إصلاح السرائر يترتب عليها استقامة الأقوال والأعمال. ولها وسائل يجب على العبد أن يتخذها استصلاحا لحاله وسريرته.

صِدق الطلب

إن الله عز وجل بفضله ورحمته إذا علم من عبده الصدق في طلبه وحرصه على إصلاح سريرته وتنقيتها من الشوائب، وفقه سبحانه وتعالى إلى الوسائل التي تصلح بها القلوب والسرائر، وأعانه على الأخذ بها، ومن أهم هذه الوسائل ما يلي:

وسائل استصلاح السرائر

الوسيلة الأولى: الدعاء

دعاء الله عز وجل والتضرع بين يديه في أوقات الإجابة لإصلاح السريرة وتنقية القلب من مفسداته. وهذه الوسيلة من أعظم وسائل إصلاح السرائر، حيث لا يملك القلوب وتثبيتها وإصلاح فسادها إلا الله عز وجل؛ فهو سبحانه وتعالى مقلّب القلوب ومصرّفها، وهو المتفضل بالإيمان واليقين وزيادتهما؛ فالمتعين على المؤمن التوجه إلى الله عز وجل وحده، وسؤاله ذلك منه وحده، فلا مثبت إلا مَن ثبته الله، ولا محفوظ إلا من حفظه الله، ولا موفق إلا من وفقه الله، والمخذول من خذله الله.

يقول مطرف بن عبدالله بن الشخير رحمه الله تعالى: تذاكرت ما جماع الخير. فإذا الخير كثير: الصيام والصلاة، وإذا هو في يد الله عز وجل، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد الله، إلا أن تسأله فيعطيك، فإذا جماع الخير في الدعاء”. (1الإبانة، لابن بطة: (2/ 195))

وهذا هو هدي نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، أكمل البشر إيمانا وهدى وصلاحا، وهو رسول الهداية والنور، ومع ذلك كان كثيرا ما يدعو بطلب الهداية والسداد، وتثبيت القلوب وسلامتها وإصلاحها وتطهيرها من أدناسها، وهكذا شأن أتباعه والمحبين له ولسنته صلى الله عليه وسلم.

الوسيلة الثانية: العلم بأسماء الله عز وجل وصفاته

معرفة الله عز وجل وتعظيمه وإجلاله ومحبته بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ ولا سيما أسماءه سبحانه وتعالى «السميع، البصير، الرقيب، الشهيد، العظيم، الكبير، الخبير، اللطيف، الرحيم، العزيز، الرحمن، الرحيم، الظاهر، الباطن، الغني، الكريم»، والتي تثمر في القلب الخشية والخوف والرجاء، والمحبة والتعظيم والإجلال، والتوكل والتسليم لأوامره سبحانه وتعالى .

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه إذا أراد أن يكرم عبده بمعرفته وجمع قلبه على محبته، شرح صدره لقبول صفاته العلى وتلقيها من مشكاة الوحي، فإذا ورد عليه شيء منها قابله بالقبول، وتلقاه بالرضا والتسليم، وأذعن له بالانقياد، فاستنار به قلبه، واتسع له صدره، وامتلأ به سرورا ومحبة..

وليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبته وذِكره والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه والزلفي عنده، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه؛ فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف، وله أطلب وإليه أقرب، وكلما كان لها أنكر كان بالله أجهل، وإليه أكره ومنه أبعد”. (2الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية: (ص 16-18))

ويقول العز بن عبدالسلام:

“فهْمُ معاني أسماء الله تتعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء والمهابة والمحبة والتوكل، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات”. (3شجرة المعارف: (ص 1))

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى:

“إن الإيمان بأسماء الله الحسنى ومعرفتها يتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحید الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وهذه الأنواع هي روح الإيمان وروحه، وأصْله وغايته؛ فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه وقوي يقينه”. (4التوضيح والبيان لشجرة الإيمان (باختصار): (ص 41))

الوسيلة الثالثة: قصر الأمل والزهد في الدنيا

قِصَر الأمل، والزهد في الدنيا، والتذكر الدائم للموت ولليوم الآخر، والاستعداد للقاء الله عز وجل، ذلك لأن من أعظم ما يكدّر القلوب ويفسد على السرائر الركون إلى الدنيا، والغفلة عن الآخرة؛ لأن القلب عندما يمتلأ بحب الدنيا وإيثارها على الآخرة لا تجد المواعظ إليه سبيلا، بل تتوارد عليه الآفات والأمراض حتى تكدره، ويصبح مظلما، لا يعرف معروفا، لا ينكر منكرا، إلا ما أُشْرب من هواه. قد أصبحت الدنيا همَّه، يَحسد عليها، ويحقد، ويشح ويبخل، ويحب ويبغض، ويفرح ويحزن من أجلها.. وكفى بذلك مرضا وهلاكا للقلب وإفسادا للسريرة.

والعكس من ذلك حينما يمتليء القلب بذكر الموت وما بعده من أمور الآخرة، ويتجافي عن الدنيا وزينتها الفانية، فإن القلب يصفو ويستنير، والسريرة تصلح، وتثمر لصاحبها الثمار اليانعة في الدنيا والآخرة.

ولكن كيف يتم للعبد زهده في الدنيا وإقباله على الآخرة..؟

يجيب الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على ذلك، فيقول:

“لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:

النظر الأول: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخسّتها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالِبُها لا ينفكُّ من هَمٍّ قبل حصولها، وهمّ في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها. فهذا أحد النظرين.

النظر الثاني: في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها، وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمَسَرّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما هاهنا، فهي كما قال تعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى:18]، فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة ومضمحلة. فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره وزهد فيما يقتضي الزهد فيه”. (5الفوائد: (ص 177))

الوسيلة الرابعة: مجالسة الصالحين

مجالسة الصالحين أصحاب السرائر الصالحة، والبُعد عن أهل الدنيا وأصحاب القلوب المريضة.

روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «لولا ثلاث لما أحببت البقاء: لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام کما ينتقي أطايب الثمر». (6مدارج السالكين: (1/ 449))

وقال أيضا: «اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم تَجلَّى لهم أمور صادقة، وذلك لقرب قلوبهم من الله». (7المرجع السابق)

ومن أنفع المجالس وأصلحها مجالس أهل العلم والتّقى. لأنه بالعلم الذي لديهم تحرق الشبهات، وبالتقوى والورع وحسن السريرة تحرق الشهوات، وترى فيهم القدوات في خوفهم من الله تعالى، وتعظيمهم له سبحانه ولأوامره ونواهيه، فإذا زالت الشبهات بالعلم، والشهوات بالتقوی صلحت السرائر والقلوب.

ومن علامة توفيق الله عز وجل للعبد أن يرزقه أصحابا صالحين، تذكّر رؤيتهم اللهَ. ولا يتم الانتفاع بمجالسة الصالحين إلا بمفارقة أصحاب السوء وأصحاب السرائر الفاسدة واعتزالهم، والحذر من كلامهم وكتاباتهم، التي تملأ القلوب بالشبهات والشهوات، ويدخل في ذلك الإكثار من قراءة سير الصالحين الأتقياء والحرص على الاقتداء واللحاق بهم.

الوسيلة الخامسة: الإكثار من ذكر الله عز وجل، والأعمال الصالحة، وترك المعاصي

وعَد الله سبحانه وتعالى عباده الذين يتقرَّبون إليه بفعل ما يؤمرون به، وترك ما ينهون عنه، بالتثبيت والاستقامة على الصراط المستقيم، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾. [النساء: 66-68].

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية:

“فالخلق كلهم قسمان: موفَّق بالتثبيت ومخذول بترك التثبيت، ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أمر به العبد، فبها يثبت الله عبده. فكل ما كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا. قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾، فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا، والقول الثابت هو القول الحق والصدق”. (8بدائع التفسير: (1/ 17))

وأفضل الذكر قراءة القرآن وتدبره، حيث إن في ذلك حياة القلوب وصلاحها واطمئنانها.

ومن أسباب صلاح السريرة البعد عن الذنوب والمعاصي، لأن من عقوبات الذنوب مرض القلب وتكدره وفساده، لا سيما إذا تراكمت عليه الذنوب، وحصل الإصرار عليها.

الوسيلة السادسة: محاسبة النفس

قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر:18].

وقال الرسول صلى الله عليه: «الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله عز وجل«. (9الترمذي، باب الكَيْس من دان نفسه، وحسنه الترمذي)

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسكم قبل أن توزَنوا، فإنه أهون علیکم في الحساب غدا أن تحاسِبوا أنفسكم اليوم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾». (10محاسبة النفس، لابن أبي الدنيا: (ص 35))

وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: “إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة مِن هِمّته”. (11نفس المصدر)

وفي ضوء هذه النصوص والآثار يتبين لنا أهمية محاسبة النفس، وأثر ذلك في إصلاح الأحوال والقلوب، والتخلص من آفاتها ومما يفسدها. كما يتبين لنا أن فساد السريرة إنما يحصل بترك المحاسبة والاسترسال مع النفس وهواها.

الوسيلة السابعة: الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله

إن في ممارسة الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة لَتزكيةً للنفوس ومحاسبتها وتفقدها، حتى لا تقع في التناقض والاضطراب..

ذلك أن الداعية إلى الله لا بد وهو يدعو الناس إلى الخير ويناهم عن الشر يبدأ بنفسه وإصلاحها، حتى لا يكون من الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهذا باب من أبواب النفاق، وبذلك يسعى الداعية لإصلاح باطنِه، ليكون متوافقا مع ظاهره، وفي هذا إصلاح للسريرة.

سريرة المجاهدين

وكذلك الحال في الجهاد في سبيل الله عز وجل.. فصلاح السرائر فيه أعظم وأكثر؛ إذ إن المجاهد قد عقد العزم على بيع نفسه لله، ولا يصح البيع إلا بنقاء السريرة وإخلاص الجهاد لله عز وجل، ففي الجهاد تربية على الإخلاص، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، واليقين وصدق التوكل على الله عز وجل، والخوف منه وحده.. وهذه كلها من مقومات وموجبات السريرة الصالحة. ولا تبلغ هذا الأعمال القلبية ذروتها في النفس إلا في ذروة سنام هذا الدين، ألا وهو الجهاد في سبيل الله عز وجل.

………………………..

الهوامش:

  1. الإبانة، لابن بطة: (2/ 195).
  2. الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية: (ص 16-18).
  3. شجرة المعارف: (ص 1).
  4. التوضيح والبيان لشجرة الإيمان (باختصار): (ص 41).
  5. الفوائد: (ص 177).
  6. مدارج السالكين: (1/ 449).
  7. المرجع السابق.
  8. بدائع التفسير: (1/ 17).
  9. الترمذي، باب الكيس من دان نفسه، وحسنه الترمذي.
  10. محاسبة النفس، لابن أبي الدنيا: (ص 35).
  11. نفس المصدر.

المصدر:

  • فضيلة الشيخ/ عبد العزيز الجُليّل، كتاب “يوم تبلى السرائر” ، ص193-227.بتصرف يسير.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة