جاء الإسلام لينقل البشرية نقلة بعيدة، الى القمة الإنسانية والربانية؛ بالتعامل بقيم الإسلام وموازينه، وليقضي على قيم الجاهلية المرذولة والمهينة.

مقدمة

تتبدى قيم الإسلام في اللحظة الأولى من بداية هذه الدعوة ومن ميلاد هذه الأمة الكريمة، منذ أفرادها الأوائل ومنذ المواجهات الأولى التي عرضت فيها الجاهلية قيمها؛ فجاء الإسلام لا يهادن تلك القيم بل يحاربها ويقضي عليها ويرذّل منها ويعلن ويقرر القيم الربانية ويأمر بممارستها مهما كانت العوائق الاجتماعية بل ومهما كانت الكلفة الدعوية ومدى استنكار الجاهلية لها ومدى رفضها لها بل ومدى سخريتها منها. لكن هذا في النهاية وصل الى تقرير القيم في صورة نصوص وتوجيهات، ومحفوظة في صورة مباديء تمارَس، وفي صورة أفراد كرام يطبقونها وفي صورة أمة تزِن بموازين السماء وتسترذل قيم الجاهلية. إن هذا لفوز كبير للإنسان وللبشرية عموما أن ترى هذا في صورة عملية، وفوز للمسلم الذي اقتنص هذا الخير وعاشه وطبَّقه. وفي الآية التالية مثال ودروس..

يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 52].

أورد الإمام مسلم في «صحيحه» أثرًا في سبب نزول هذه الآية، فقد روى بسنده إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا..! قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل، وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله ما شاء أن يقع فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾.

وقد جاءت روايات أخرى في سبب النزول، لا تخرج عن السياق الذي رواه الإمام مسلم مع زيادات قليلة. (1مسلم (2413))

يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية:

“أي: لا تطرد عنك وعن مجالستك أهل العبادة والإخلاص ـ رغبة في مجالسة غيرهم ـ من الملازمين لدعاء ربهم دعاء العبادة بالذكر والصلاة ونحوها، ودعاء المسألة في أول النهار وآخره، وهم قاصدون بذلك وجه الله، ليس لهم من الأغراض سوى ذلك الغرض الجليل، فهؤلاء ليسوا مستحقين للطرد والإعراض، بل مستحقون لموالاتهم ومحبتهم وإدنائهم وتقريبهم لأنهم الصفوة من الخلق وإن كانوا فقراء، والأعزاء في الحقيقة وإن كانوا عند الناس أذلاء.

﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ﴾ أي: كل له حسابه، وله عمله الحسن وعمله القبيح. ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذا الأمر أشد امتثال، فكان إذا جالس الفقراء من المؤمنين صبَّر نفسه معهم، وأحسن معاملتهم، وأَلَانَ لهم جانبه، وحسَّن خُلقه وقرَّبهم منه، بل كانوا هم أكثر أهل مجلسه رضي الله عنهم. (2«تفسير السعدي» (ص257))

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية:

“لا تطرد هؤلاء الذين أخلصوا نفوسهم لله، فاتجهوا لعبادته ودعائه في الصباح والمساء يريدون وجهه.. سبحانه! ولا يبتغون إلا وجهه ورضاه.

وهي صورة للتجرد، والحب، والأدب؛ فإن الواحد منهم لا يتوجه إلا إلى الله وحده بالعبادة والدعاء. وهو لا يبغي وجه الله، إلا إذا تجرد. وهو لا يبغي وجه الله وحده حتى يكون قلبه قد أحب. وهو لا يفرد الله سبحانه بالدعاء ابتغاء وجهه إلا ويكون قد تعلم الأدب، وصار ربانيًّا يعيش لله وبالله..

ولقد تقوَّل أولئك الكُبَراء على هؤلاء الضِّعاف، الذين يخصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجلسه وبعنايته؛ وطعنوا فيهم وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف وما يسببه وجودهم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام.. فقضى الله سبحانه في هذه الدعوى بقضائه الفصل؛ ورد دعواهم من أساسها ودحضها دحضًا.

﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.. فإن حسابهم على أنفسهم، وحسابك على نفسك، وكونهم فقراء مقدَّرٌ عليهم في الرزق هذا حسابهم عند الله، لا شأن لك به، كذلك غناك وفقرك هو حسابك عند الله لا شأن لهم به، ولا دخل لهذه القيم في قضية الإيمان والمنزلة فيه، فإن أنت طردتهم من مجلسك بحساب الفقر والغنى كنت لا تَزِنُ بميزان الله، ولا تقوِّم بقيمه.. فكنت من الظالمين.. وحاشى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون من الظالمين..!

عندئذ نفر المستكبرون المستنكفون يقولون: كيف يمكن أن يختص الله من بيننا بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء؟ إنه لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقونا إليه؛ ولهدانا الله به قبل أن يهديهم..! فليس من المعقول أن يكون هؤلاء الضعاف الفقراء هم الذين يمنُّ الله عليهم من بيننا، ويتركنا ونحن أصحاب المقام والجاه..!

وكانت هذه هي الفتنة التي قدَّرها الله لهؤلاء المتعالين بالمال والنسب؛ والذين لم يدركوا طبيعة هذا الدين؛ وطبيعة الدنيا الجديدة التي يطلع بها على البشرية، مشرقة الآفاق، مًصعِدة بهذه البشرية إلى تلك القمة السامقة؛ التي كانت يوم ذاك غريبة على العرب وعلى الدنيا كلها، وما تزال غريبة فيما يسمونه الديموقراطيات على اختلاف أشكالها وأسمائها…

نحن في حاجة إلى وقفة طويلة أمام هذه النصوص.. والبشرية بجملتها في حاجة إلى هذه الوقفة كذلك.. إن هذه النصوص لا تمثل مجرد مبادئ وقيم ونظريات في (حقوق الإنسان!).. إنها أكبر من ذلك بكثير.. إنها تمثل شيئًا هائلًا تحقق في حياة البشرية فعلًا.. تمثل نقلة واسعة نقلها هذا الدين للبشرية بجملتها.. تمثل خطًّا وضيئًا على الأفُق بلغته هذه البشرية ذات يوم في حياتها الحقيقية..

هنا تتبدَّى الجاهلية بوجهها الكالح..! وقيمها الهزيلة، واعتباراتها الصغيرة.. عصبية النسب والجنس واعتبارات المال والطبقة، وما إلى ذلك من اعتبارات؛ هؤلاء بعضهم ليسوا من العرب! وبعضهم ليسوا من طبقة الأشراف! وبعضهم ليسوا من ذوي الثراء!.. ذات القيم التي تروج في كل جاهلية! والتي لا ترتفع عليها جاهليات الأرض اليوم في نعراتها القومية والجنسية والطبقية!

هذا هو سفح الجاهلية. وعلى القمة السامقة الإسلام..! الذي لا يقيم وزنًا لهذه القيم الهزيلة ولهذه الاعتبارات الصغيرة، ولهذه النعرات السخيفة..!

الإسلام الذي نزل من السماء ولم ينبت من الأرض، فالأرض كانت هي هذا السفح.. هذا السفح الذي لا يمكن أن يُنبت هذه النبتة الغريبة الجديدة الكريمة.. الإسلام الذي يأتمر به ـ أول من يأتمر ـ محمد صلى الله عليه وسلم، محمد رسول الله الذي يأتيه الوحي من السماء، والذي هو من قَبل في الذؤابة من بني هاشم في الذروة من قريش.

ويبقى الإسلام هناك على القمة.. حيث ارتسم الخط الوضيء الذي بلغته للبشرية.. يبقى الإسلام هناك رحمة مِن الله بالبشرية لعلها أن ترفع أقدامها من الوحل، وترفع عينيها عن الحمأة.. وتتطلع مرة أخرى إلى الخط الوضيء؛ وتسمع مرة أخرى حُداء هذا الدين؛ وتعرج مرة أخرى إلى القمة السامقة على حُداء الإسلام..». (3«في ظلال القرآن» (2/ 1101-1104)، باختصار)

الدروس المستفادة من هذه الآية

الحذر من أن تكون من الظالمين

ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تفسيره لهذه الآية: أن الرجل الصالح قد يصل إلى درجة الظالمين عندما يطرد الصالحين من مجلسه أو يؤذيهم. (4«تفسير آيات من القرآن الكريم»، للشيخ محمد بن عبد الوهاب (1/ 57) مسائل في تفسير سورة الأنعام)

ولهذا ينبغي للعالم وطالب العلم أن يرفق بالناس شبابًا وشيبًا عندما يسألون عن دينهم أو يستشيرون في دنياهم، والحذر المضني من العلماء وطلبة العلم أن يغلِّظوا عليهم أو ينهروهم أو يطردوهم، وقد يكون صاحب السؤال من أولياء الله الصالحين؛ فيكون طردهم أو نهرهم من الظلم والعدوان، قال الله عز وجل: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ [الضحى: 10].

رفعة ذكر الله وابتغاء وجهه

ففيه فضل الإكثار من ذكر الله تعالى وابتغاء وجهه، ولاسيما طرفي النهار، وأن ذلك من علامات الإيمان، ومن علامات محبة العبد لربه سبحانه.

العناية بالباحث عن الحق

الأولى بالدعوة والتعليم إنما هو المقبل الباحث عن الحق المنقاد له دون النظر إلى جنسه أو لونه أو غناه وفقره، وأما المُعرض عن الحق الكاره له؛ فلا ينبغي تضييع الوقت معه بعد قيام الحجة عليه بالبلاغ المبين، مهما كانت منزلته في قومه وغناه وجاهه طمعًا في إيمانه، وإيمان مَن وراءه من المتبوعين. وسنة الله عز وجل في أتباع الأنبياء والمصلحين أنهم من الضعفاء والفقراء والمتواضعين، وقليل منهم الوجهاء والأغنياء، قال الله عز وجل عن قوم نوح صلى الله عليه وسلم: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: 111].

فضل الجلوس مع الصالحين

وصبر النفس معهم، لاسيما الضعفاء منهم، لما في ذلك من تزكية للقلوب، وإخلاصها لله تعالى وبما في مجالسهم من ذكر لله عز وجل ودعائه، الأمر الذي ينعكس أثره على من يحضر هذه المجالس في ظاهره وباطنه، وعلى العكس من ذلك ما يكون من الآثار السيئة الناجمة عن حضور مجالس الشر والسوء وقول الباطل، المتكبرين على الحق الغافلة قلوبهم عن ذكره سبحانه، وما فيها من القسوة وفساد الحال، قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].

خاتمة .. موازين الإسلام الخاصة

في هذه الآية يرسم الله عز وجل لنا الميزان الحق للتكريم والمحبة، وأنه يقوم على أساس التقوى والإيمان؛ وميزان الإهانة كذلك..

فالتقي المؤمن هو المحبوب الكريم المرفوع عند الله عز وجل وعند المؤمنين دون النظر إلى جنسه أو لونه أو جاهه أو غناه وفقره، والمُهان المخفوض المبغوض هو المُعرض عن ربه المتكبر على شرعه، مهما كان غناه وجنسه وجاهه في الدنيا، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، وبذلك تسقط موازين الجاهلية في التكريم والإهانة، التي تقوم على أعراض هذه الدنيا وقيمها الهابطة فلا اعتبار للوطنية ولا القومية ولا الإنسانية في ميزان الله عز وجل إذا لم يكن أساسها الإيمان والتقوى.

فما أنقاه وأزكاه من ميزان، وما أخسَّ وأقبح موازينَ الجاهلية الملطخة بالطين والتراب..! والحمد لله الذي هدانا لميزانه الذي هو أقوم.

……………………………

الهوامش:

  1. مسلم (2413).
  2. «تفسير السعدي» (ص257).
  3. «في ظلال القرآن» (2/ 1101-1104)، باختصار.
  4. «تفسير آيات من القرآن الكريم»، للشيخ محمد بن عبد الوهاب (1/ 57) مسائل في تفسير سورة الأنعام.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة