بين المبالغة في الوقوف على عيوب الخلق وتصيّدها وإشهارها وترك أضعافها من الخير، وبين التقليد الأعمى وإعطاء العصمة بلسان الحال؛ يوجد منهج العدل الرباني القويم.

سِمةٌ كريمة

هذه السمة الكريمة يعز وجودها في أكثر الناس اليوم، وهي من أبرز صفات أهل القلوب السليمة والسرائر الصالحة، حيث إنه لا يوجد مَن هذه صفته إلا وهو من المعظِمين لله تعالى في قلوبهم الخائفين منه المطيعين له في السراء والضراء على أنفسهم وعلى عباد الله عز وجل.

وصاحب القلب السليم، والسريرة الصالحة المخلص لله تعالى لا يرى إلا عادلا منصفا، لا يبخس الناس حقوقهم ولا يجور عليهم، ولا ينسی خيرهم وبلاءهم، يتثبت في الأخبار، ولا يسارع بنقل الشائعات، يحب الخير للمسلمين، وينصف من نفسه ولا يكيل بمكيالين، رائده الحق يدور معه حيث دار.

من مظاهر العدل والإنصاف

ومن مظاهر العدل والإنصاف التي تدل على صلاح السريرة:

أولا: عدم قبول الأخبار والشائعات دون تثبت

يقول الله عز وجل: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]، وفي تفسير هذه الآية يقول الإمام ابن کثیر رحمه الله تعالى:

“قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول: لا تقل. وقال العوفي عنه: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم. وقال محمد ابن الحنفية: يعني شهادة الزور. وقال قتادة: لا تقل: رأيت، ولم تر، وسمعت، ولم تسمع، وعلمت، ولم تعلم، فإن الله سائلك عن ذلك كله.

ومضمون ما ذكروه: أن الله تعالی نهی عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12]. (1تفسير ابن كثير: (3/ 39))

من لوازم التثبت في الأخبار

والتثبت من الأخبار والأقوال يعني التثبت من الأمور الآتية:

* التثبت من الخبر المنقول فقد يكون كذبا وافتراءًا.

* وقد يكون الخبر صحيحا، ولكن له ملابسات وظروف لم يذكرها الناقل، وبعد التثبت وتبين هذه الملابسات قد يظهر عذرا لأصحابها.

* وقد يكون الخبر بعد التثبت صحيحا، وأنه لا عذر لأصحابه فيه، ولكن يظهر من التثبت أنه موقف خاص له ظروفه، وليس موقفا عاما ومنهجا مطردا، وإذا كان صاحب الخطأ عالي الهمة في العلم والدعوة والجهاد، احتُملت له الهنات، وانغمر خطؤه في بحر حسناته.

والمقصود أن من لوازم العدل الذي هو من علامات الإخلاص لله عز وجل أن يتثبت فيها بقوله وبنقله من الأخبار والأحكام، حتى لا يقع في ظلم العباد. ورحم الله الإمام ابن تيمية، حيث يقول:

“والله يحب الكلام بعلم، وعدل ويكره الكلام بجهل و ظلم”. (2مجموع الفتاوی: (16/ 96))

ثانيا: العدل في نقد المواقف الخاطئة

لا عصمة لبني البشر إلا للرسل عليهم الصلاة والسلام، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء». الحديث (3 الترمذي: (2499)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (2029))

وتكثر الأخطاء حينما يكون هناك عمل ونشاط، وبخاصة في ميادين الدعوة وكثرة النوازل والمفاجآت، والحاجة فيها إلى قرارات ومواقف سريعة. وحينئذ لا بد لأهل الدعوة المباشِرين له، والداعمين والمحبين له أن يقدروا هذه الظروف، وأن يحْذروا العدوان في معالجة ونقد الأخطاء، وأن يجعلوا من سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، والسلف الصالح قدوة صالحة في العدل والإنصاف.

مواقف الناس من نقد الأخطاء

والناس في موقفهم من الأخطاء ونقدهم لها ولأصحابها طرفان جائران ووسط عدل. وذلك حسب ما ينطوي عليه القلب من صلاح أو فساد.

الطرف الأول: المبالغون في الوقوف على المعايب

أهل الغلو والإفراط؛ وهم الذين أفرطوا في نقد الأخطاء وأصحابها، حتى جعلوا من الفروع أصولا، ومن بعض الجزئیات کلیات، وجعلوا همَّهم تصيد الأخطاء، والفرح بها وتضخيمها، ولم يرحموا من وقع فيها من المجاهدين وطلاب العلم، بل جاروا عليهم في ذلك حتى أساءوا الظن بهم، وبنواياهم، ومقاصدهم، وبخسوهم حقهم، وأهدروا حسناتهم وما لهم من بلاء وجهاد ودعوة وعلم وعمل وتعليم.

ولا يخفى ما في هذا الموقف من عدوان، ومجانبة للعدل والإنصاف. وفي أمثال هؤلاء يقول الشَّعبْي، رحمه الله تعالى: «والله لو أصبت تسعا وتسعين مرة، وأخطأت واحدة، لأخذوا الواحدة وتركوا التسع والتسعين». (4حلية الأولياء: (4/ 320-312))

ولو أن هؤلاء المنتقدين حاسبوا أنفسهم، وسألوها حينما يخطئون: هل يودون أن يعاملهم إخوانهم بهذا المنهج الجائر، كما يعاملون غيرهم لكان في ذلك سبب لمراجعة أنفسهم، واكتشافهم لهذا المنهج الخاطئ في نقد الرجال ومعالجة الأخطاء.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى:

“فليس من شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورا لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقا، بل ولا من شروطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة. وقد قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: 33-35]. فقد وصفهم الله بأنهم متقون. و(المتقون) هم أولياء الله. ومع هذا فأخبر أنه يكفّر عنهم أسوء الذي عملوا. وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان”. (5مجموع الفتاوی: (11/ 66-67))

ويعلق الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، على قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8]؛ فيقول:

“فإذا كان قد نهى عباده أن يحْملهم بغضُهم لأعدائه أن لا يعدلوا عليهم مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله، فكيف يسوغ لمن يدعي الإيمان أن يحمله بغضه لطائفة منتسبة إلى الرسول تصيب وتخطئ على أن لا يعدل فيهم، بل يجرد لهم العداوة وأنواع الأذى..؟! ولعله لا يدري أنهم أولى بالله ورسوله وما جاء به منه علما وعملا، ودعوة إلى الله على بصيرة، وصبرا من قومهم على الأذى في الله، وإقامة الحجة لله ومعذرة لمن خالفهم بالجهل”. (6بدائع التفسير: (2/ 105))

وكما يحب المرء في الناس أن يعدلوا معه، فكذلك الناس يحبون أن يعدل معهم في تناول عيوبهم.

وأسوق بهذه المناسبة تلك المحاورة النافعة التي بين فيها “المسور بين مخرمة” لـ “معاوية ابن أبي سفيان” رضي الله عنه بعض عيوبه، وماذا رد عليه معاوية في ذلك، لتكون منهجا في معالجة أخطائنا.

عن عقيل، ومعمر، عن الزهري، حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفَد على معاوية، فقضى حاجته، ثم خلا به، فقال: یا مسور! ما فعل طعنك على الأئمة..؟ قال: دعنا من هذا وأحسن. قال: لا والله، لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب عليّ. قال مسور: فلم أترك شيئا أعيبه عليه إلا بينت له. فقال: لا أبرأ من الذنب. فهل تعد لنا یا مسور ما نلی من الإصلاح في أمر العامة، فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب، وتترك الإحسان..؟ قال: ما تذكر إلا الذنوب. قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تغفر..؟ قال: نعم. قال: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني، فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أخيَّر بين أمرين: بين الله وبين غيره، إلا اخترت الله على ما سواه، وإني لَعلَى دين يُقبل فيه العمل، ويُجزى فيه بالحسنات، ويُجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها، قال: فخصمني. قال عروة: فلم أسمع المسور ذکر معاوية إلا صلى عليه. (7سير أعلام النبلاء: (3/ 150))

الطرف الثاني: من يعطي العصمة بلسان الحال

وهم أهل التفريط والإضاعة؛ وهؤلاء وإن كانوا قد فرطوا في الأخذ بالحق ورد الباطل، ووقعوا في التقليد الأعمى، إلا إنهم وقعوا في المقابل في الغلو في الرجال، والتعصب لأخطائهم، ولسان حالهم يقول بالعصمة لمن قلدوهم.

