم شعيب المشركين، الذين استنكروا على شعیب دعوته لهم إلى التوحيد، وترك ظلم الناس في أموالهم، واعتبروا ذلك تدخلا منه في حرياتهم الشخصية ، كما أن كثيرا منهم جامدون على أفكار الغرب التحررية التي نشأت في مواجهة الكنيسة الوثنية في العصور الوسطى، فنقلها المفتونون من بني جلدتنا، وجمدوا عليها. فمن هو أولى بالجمود والرجعية؟ الذين يرجعون إلى دعوة الرسل وتوحيد الله ، ونبذ الشرك والخرافة، والتمسك بشرع الله المبرء من النقص والجهل والهوى؟ أم الذين رجعوا إلى عقيدة الشرك والكفر بالله عز وجل، وجمدوا على الوثنية والجاهلية القديمة والمعاصرة؟.

  الليبرالية: رق وذل وعبودية لغير الله

2- ومن موازين الجاهلية للحرية والتحضر في عصرنا اليوم ما يطلقه بعض المفتونين على أنفسهم بأنهم ليبراليون، وكانوا من قبل يستخفون بها ويطرحونها على استحياء. ونقول لهؤلاء القوم: حددوا لنا معنى هذا المصطلح الذي تفخرون به وتتشرفون بالانتساب إليه.

فسيقولون لنا: إنها لفظة أجنبية تعني التحرر والانطلاق من كل قيد يقيد حرية الإنسان، ولو كان ذلك القيد هو شرع الله ودينه . حينئذ نقول لهم: إنكم بتحرركم من شريعة الله – والتي هي عقيدة وأحكام وسلوك – تكونون بذلك قد ارتكستم في العبودية، ووضعتم ربقة الرق الحقيقي في أعناقكم. وإن کنتم ترون أن هذه هي الحرية فأنتم مخادعون لأنفسكم مغالطون لغيركم؛ فإن ما أنتم فيه إن هو إلا الرق والذلة والعبودية الجاهلية، ورحم الله ابن القيم حيث قال:

هربوا من الرق الذي خلقوا له                    وبلوا برق النفس والشيطان»3(3) نونية ابن القيم ..

ومن موازين الجاهلية: العلاقات الجنسية غير الشرعية حرية وتحضر

3 – ومن موازين الجاهلية اليوم للحرية والتحضر: ما ينظر به الماديون اليوم من الكفار أو المنافقين أو المهزومين من المسلمين إلى التقدم المادي الذي يعيشه الغرب بأنه الحضارة والتقدم والرقي، دون اعتبار للدين والأخلاق، ومن سواهم من العالم – بما في ذلك المسلمين – رجعيون متخلفون.

يقول سيد قطب – رحمه الله تعالى -: «وفي المجتمعات الجاهلية ينحسر المفهوم الأخلاقي بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان ؛ ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية – ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة – رذيلة أخلاقية! إن المفهوم «الأخلاقي» ينحصر في المعاملات الشخصية، والاقتصادية، والسياسية – أحيانا في حدود مصلحة الدولة! – والكتاب والصحفيون والروائيون، وكل أجهزة التوجيه والإعلام في هذه المجتمعات الجاهلية تقولها صريحة للفتيات والزوجات والفتيان والشبان: إن الاتصالات الجنسية الحرة ليست رذائل أخلاقية !

مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة غير متحضرة من وجهة النظر «الإنسانية»، وبمقياس خط التقدم الإنساني .. وهي كذلك غير إسلامية ؛ لأن خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته …»4(4) في ظلال القرآن 3/1258 ..

ومن هنا يستطيع المسلم أن يربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الناس وأخلاقهم، والدعوة السافرة لهم إلى العري الجسدي – باسم الزينة والحضارة والموضة ! – وبين الخطة الصهيونية لتدمير إنسانيتهم، والتعجيل بانحلالهم ؛ ليسهل تعبيدهم لملك صهیون! ثم يربط بين هذا كله والخطة الموجهة للإجهاز على الجذور الباقية لهذا الدين في صورة عواطف غامضة في أعماق النفوس! فحتى هذه توجه لها معاول السحق، بتلك الحملة الفاجرة الداعرة إلى العري النفسي والبدني الذي تدعو إليه أقلام وأجهزة تعمل لشياطين اليهود في كل مكان والزينة «الإنسانية» هي زينة الستر، بينما الزينة «الحيوانية» هي زينة العري.. ولكن «الآدميين» في هذا الزمان يرتدون إلى رجعية جاهلية تردهم إلى عالم البهيمة، فلا يتذكرون نعمة الله بحفظ إنسانيتهم وصيانتها !»5(5) في ظلال القرآن 3/1279 ..

ما هي الحضارة؟!

ويقول الأستاذ محمد العبدة: «هل الحضارة هي الأثاث الفخم المكدس دون حاجة إليه؟ وهل هي الإكثار في ألوان الطعام والشراب؟ أو جمع التحف لتزيين الجدران والمكان؟ أم هي جمع الكتب التي لا تقرأ؟ هذا وأمثاله يمكن أن يسمى ترفا، أو من أمراض (ما بعد الحضارة)؛ وذلك عندما تتغلب النظرة الشيئية وتكدس منتجات حضارة أخرى؛ عندما تكدس السيارات الفارهة والهواتف النقالة، إنها حالة تعويض عن الشعور بالنقص، وليست هي الحضارة.

الحضارة هي تحقيق إنسانية الإنسان على أكمل الوجوه؛ أي تحقيق الغذاء الضروري للروح والجسم، تحقيق الهدف الذي من أجله خلق الإنسان: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، وإن ما نراه في التكالب على المتاع، والتفاخر، بالأشياء، وتحول الإنسان ليكون عبدا للدينار والدرهم فليس من الحضارة في شيء. إن من أكبر المؤشرات على الحضارة هو إنقاذ الإنسان من الأغلال ؛ أغلال الشر والأوهام والخرافات، وأن تسخر المخترعات الحديثة والتقنية الحديثة لصالح الإنسان، لا أن يكون عبدا لها ؛ فإن العمر طويل بالتدبير، قصير بالتبذير، ولو استعمل الإنسان أوقاته فيما ينبغي لقام بأعمال جليلة ، ولئن كان البخل بالمال رذيلة، فإن البخل بالعمر فضيلة، وربما لا يرضى الإنسان عمن يتعدى على ممتلكاته وربما يذهب ويشتكي، ولكن الذي يسلبه وقته فإنه يشكره على مسعاه !! وعندما ينشغل الإنسان بسفاسف الأمور فإنها تجره إلى منغصات الحياة، فيضيع عمره في الشقاء والبلاء .

والحضارة هي حين يتخلق الفرد بالأخلاق التي تؤدي إلى تماسك المجتمع، وحين نرى الأسرة تربي الأجيال القادمة على الصدق والإيثار، وعلى احترام وإنصاف الآخرين، وحين نصنع العدل كقيمة عليا، نكون قد خطونا خطوة أساسية في التوجه نحو (حضارة)»6(6) مقال (ما هي الحضارة). انظر موقع الإسلام اليوم  تاریخ 25/12/1428 ..

الهوامش

(1) في ظلال القرآن 4/1920 .

(2) في ظلال القرآن 3/1219 .

(3) نونية ابن القيم .

(4) في ظلال القرآن 3/1258 .

(5) في ظلال القرآن 3/1279 .

(6) مقال (ما هي الحضارة). انظر موقع الإسلام اليوم  تاریخ 25/12/1428 .

اقرأ أيضا

بين ميزان الله المستقيم وموازين البشر المعوجة

خصائص الميزان الإلهي

الميزان الإلهي للدنيا والآخرة

 

التعليقات غير متاحة