لا يبلغ مخلوقٌ أن يضر الله ولا ينفعه. والله هو الكريم، ومُلكُه لا يُحد، وعطاؤه لا ينقص من ملكه، وعدلُه قائم، وحجته قامت على خلقه؛ فالسعيد من أسعده ربه والشقي لا يلوم إلا نفسه.

مقدمة

هذه بقية كلمات النبوة في الحديث عظيم القدر، جليل المكانة، رفيع المنزلة:

«…يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك عندي إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز وجل. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».

لا ينفع الإنسان ولا يضر إلا نفسه

في النداء السادس يقول: «يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني»، فهذا النداء السادس يبين لنا الفارق بين رب العالمين، وبين العبيد، وهو أن العبيد لن يضروا الله شيئا؛ فمن كفر فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر اللهَ تبارك وتعالى شيئاً أبداً، ولو أراد أحدٌ أن ينفع الله تبارك وتعالى، فهل ينفع رب العالمين بشيء..؟! لا، لأنك أنت الفقير وأنت المحتاج إليه سبحانه وتعالى.

«يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني»، فلماذا إذاً يفكر العباد في أن يُعَادْوا ربهم، عز وجل، ويحاربوه، ويعاندوه ويستكبروا على دينه..؟! أيظنون أنهم يضرونه..؟ إنهم لا يضرون إلا أنفسهم؛ ولهذا يقول الله لهم: «لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني».

فلو أن أحداً ظن بعقله القاصر، وبذهنه الكليل أنه قد ينفع الله، فإنه لن ينفع الله تبارك وتعالى بشيء، فهو الغني الحميد، والعباد هم الفقراء إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (1كما أن الجملة لا مفهوم لها، فلا يبلغ مخلوق ضر الله تعالى، ولا يضره أحد)

لا يزيد ملكُه بالطاعة ولا ينقص بالمعصية

في النداء السابع أوضح الله، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ذلك وجلَّاه وبيَّنه فيما بعد، فقال: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً».

فسبحان الله..! لو أن هؤلاء جميعاً، الأولين والآخرين، الإنس والجن، كانوا على أتقى قلب رجل واحد ـ ولا أتقى من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَـ ما زاد ذلك في ملك الله تبارك وتعالى شيئاً أبداَ؛ فلا يزيد ملكُه بالطاعة، ولا ينقص بالمعصية.

ولهذا ففي النداء الثامن: «يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً».

فهو الغني عن الطاعة إن أطعنا، وهو الغني عن المعصية إن عصينا، وهو الذي لا تنفعه تلك الطاعة، ولا تضره هذه المعصية أبداً.

فإن نفْع الطاعة وفائدتها هي للعبد، لك أيها العبد العاجز الضعيف.

ومن تضر المعاصي..؟ تضرك أنت أيها العاصي، العبد العاجز الضعيف.

فإذا تدبر الإنسان هذه المعاني، وعلم ذلك، وعلم مقدار جنايته على نفسه حين يعصي ربه عز وجل، وعلم أنه فرّط في حق نفسه وفرّط في حق ربه، تبارك وتعالى، لما جاهره وحاربه وتنكَّب طريق هداه، فهو بهذا لن يضر إلا نفسه، وربه تبارك وتعالى غني عنه.

غنى الله المطلق لا ينقص بالعطاء

أما النداء التاسع فقد أخبر الله تبارك وتعالى فيه بما يدل على الغِنى المطلق الذي لا يحدُّه حدٌّ، والعطاء الواسع، فقال: «يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحد فسألوني، فأعطيت كل واحدٍ منهم مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أدخل البحر».

فلو وقف الناس جميعاً الأولون والآخرون، والثقلان الجن والإنس، في صعيد واحد في أرض منبسطةٍ ممتدةٍ واحدةٍ، وكل منهم سأل الله ما يشاء ودعاه كما يريد، وأعطاه الله تبارك وتعالى ما طلب، لم يُنقص ذلك المعطى للمخلوقين جميعاً من ملك الله، إلا كما يُنقص المِخْيَط إذا أدخل البحر، وكم يأخذ المِخْيَط من الماء بالنسبة إلى ذلك البحر..؟! هو كما قال عز وجل، كما في مسند الإمام أحمد: «عطائي كلام، وعذابي كلام» فعطاء الله تبارك وتعالى كلام، وعذابه كلام، أي: يقول للشيء: «كن فيكون»، فماذا ينقص من خزائن الله تبارك وتعالى، وهو الذي يقول للشيء: «كن فيكون»..! فمهما طلب العبد، ومهما رجا، ومهما ألحّ أو أكثر، فإن أُعطي له فإن ذلك لا ينقص من ملك الله الواسع العظيم أي شيءٍ على الإطلاق.

كما أنه لا يكون عِلم المخلوقين بالنسبة إلى علم الله، تبارك وتعالى، إلا كهذه النسبة، كما ضرب الخضر عليه السلام، لموسى عليه السلام ذلك حين قال: «ما مثل علمي وعلمك في علم الله إلا كمثل ما أخذ ذلك الطائر من البحر»، وكم أخذ من البحر..؟! فهذا هو العليم؛ “علمه” كذلك، و”ملكه” كذلك، و”غناه” كذلك.. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

إحصاء الله لأعمال عباده حتى يوفيها لهم

ثم يقول عز وجل: «يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله» فالفضل لله، لأنه هو الذي هداه وأنعم عليه، وغفر له واجتباه، ووفقه لطريق الخير.

ثم قال: «ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنّ إلا نفسه»، لأن الحجة قد قامت عليه، ولأن الإعذار قد أتاه، والنذير قد جاءه، وأياً كان هذا النذير، فقد جاءه النذير، وقد رأى الآيات البينات وما عصى إلا على بينةٍ وعلم: «فلا يلومن إلا نفسه».

فاللوم حينئذٍ يتوجه إلى ذلك العبد وإلى نفسه الأمّارة بالسوء، وليس إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس إلى المقادير، كما يفعل ذلك الكفار: ﴿قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ [المؤمنون:106]، فهذه العلل وهذه الأعذار لا تنفع حينها.

ولهذا قال من قال من السلف: والله لأجتهدن، ثم لأجتهدن، فإن كان الذي نرجو فالحمد لله، وإن كان غير ذلك، قلت: قد اجتهدت وقد فعلت، ولم ينفع ذلك، ولا نقول: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً﴾ [فاطر:37]، فكان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يعلمون هذه الحقيقة، ولهذا اجتهدوا وبذلوا جهدهم كله، واستفرغوا أوقاتهم وأعمالهم وطاقاتهم في رضى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي طاعته، وفي اجتناب معصيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فكانوا هم العباد حقاً.

خاتمة

فهذا الحديث قد سقناه، وشرحناه شرحاً موجزاً، راجين من الله، سبحانه وتعالى، أن يمنَّ علينا بالإيمان والتقوى. وبالتدبر لهذا الحديث ولأمثاله، مما خاطبنا الله تبارك وتعالى به في القرآن الكريم أو في السنة النبوية، وما خاطبنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذلك مما فيه حياة قلوبنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة، وفيه الخير والفلاح، لنا في هذه الحياة وفي الحياة التي نرجوها عند الله تبارك وتعالى.

………………………

هوامش:

  1. كما أن الجملة لا مفهوم لها، فلا يبلغ مخلوق ضر الله تعالى، ولا يضره أحد.

المصدر:

  • محاضرة مفرغة للدكتور/ سفر الحوالي بتصرف يسير، المصدر: المكتبة الشاملة.

اقرأ أيضا:

  • نداءات الله لعباده (1) .. فلا تظالموا ، فاستهدوني
  • نداءات الله لعباده(2) .. “فاستطعموني” “فاستكسوني” “فاستغفروني”
  • من قيم الإيمان

التعليقات غير متاحة