ولذا ترى الواحد منهم يزعجه، ويكدر خاطره إذا قيل إن شيخه وأستاذه مخطئ في بعض ما ذهب إليه من قول أو عمل، ويدفعه تعصبه لشيخه وغلوه في محبته له وتأدبه معه إلى تصحيح كل ما يقول أو يفعل، مبررة ذلك بمبررات سامجة متكلفة.

يقول ابن القيم، رحمه الله تعالى، في وصف أهل الطرفين السابقين بعد أن ذكر فضل أئمة الإسلام:

“..وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يوجب قبول كل ما قالوه. وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم ما جاء به الرسول، صلى الله عليه وسلم، فقالوا بمبلغ علمهم ـ والحق في خلافها ـ لا يوجب اطراح أقوالهم جملة، وتنَقّصهم والوقيعة فيهم؛ فهذان طرفان جائران عن القصد. وقصد السبيل بينهما؛ فلا نؤثّم ولا نعصّم، ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في علي رضي الله عنه ولا مسلكهم في الشيخين رضي الله عنهما”. (8أعلام الموقعين: (3/ 358))

موقف العدل الذي أمر الله به

وهو الموقف العدل والوسط المتوازن؛ وهؤلاء هم أهل السرائر الصالحة، وهم الذين ذكرهم ابن القيم، رحمه الله تعالى، حيث قال عنهم:

“وهم أهل العدل والإنصاف، الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يُقبل، وردوا ما يُردّ. (9مدارج السالكين: (2/ 224))

أي أنهم لم يقعوا فيما وقع فيه أهل الغلو والإفراط المضخمين للأخطاء، المُهدِرین لحق من وقع منه الخطأ، والمُهدِرین لحسناتهم، المتهِمين لنياتهم، بل حفظوا لهم حقوقهم، ولم ينسوا لهم بلاءهم وجهادهم وحسناتهم، ووضعوا أخطاءهم في حجمها الذي تستحقه، ووازنوا بين حسناتهم وسيئاتهم.

وفي المقابل لم يذهبوا إلى تقديس الأشخاص، وادعاء العصمة لهم ـ سواء بلسان المقال أو الحال ـ بل نظروا للمخطئين بأنهم غير معصومين، ولم يدفعهم حبهم وأدبهم مع شيوخهم إلى تقليدهم في كل ما يقولونه، أو أن يسحبوا ذيل الحسن على كل ما يفعلونه.

استغلال الطغاة

يستغل الطغاة اليوم الخلل في هذا المنهج؛ حين يجدون أشخاصا متعصبين مقدسين لمتبعيهم؛ فيسلط الضوء عليهم كمقلدين تقليدا أعمى، وإذا أسقطوا متبوعهم فتنهم.

أو يجد المبالغين في انتقاد العيوب والأخطاء المُغفلين للخير وسوابق العمل فيوقفهم على هنات ليُسقط بها مشروعا كبيرا للخير أو طريقا للإصلاح والتغيير

ومن هنا كان التنبيه على هذه المآخذ توصيةً بالتزام المنهج الذي أمر الله به من العدل والإنصاف، مع إصلاح السرائر لتستجيب لهذا المنهج الرباني القويم.

……………………..

الهوامش:

  1. تفسير ابن كثير: (3/ 39).
  2. مجموع الفتاوی: (16/ 96).
  3. الترمذي: (2499)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (2029).
  4. حلية الأولياء: (4/ 320-312).
  5. مجموع الفتاوی: (11/66-67).
  6. بدائع التفسير: (2/ 105).
  7. سير أعلام النبلاء: (3/ 150).
  8. أعلام الموقعين: (3/ 358).
  9. مدارج السالكين: (2/ 224).

المصدر:

  • فضيلة الشيخ/ عبد العزيز الجُليّل، كتاب “يوم تبلى السرائر” ، ص141-151.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة