لا يستطيع مؤمّل أن يدعي خوف الآخرة وطلب الجنة؛ بل لوجود هذه الحقيقة في القلب آثار من العمل والرجاء والتزوّد للمعاد وأخذ الأهبة والاستعداد؛ فانظر في ثمرة يقينك.
متى يؤتِي اليقين ثمرته؟
إن في اليقين باليوم الآخر وأنبائه العظيمة لآثاراً واضحة وثماراً طيبة، لابد أن تظهر في قلب العبد وعلى لسانه وجوارحه، وفي حياته كلها.
ولكن هذا اليقين وحده لا يكفي حتى ينضم إليه الصبر ومجاهدة الشهوات والعوائق؛ لأن الواحد منا مع يقينه باليوم الآخر وأهواله يرى في حياته أن ثمرات هذا اليقين ضعيفة، فلا بد إذن من سبب لهذا الأمر، ويجلِّي هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول:
“فإن قلت كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غداً إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة، أو يكرمه أتم كرامة، ويبيت ساهياً غافلاً..! ولا يتذكر موقفه بين يدي الملك، ولا يستعد له، ولا يأخذ له أهبته..؟!
قيل: هذا ـ لعمر الله ـ سؤال صحيح واردٌ على أكثر الخلق؛ فاجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء.
وهذا التخلف له عدة أسباب:
أحدهما: ضعف العلم ونقصان اليقين.
ومن ظن أن العلم لا يتفاوت، فقوله من أفسد الأقوال وأبطلها. وقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه إحياء الموتى عياناً بعد علمه بقدرة الرب على ذلك، ليزداد طمأنينة، ويصير المعلوم غيباً شهادة.
وقد روى أحمد في مسنده عن النبي أنه قال: «ليس الخبر كالمعاينة». (1أحمد، ج1ص215، 271 وصحح إسناده أحمد شاكر (1842))
فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده، وانضم إلى ذلك تغاضي الطبع، وغلبات الهوى، واستيلاء الشهوة، وتسويل النفس، وغرور الشيطان، واستبطاء الوعد، وطول الأمل، ورقدة الغفلة، وحب العاجلة، ورخص التأويل، وإلف العوائد، فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرة في القلب.
وجماع هذه الأسباب يرجع إلى “ضعف البصيرة والصبر”. ولهذا مدح الله سبحانه أهل الصبر واليقين، وجعلهم أئمة الدين، فقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]) (2الجواب الكافي، ص 54)
الثمرات المرجوة لليقين
وبعد هذه المقدمة التي لا بد منها حول ثمرات اليقين بالنبأ العظيم نذكر ما تيسر من هذه الثمرات، والله ولي التوفيق:
الإخلاص لله عز وجل والمتابعة للرسول
إن الموقن بلقاء الله عز وجل يوم الفزع الأكبر، لا تلقاه إلا حريصاً على أعماله، خائفاً من كل ما يحبطها من أنواع الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر؛ حيث إن الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، فتصير هباءً منثوراً، والشرك الأصغر يحبط العمل الذي حصل فيه هذا النوع من الشرك؛ كيسير الرياء، والعجب، والمن، وطلب الجاه والشرف في الدنيا.
فكلما كان العبد موقناً بلقاء ربه كان منه الحرص الشديد على ألا تضيع منه أعماله الصالحة في موقف القيامة، يوم أن يكون في أشد الأوقات حاجة إليها؛ ولذلك فهو يجاهد نفسه بحماية أعماله في الدنيا بالإخلاص فيها لله تعالى لعل الله عز وجل أن ينفعه بها، كما أن اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل يجعل العبد في أعماله كلها متبعاً للرسول، صلى الله عليه وسلم، غيرَ مبتدع ولا مبدِّل؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً صواباً، قال تعالى: ﴿قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ [الكهف: 110].
الحذر من الدنيا والزهد فيها والصبر على شدائدها وطمأنينة القلب وسلامته
إذا أكثر العبد ذكر الآخرة، وكانت منه دائماً على بال، فإن الزهد في الدنيا والحذر منها ومن فتنتها سيحلان في القلب، وحينئذ لا يكترث بزهرتها، ولا يحزن على فواتها، ولا يمدن عينيه إلى ما متع الله به بعض عباده من نعم ليفتنهم فيها، وهذه الثمرة يتولد عنها بدورها ثمار أخرى مباركة طيبة منها: القناعة، وسلامة القلب من الحرص والحسد والغل والشحناء؛ لأن الذي يعيش بتفكيره في الآخرة وأنبائها العظيمة لا تهمه الدنيا الضيقة المحدودة. مع ملاحظة أن إيمان المسلم باليوم الآخر وزهده في الدنيا لا يعني انقطاعه عنها وعدم ابتغاء الرزق في أكنافها؛ يقول تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ﴾ [القصص: 77].
كما يتولد أيضا من هذا الشعور، الراحة النفسية والسعادة القلبية وقوة الاحتمال والصبر على الشدائد والابتلاءات، ذلك للرجاء فيما عند الله عز وجل من الأجر والثواب، وأنه مهما جاء من شدائد الدنيا فهي منقطعة ولها أجل، فهو ينتظر الفرج ويرجو الثواب الذي لا ينقطع يوم الرجوع إلى الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ﴾ [النساء: 104] وما إن يفقد القلب هذه المعاني حتى يخيم عليه الهم والتعاسة. ومن هنا ينشأ القلق والانزعاج والضيق والحزن.
أما ذاك الذي عرف الدنيا على حقيقتها، وامتلأ قلبه بهمّ الآخرة وأنبائها، فإن نفسه لا تذهب على الدنيا حسرات، ولا تنقطع نفسه لهثاً في طلبها، ولا يأكل قلبه الغل والحسد والتنافس فيها، ولا يقِلّ صبره ولا يجزع قلبه عند المحن والشدائد، ومهما حُرم في هذه الدنيا الفانية فهو يعلم أن لله عز وجل في ذلك الحكمة البالغة، وهو يرجو الأجر يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفا وَإن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 33- 35].
التزوّد بالأعمال الصالحة والقربات واجتناب المعاصي والمبادرة بالتوبة والاستغفار
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
“ومما ينبغي أن يُعلم أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور:
أحدهما: محبة ما يرجوه.
الثاني: خوفه من فواته.
الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان.
وأما رجاءٌ لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني. والرجاء شيء والأماني شيء آخر؛ فكل راجٍ خائف، والسائرعلى الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات.
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة». (3رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 18 الحديث رقم 2450 وانظر صحيح سنن الترمذي (1993))
وهو سبحانه كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة، فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال الصالحة، فعُلم أن الرجاء والخوف النافع ما اقترن به العمل، قال تعالى: ﴿إنَّ الَذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 57- 61].
وقد روى الترمذي في جامعه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن هذه الآية، فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ قال: «لا، يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لايتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات». (4رواه أحمد، ج6ص159، والترمذي (كتاب التفسير) باب تفسير سورة المؤمنون، ح 3175) وقد روي من حديث أبي هريرة أيضاً.
والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن”. (5الجواب الكافي، ص 57، 58)
وقال تعالى: ﴿إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 218]. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
“فتأمل كيف جعل رجاءهم إتيانهم بهذه الطاعات؟ وقال المغرورون: إن المفرطين المضيعين لحقوق الله المعطلين لأوامره الباغين المتجرئين على محارمه، أولئك يرجون رحمة الله”. (6الجواب الكافي، ص 56)
خاتمة
كم من الخير يسوقه الإيمان بلقاء الله، وكم من راحة يجدها طالب الآخرة، وكم يجد من نفسه قوة وعزما مجتمعا على غايته التي لا يسمح لغيرها من المطالب الصغيرة أن تعطلها؛ وعندئذ يتفجر الخير في النفس وتتولد الحساسية في الضمير والحرص على الوقت والعمل المنضبط للآخرة وعدم المنافسة على الدنيا ولا الأسف على فواتها..
ذلك خير عظيم لمن رزقه الله اليقين والمعايشة. والله تعالى بيده الخير.
……………………………
الهوامش:
- أحمد، ج1ص215، 271 وصحح إسناده أحمد شاكر (1842).
- الجواب الكافي، ص 54.
- رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 18 الحديث رقم 2450 وانظر صحيح سنن الترمذي (1993).
- رواه أحمد، ج6ص159، والترمذي (كتاب التفسير) باب تفسير سورة المؤمنون، ح 3175.
- الجواب الكافي، ص 57، 58.
- الجواب الكافي، ص 56.