بین میزان الله للحرية والتقدم والتحضر وبين موازين الجاهلية بونا عظيما، ومضادة كاملة ؛ ذلك ؛ لأن ميزان الله يصدر عن الله العليم الخبير الحكيم الرحيم، المنزه عن كل ظلم، ونقص وعيب، والذي يقوم على العبودية لله وحده، والحكم بما أنزل الله سبحانه من الشريعة الكاملة الشاملة التي كلها خير وصلاح للناس في معاشهم ومعادهم، كما يقوم على الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من الحساب والثواب والعقاب.

الحرية: حرية القلب وعبوديته، لا حرية البدن وعبوديته

1 – الحر في ميزان الله تعالى هو الذي تحرر من رق العبودية لغير الله تعالى، وأخلص عبوديته لله عز وجل. والرقيق هو من استعبده هواه، واستعبدته دنياه، واستعبده مخلوق مثله ؛ قال الله عز وجل: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) [الزمر: 29].

فهذا مثل ضربه الله لعبد حرره الله من عبوديات البشر وأخلص عبادته لله وحده، وآخر استعبده عدة شركاء من الخلق فأهدر حريته وكرامته.

يقول سيد قطب – رحمه الله تعالى – عند هذه الآية: «يضرب الله المثل  للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملکه شرکاء يخاصم بعضهم بعضا فيه ، وهو بينهم موزع، ولكل منهم فيه توجيه، ولكل منهم عليه تكليف، وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج ولا يستقيم على طريق، ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه! وعبد يملکه سید واحد، وهو يعلم ما يطلبه منه ويكلفه به، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صریح (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا)؟ إنهما لا يستويان؛ فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين، وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق، والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل، لا يستقر على حال، ولا يرضي واحدا منهم فضلا على أن يرضي الجميع! وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال؛ فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدی… لأنه يعرف مصدرا واحدا للحياة والقوة والرزق، ومصدرا واحدا للنفع والضر، ومصدرا واحدا للمنح والمنع، فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد؛ يستمد منه وحده، ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته، ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره، ويخدم سيدا واحدا يعرف ماذا يرضيه فيفعل وماذا يغضبه فيتقيه. وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد، فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض، متطلع إلى إله واحد في السماء ويعقب على هذا المثل الناطق الموحي بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة»1(1) في ظلال القرآن 5/3049 (باختصار)..

الحرية الحقيقية في ميزان الشرع هي حرية القلب

إن الحرية الحقيقية في ميزان الشرع هي حرية القلب، والعبودية الحقيقية هي عبودية القلب ؛ فمن أخلص عبوديته لله  وخلص من عبودية الخلق فهذا هو الحر حقيقة؛ وذلك لتحرر القلب من عبودية الخلق. والعكس من ذلك : من ترك عبادة الله  عز وجل، أو قصر فيها، فلا بد أن تسترق القلب عبودية المخلوق حسب ما تعلق به القلب من العبوديات لما سوى الله عز وجل، أما عبودية البدن أو حريته فليست هي الميزان الحقيقي للعبودية والحرية ؛ إذ قد يكون الإنسان مملوكا لإنسان آخر لكنه أخلص عبوديته لله عز وجل فصار بذلك حرا من عبودية ما سوی الله عز وجل، وقد يكون الإنسان سيدا ملكا لكنه في الحقيقة مسترق القلب، عبد لشهوته أو هواه أو زوجته أو منصبه أو جنوده وأتباعه. إذن فالمقصود بالحرية والعبودية هنا حرية القلب وعبوديته، لا حرية البدن وعبوديته.

