كلما جاء رسول الى قومه بشريعة الله وهداية الوحي رأوْا أنفسهم على تقدم وحداثة، ونظروا الى الوحي على أنه تخلف ورجعية، وقالوا كلمتهم الشهيرة ﴿أساطير الأولين﴾.. فإلى أي مدى تصدق كلمة الرجعية..؟ وعلى أي الفريقين تحق..؟

حقيقة التهمة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.

من المصطلحات التي كان الشيوعيون والبعثيون القوميون في العقود السابقة يرمون بها المتمسكين بشريعة الإسلام مصطلح (الرجعية).

ويعنون بذلك الرجوع إلى الوراء بمئات السنين حيث نزل القرآن على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمن كان على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام فهو رجعي عندهم.

وما أكرمها وأجملها من رجعية ترفع الهام ونفتخر بها بين الناس فكفانا فخراً أن يكون الله عز وجل لنا رباً لا رب لنا سواه، وكفانا عزاً أن نكون له عبيداً.

وما أجمل قول الشاعر:

ومما زادني شرفـــاً وتيهــــاً      وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي     وأن صيرت أحمد لي نبــياً

ومع أن هذا المصطلح قد أكل عليه الدهر وشرب إلا أنه ما يزال يطرح للتنفير بين المتبعين للأثر ومنهج السلف الصالح وقد تستبدل أحياناً بمصطلحات أخرى منها الأصولية والراديكالية، وغيرها من المصطلحات الحادثة.

مصطلح الرجعية

ينبغي معرفة معنى اللفظ في اللغة، وفي المصطلح السياسي الحديث والاستعمال المعاصر.

في اللغة

اسم منسوب إلى رَجْعة. ومعناه: متمسك بالقديم، عكسه تقدُّمِيّ شخص (أو) فكرٌ رَجْعِيّ.

رجعيٌّ:  اتخذ موقفاً رجعياً: متخلفاً، أي مَن يتشبث بتقاليد بالية تحول دون التقدّم. هو رجعيّ في سلوكه.

في المصلطح السياسي الحديث

الرجعية بالإنجليزية (Reactionism):

مصطلح سياسي يقصد منه معارضة الإصلاحات الحديثة، والتمسك بالأسس والأساليب والمبادئ القديمة، في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي أصبحت بالية، ولا تحقق الأهداف القومية، وهى عكس الراديكالية و الليبرالية في النظام السياسى وعكس التنوير كثقافة.

استعمال المصطلح اليوم

يطرح المصطلح اليوم ممن يسمون أنفسهم بالعلمانيين أو الليبراليين أو الحداثيين وهذه المصطلحات التي يفرح بها أصحابها ويُسرّون بإطلاقها عليهم تحمل في ألفاظها معاني الحداثة والتحرر من كل قديم أو أي شيء يحد من حرية الإنسان سواء كان ذلك ديناً وشريعة، أو عادة، أو تقاليد؛ وهي عندهم تقابل الرجعية والأصولية.

المغرقون في الرجعية

وليس المقام هنا مقام نقد وهدم هذه المصطلحات والممارسات فهي تحمل في طياتها معاول هدمها، وبيان ذلك له مقام آخر.

وإنما المراد في هذه المقالة بيان أن هؤلاء القوم العاقّون المتمردون على دينهم ونبيهم وأمتهم، الذين يدّعون التحرر والتقدم والانعتاق من كل قديم، هم في الحقيقة غارقون في الرجعية الضاربة في أعماق التاريخ القديم.

ويا ليتها رجعية إلى ما كان علية الرسل الكرام من التوحيد والطريق المستقيم، وإنما هي رجعية إلى ما كان عليه أعداء الرسل وأقوامهم المشركون.

وبيان ذلك في قصة شعيب عليه السلام مع قومه، وذلك عندما دعاهم إلى التوحيد وعبادة الله وحده وأن لا يبخسوا الناس أشياءهم وأن لا ينقصوا المكيال والميزان، فما كان جواب قومه إلا أن: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾. (هود:87)

وقوم شعيب هؤلاء هم أصحاب الأيكة المذكورين في سورة الشعراء وذلك في قوله عز وجل: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾. (الشعراء:176-177)

فمرة يُنسبون إلى قبيلتهم (مدين) ومرة ينسبون إلى (الأيكة) وهي شجرة كبيرة في ديارهم.

والمقصود أن أصحاب الأيكة، قومَ شعيب، استنكروا على نبي الله عز وجل شعيب عليه السلام تدخله في شؤونهم التي يرون أنهم أحرار فيها فقالوا: مالك ولحريتنا الاعتقادية وما دخل دينك في اقتصادنا وتصرفنا في أموالنا فنحن أحرار نفعل فيها ما نشاء. ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء﴾. (هود87)

الله أكبر إنها والله نفس المقولة التي يقولها اليوم دعاة الليبرالية والعلمانية حذو القذة بالقذة ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ (الذاريات : 53).

وإنها والله لهي الرجعية المقيتة التي ينادي عليها العلمانيون والليبراليون في زماننا اليوم ومع ذلك يدّعون أنهم المتقدمون والمتحضرون في الوقت الذي يجترون ويقتاتون على أقوال سلفهم أصحاب الأيكة الغابرين..؟

[اقرأ المزيد عن: قاعدة الاسلام عبر الرسالات]

رؤية واحدة لأصحاب الأيكة

المتقدمين والمتأخرين

إن أصحاب الأيكة المعاصرين والأقدمين لا يدركون أوْ لا يريدون أن يدركوا أن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله عز وجل ونبذ ما يعبد من دون الله..

كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع الله في شئون الحياة كلها ومنها التجارة وتداول الأموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل.

فهي لُحمة واحدة لا يفترق الاعتقاد عن الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة، هذا معنى الإسلام والاستسلام لله عز وجل ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الانعام : 162-163).

إن أصحاب الأيكة المعاصرين الحاصلين على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم يتساءلون أوّلاً في استنكار: وما للإسلام وسلوكنا الشخصي..؟ وما للإسلام والسياسة..؟ وما للإسلام وزي المرأة في الطريق..؟ وما للإسلام وبناء الأسرة ونظامها..؟!

فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين ﴿أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ (هود:87) وهم يتساءلون ثانياً ـ بل ينكرون وبشدة وعنف ـ أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد.. فما للدين والمعاملات الربوية؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟

لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده. وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات الاقتصادية الغربية ـ النظرية الأخلاقية مثلا ًـ ويعدونها تخليطاً من أيام زمان!

أي الفريقين أحق بالرجعية؟

فلا يذهبن بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى ـ ونحن اليوم نرى خلفهم الرجعيين من العلمانيين والليبراليين الذين يدّعون العلم والمعرفة والحضارة، ويتهمون الذين يربطون بين العقيدة في الله، والسلوك الشخصي في الحياة، والمعاملات المادية في السوق.. بالرجعية والتعصب والجمود!!!

فأي الفريقين أحق بالرجعية الجاهلية لو كانوا يعلمون؟!.

ويحسن في هذا المقام أن نقف مع ذلك الليبرالي الذي يتبجح بالليبرالية ويعلنها وكان من قبل ذلك يستخفي بها ويطرحها على استحياء لنقول له:

حدِّد لنا معنى هذا المصطلح الذي تتشرف بالانتساب إليه؟!

فسيقول لنا إنها لفظة أجنبية تعني التحرر والانطلاق من كل قيد يقيد حرية الإنسان ولو كان ذلك القيد هو شرع الله عز وجل ودينه.

حينئذ نقول له إنك بتحررك من شريعة الله عز وجل ـ والتي هي عقيدة وأحكام وسلوك ـ تكون بذلك قد ارتكست في العبودية لهواك ووضعت ربقة الرّق الحقيقي في عنقك، وإن كنت ترى أن هذه هي الحرية فأنت مخادع لنفسك مغالط لغيرك حيث أن ما أنت فيه إن هو إلا الرّق والذلة والعبودية الجاهلية، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى عن أمثال هؤلاء الليبراليين:

هربوا من الرق الذي خلقوا له… وبُلوا برق النفس والشيطان (1)

التحرر الحقيقي

ولبيان التحرر الحقيقي ومعنى الحرية الحقيقية، يقول شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله تعالى:

من لم يكن مخلصاً لله عبداً قد صار قلبه مستعبداً لربه وحده لا شريك له بحيث يكون هو أحب إليه مما سواه ويكون ذليلاً خاضعاً له؛ وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين وكان من العادّين إخوان الشياطين(2)

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى :

إنه حين تكون الحاكمية العليا لله وحده في مجتمع ـ متمثلة في سيادة شريعته الربانية ـ تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحرراً حقيقياً كاملاً من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد.

وتكون هذه هي الصورة الوحيدة للإسلام أو للحضارة ـ كما هي في ميزان الله ـ لأن الحضارة التي يريدها الله للناس تقوم على قاعدة أساسية من الكرامة والتحرر لكل فرد. ولا كرامة ولا تحرر مع العبودية لعبد.. لا كرامة ولا تحرر في مجتمعٍ بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا؛ وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب!

والتشريع لا ينحصر في الأحكام القانونية. فالقيم والموازين والأخلاق والتقاليد.. كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه شاعرين أو غير شاعرين !..

ومجتمع هذه صفته هو مجتمع رجعي متخلف.(3)

[طالِع المزيد عن: طبيعة الاسلام شريعةً تحكم حياة الأمة]

ما زالوا بعيدين عن الحرية

إذن وبهذا يتضح لنا بجلاء أن الليبراليين الذين يتشدقون بنحلتهم هذه وينادون بالحرية ويطالبون بتحقيقها في المجتمعات، ثم هم ينشدونها في نظم جاهلية بعيدة عن المصدر الحقيقي للحرية وهي عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له، إنما هم ضالون مضلون صادّون عن سبيل الله عز وجل، إذ لا حرية حقيقية إلا في نقل الناس من عبادة غير الله عز وجل إلى عبادة الله وحده.

وبدون ذلك فهو الرق والاستعباد والذلة والشقاء مهما تشدق أصحاب هذه المطالب باسم حقوق الإنسان أو غيرها.

شهادة الواقع

والواقع المرير الذي تعيشه البشرية اليوم أكبر شاهد على ذلك؛ حيث تحولت البشرية اليوم إلى استعباد القويّ للضعيف والكبير للصغير، وذلك على مستوى الأفراد والطوائف والدول، ثم إذا نظرنا على حياة من أعرض عن عبادة الله عز وجل ودينه رأيناه مرتكساً في عبوديات مُذلّة؛ فهذا أصبح عبداً لشهوته، وهذا لمنصبه، وهذا لكبريائه، وهذا لماله.

واستبدلوا بعبادة الله عز وجل التي فيها العزة والكرامة والحرية عبادة بعضهم لبعض وعبادة الهوى حيث الذلة والمهانة والرق الحقيقي، وهذه هي الحرية والتحرر الذي يريده دعاة الليبرالية المعاصرون .

نسأل الله عز وجل أن يهديهم ويهدي ضال المسلمين والحمد لله رب العالمين.

……………………………………..

هوامش:

  1. نونية ابن القيم ص308
  2. العبودية:ص36
  3. في ظلال القرآن: 3/1257.

اقرأ المزيد:

  1. علاقة تحكيم الشريعة بأصل الإيمان

التعليقات غير متاحة