يقول شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى -: (إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رق القلب وعبوديته؛ فما استرق القلب واستعبده فالقلب عبده، ولهذا يقال: العبد حر ما قنع، والحر عبد ما طمع … وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته، ورجائه لقضاء حاجته، ودفع ضرورته قویت عبوديته وحريته عما سواه ؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه … فإن أسر القلب أعظم من اسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي ما دام قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقا مستعبدا، متيما لغير الله فهذا هو الذل ، والأسر المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب؛ فالحرية حرية القلب ، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس2(2) البخاري (6446)، مسلم (1051).») 3(3) العبودية لشيخ الإسلام (32 – 38) باختصار ..

القلب المستعبد لله وحده هو القلب المتحرر من كل العبوديات

ويقول في موطن آخر: «وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو يهدوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرا لهم متصرفا بهم، فالناظر ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة – ولو كانت مباحة له – يبقى قلبه أسيرا لها ؛ تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لا سيما إذا درت بفقره إليها وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها ؛ فإنها تحكم فيه حينئذ حكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه»4(4) مجموع الفتاوی 10/185..

ويقول في موطن ثالث عن مستعبد القلب لغير الله تعالى: «فتارة تجذبه الصور المحرمة وغير المحرمة، فيبقى أسيرا عابدا لمن لو اتخذه هو عبدا له لكان ذلك نقصا وعيبا وذما .

وتارة يجذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة، ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق.

وتارة يستعبده الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب، والقلوب تهواها فيتخذ إلهه هواه، ويتبع هواه بغير هدى من الله .

ومن لم يكن مخلصا لله عبدا له قد صار قلبه مستعبدا لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون هو أحب إليه مما سواه، ويكون ذلیلا خاضعا له، وإلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوین إخوان الشياطين»5(5) مجموع الفتاوى 10/216 ..

في الدينونة لله وحده الحرية الحقيقية

ويقول سيد قطب – رحمه الله تعالى -: «إن الدينونة لله تعالی تحرر البشر من الدينونة لغيره، وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية وحريته الحقيقية، هذه الحرية وتلك الكرامة اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر غير النظام الإسلامي … والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في شر ألوان العبودية لغير الله في كل جانب من جوانب الحياة؛ إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط »6(6) في ظلال القرآن 4/1939 ..

ويقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري – رحمه الله تعالى – في تفسير (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة:5]: «بتحقيق العلم بمدلول وإياك نعبد وإياك نستعين ينجو الإنسان ويسلم من الرق المعنوي الذي هو أفظع وأنكى من كل رق حسي؛ لأن الرق الحسي يشعر به صاحبه ، فيتمنى انتهاءه، ويسعى لإزالته والتخلص منه حسب مجهوده ، ولكن الرق المعنوي لا يشعر به صاحبه، بل على العكس ينقلب تصوره له تحررا وتقدما ، فيتمادى باستحسان حاله، دون أن يخالجه أدنى شيء من الامتعاض والإحساس …

والمسلم المؤمن الصادق لا يرتبط في جميع أحوال سيره بعجلة أحد ولا تبعية أحد؛ لسلامته من الرق المعنوي بإخلاص مقاصده لله، وكونه مستعينا به فقط، فلا يخشى من أي قوة، ولا يستعين بكتلة على كتلة أخرى؛ حتى لا يصغي إلى ما تمليه .

وأصحاب الرق المعنوي يعادون الحر الذي على هذه الشاكلة بدافع من طبيعتهم السافلة، أو بإملاء من أسيادهم الذين يركنون إليهم، ولا سبيل لتطهير قلوبهم من ذلك إلا بما يحرر أرواحهم من القيام بتحقيق مدلول: (إياك نعبد وإياك نستعين) »7(7) صفوة الآثار والمفاهيم ..

الحضارة والتقدم في ميزان الله: إفراده بالعبادة والتشريع وإقامة الحياة على منهج الله

2-أما ميزان الله للحضارة والتقدم فإنه يتمثل بعمارة الأرض بعهد الله وميثاقه ؛ ألا وهو القيام بعبادة الله، وتوحيده، والحكم بشريعته ؛ حينئذ تصلح الأرض وتصلح البشرية، وتتحضر وتعمر الأرض وتتقدم صناعيا وزراعيا واجتماعيا في إطار قوله تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) [الأعراف: 56]، وفي ضوء قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ) [الأعراف: 26]، وقوله تعالى: (وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)[هود: 61]. وقد حذر الله عز وجل مشرکي قریش من أن يسيروا في طريق المشرکین الذين من قبلهم؛ حيث عمروا الأرض ماديا لكن ذلك لم ينفعهم، بل كان وبالا عليهم؛ لأنهم لم يعمروها على التوحيد والتقوى ؛ قال الله عز وجل: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [الروم: 9].

ولما اغتر قوم هود بقوتهم المتمثلة في أجسامهم وعمارتهم للأرض حذرهم نبيهم هود من ذلك بقوله: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَٰذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء: 128 – 140].

ومن خلال هذه الآيات وأمثالها تبين لنا أن الحضارة والتقدم ليسا في هذه الأشكال والصور المادية المقطوعة عن توحيد الله وعبادته وتقواه، وإنما الحضارة تقوم عندما يسود الإيمان بالله، وتسير حياة الناس شريعة الله عز وجل وموازينه.

المجتمع المتحضر يقوم على القيم والأخلاق الربانية

يقول سيد قطب – رحمه الله تعالى -: «وحين تكون القيم الإنسانية» كما هي في ميزان الله هي السائدة في مجتمع فإن هذا المجتمع يكون متحضرا متقدما.. أو بالاصطلاح الإسلامی: ربانیا مسلما. والقيم «الإنسانية» والأخلاق «الإنسانية» ليست مسألة غامضة ولا مائعة، وليست كذلك قيما وأخلاقا متغيرة لا تستقر على حال كما يزعم الذين يريدون أن يشيعوا الفوضى في الموازين، فلا يبقى هنالك أصل ثابت يرجع إليه في وزن ولا تقییم.. إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان خصائص «الإنسان» التي ينفرد بها دون الحيوان، وتغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويجعل منه إنسانا . وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه الجوانب المشتركة بينه وبين الحيوان .. وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم وثابت، لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها «التطوريون»! عندئذ لا تكون هناك أخلاق زراعية وأخرى صناعية، ولا أخلاق رأسمالية وأخرى اشتراكية، ولا أخلاق صعلوكية وأخرى برجوازية! لا تكون هناك أخلاق من صنع البيئة ومن مستوى المعيشة، على اعتبار أن هذه العوامل مستقلة في صنع القيم والأخلاق والاصطلاح عليها ، وحتمية في نشأتها وتقريرها.. إنما تكون هناك فقط قيم وأخلاق «إنسانية» يصطلح عليها المسلمون في المجتمع المتحضر، وقيم وأخلاق «حيوانية» – إذا صح التعبير – يصطلح عليها الناس في المجتمع المتخلف.. أو بالاصطلاح الإسلامي: تكون هناك قيم وأخلاق ربانية إسلامية ؛ وقيم وأخلاق رجعية جاهلية!

إن المجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة، مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمی»8(8) في ظلال القرآن 3/1258 ..

الهوامش

(1) في ظلال القرآن 5/3049 (باختصار).

(2) البخاري (6446)، مسلم (1051).

(3) العبودية لشيخ الإسلام (32 – 38) باختصار .

(4) مجموع الفتاوی 10/185.

(5) مجموع الفتاوى 10/216 .

(6) في ظلال القرآن 4/1939 .

(7) صفوة الآثار والمفاهيم .

(8) في ظلال القرآن 3/1258 .

اقرأ أيضا

ميزان الجاهلية للحرية والتقدم والتحضر

من هو الحر..؟ وما حقيقة الحرية..؟

التبعية وقبول الاستذلال .. وإبطان الاستكبار

أدواءٌ عرقلت أُمّة .. التبعية والغوغائية

 

التعليقات غير متاحة